الحزن الكربلائي.. نشيد الشيعة بين الديني والسياسي

بواسطة | أحمد الدريني وأحمد محمد حسن
2005/04/09
على أوتار النغم الحزين يعزف الشيعة أنشودتهم، يتغنى بها التاريخ وكأنها صدى يأتي من واد عميق يصرخ بمعاني الألم ليتبدد في الهواء بهمسات تحمل من الشجون والجروح ما لم يندمل إلى الآن، فما زالت كل أرض -عند الشيعة- هي كربلاء وكل يوم هو عاشوراء، فلم ينظر الشيعة إلى آل البيت –رضي الله عنهم– إلا من منظار المظلومية والقهر، وهو ما كان على حساب كافة الجوانب الأخرى في حياة آل البيت، على قول المرجع الشيعي الكبير آية الله السيد محمد حسين فضل الله.
لذلك حينما انطلقت حركة شيعية تروج أناشيد مذهبية شأنها في ذلك شأن كل الفرق والأديان –حاليا- كست أناشيدها ثيابا مخضبة بالدم وعلت أصواتها بالأنين في قصائد الرثاء والبكاء على كربلاء. وما إن تذهب إلى بلدان الشيعة حتى يلاحقك النشيد الشيعي في كل مكان، وخاصة في إيران والعراق والخليج وشيعة المهجر في بلدانهم، وربما يرجع ذلك الرواج الكبير إلى التواجد الشيعي الواسع على الإنترنت وسماح المواقع بتحميل الأناشيد مجانا.
النشيد يروي التاريخ
وفكرة النشيد أو الكلمات الملحنة المنغمة المقفاة ليست جديدة على الجمهور الشيعي؛ فقد عرف قبله احتراف "اللطميات"، وهي القصائد الرثائية، فصحى كانت أو عامية، وتعتمد على أسلوب ونطق قارئها وتكون أشبه بالسرد القصصي بصوت حزين عال، ويقوم بها فرد واحد يسمى "الرادود" ويصاحبه الحاضرون بترديد بعض الأبيات مع اللطم، وتتطرق لأماكن الألم في الوجدان الشيعي؛ كالمأساة الكربلائية وحوادث اغتيال أئمة آل البيت وتشريدهم، والتي غالبا ما تكون الموضوع الأساسي لمجالس العزاء الحسينية التي يقيمها الشيعة في أوائل شهر محرم. وقد سار النشيد الشيعي على درب اللطمية، إلا أنه تمرد عليها ليتناول المآسي والأفراح على حد سواء؛ فأنشد الأفراح بميلاد آل البيت وأعياد انتصاراتهم (الفكرية)، وكذلك الفرحة الذاتية للشيعة بمشايعتهم آل البيت، ويختلف النشيد عن اللطمية في أنه استخدم الآلات الموسيقية، ويعتمد على منشد وكورال (مجموعة مرددين) كما انتفت عادة اللطم في النشيد الشيعي.
ويرتكز النشيد الشيعي على الجوانب المحورية في التاريخ الشيعي كحادثة الولاية أو الغدير كما يسمونها، وهي الحادثة التي يؤمنون فيها بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما انتهى من حجة الوداع وقفل راجعا إلى المدينة المنورة انتهى موكبه إلى غدير خَم، وعندها هبطَ عليه أمين الوحي يحمل رسالة من السماء بالغة الخطورة حتمت عليه بأن يحطَّ رِحالَه ليقوم بأداء هذه المهمة الكبرى، ومضمون هذه الرسالة هو تنصيب علي -رضي الله عنه- إماما وأميرا للمؤمنين ومرجعا للأمة من بعده، وخطب الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: "أيها الناس، من مولاكم؟ فقالوا الله ورسوله. فقال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه"، والرواية مثبتة في كتب الشيعة، وعلى أساسها يثبتون لعلي حق الولاية والإمامة التي تمتد لأهله من بعده. (في حين لا يثبت أهل السنة لعلي ولآله رضي الله عنهم هذه الخصوصية).
وفي وصف هذه الحادثة يقول النشيد الشيعي: "قف يا محمد، جبريل يهتف بالسما جبريلا. ما كان رب العرش –جل جلاله- إلا ليوضح للأنام سبيلا. وعلي خير الخلق بعدك إنه بالحق عندي أحرز التفضيلا، واليوم في ذكرى الغدير وعيده جئنا نجدد بيعة وقبولا. امدد يديك أبا الحسين فإننا والله لا نرضى سواك بديلا".
والملاحظة أن الأناشيد الشيعية -سواء كانت عامية أو فصحى- تعتمد على النطق واللهجة التي تمد حروفا وتسرع في نطق أخرى فيبدو الكلام موزونا.
وتأتي كربلاء في مقدمة الأحداث التي تستنطق الشعراء بآلاف المرثيات، وفي نشيد شيعي يتخيل حوارا بين السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها مع ابنها الإمام الحسين رضي الله عنه، تقول فيه: "روح يا لكبار روح. ودعوتي وياك. لو تغيب عني يا ابني من أنساك. يا ابني يا زهرة عندي جفوها. من خدوك مني روحي آذوها. روح يا لكبار روح دعوتي وياك"، وتبدو اللغة العامية واضحة جلية في هذا النشيد. أما في الأناشيد الفصحى فقد كان من أشهرها وأكثرها نجاحا ذلك الذي تقول كلماته: "أيها السبط يا ابن البتول قد بكتك عيون الرسول، أي صبرٍ غدا مثل جسم ترتقيه العدا بالخيول؟!"
وفي أناشيدهم تناول المنشدون الشيعة آل البيت؛ بدءًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، مرورًا بالزهراء والإمام علي، انتهاء بالإمام الحسن العسكري الإمام الحادي عشر في سلسال آل البيت، وتطرقوا أيضا لبعض الشخصيات التي حازت أدوارا في صياغة هذا التاريخ كالصحابة (سلمان الفارسي، عمار بن ياسر، أبي ذر الغفاري، المقداد بن الأسود) رضي الله عنهم. إذ عرف عنهم شدة محبتهم للإمام علي رضي الله عنه، وكذلك شخصية المختار بن يوسف الثقفي الذي انتقم لقتل الإمام الحسين –وإن كانوا يرونه نصابا أفاقا!!- فيقول أحد أناشيدهم: "أيتها الأرواح إجلالا قفي وناشدي المختار بن الثقفي. يا أيها المختار قد أخذت الثأر".
استبعاد القضايا العقيدية
وإذا ابتعد النشيد الشيعي بعيدا عن التاريخ والماضي وقف في الحاضر ممتدحا ولاء الشيعة وتشيعهم لآل البيت فيقول: "الليلة فرحة والفرحة حقت علينا.. الليلة يا شيعة مولد الزهراء بضعة نبينا"، وكذلك "علي أميري ونعم الأمير. نصير النبي وخير النصير أبو الحسنين وزوج البتول ووريث طه وأعظم وريث".
والجدير بالانتباه هو ندرة الأناشيد التي تتعرض لأغوار العقيدة الشيعية والتي تضفي على آل البيت بعض الصفات الخاصة بهم، ولا نقصد هنا صفات العصمة والاصطفائية والولاية، وإنما صفات الأزلية والقدسية والهيمنة على الكون بإذن الله ونصرة آل البيت للأنبياء. (ويرمي أهل السنة هذه العقائد بالكفر ويوافقهم في ذلك بعض علماء الشيعة أنفسهم). ويتضح هذا في كلمات النشيد الذي ينشده المنشد المشهور "باسم الكربلائي": "علي عالي على كل عالي. علي يا موكل من الرب. علي ما نصبك منصوب لكن بالنص منصب"، وتتوالى كلمات النشيد بعامية خليجية محلية قد يصعب على غير أهلها فهمها، وتتضمن معانيَ كلها تؤكد أن الإمام علي متحكم في الريح والنار بإذن الله، وهو الذي أهلك فرعون والنمرود وقوم عاد وقوم ثمود وأنه عذاب السوط، وهو المختص بتنفيذ العقاب الإلهي على أقوام الكفر والجحود والمعصية.
وللنشيد الشيعي أساطينه من المنشدين، وأشهرهم على الإطلاق: باسم الكربلائي، ومحمد جواد المالكي، وحسين اللواتي، ومرتضى الخابور، وحسين الأكرف، وطه اللواتي. واشتهرت في هذا المجال فرق بعينها كالإسراء والغدير، وبعضها أقل شهرة مثل فرقة الكوثر، وكلها تحمل أسماء شيعية ترتبط بأحداث وأماكن لها مركزية في العقل والوجدان الشيعي.
ويلاحظ أن المنشد في الاحتفاليات العامة إذا وجد فتورا أو كسلا من الجموع الحاضرة في الترديد فإنه يستحثهم بشدة ويصرخ فيهم مشجعا. كما يصرخ المنشد باسم الكربلائي في إحدى الاحتفاليات في الجمهور قائلا: "هذا رسول الله يا أمة!!"
الإنشاد والسياسة
وقد دخلت ظاهرة جديدة على النشيد الشيعي تتمثل في امتداح رموز شيعية تنتمي للعصر الحديث ساهمت بشكل أو بآخر في المذهب الشيعي كالإمام الخميني زعيم الثورة الإيرانية الإسلامية. بل إن الأمر تعدى مرحلة الأناشيد ليصل مرحلة اللطميات، ومعروف أن اللطميات طابعها الشجن، وتنشد عادة في مجالس العزاء الحسينية لتبكي الإمام الحسين وآله من خلال سرد كربلاء بكل تفاصيلها؛ بدءا من خطبة الحسين قبل المعركة، مرورا باستبسال جنود الحسين –عليه السلام- في المعركة، انتهاء بمشهد الإمام الحسين وتصوير الطعنات في جسده الشريف، ومظهر الخيل وهي تدك الجسد، ومشهد احتضار الجسد الشريف. وهو ما يثير تساؤلا عن دوافع تأليف اللطميات للخميني، وهل هي عملية بعث للمعنى الحسيني الاستشهادي السماوي النبيل كان خير من يمثلها الخميني خاصة في ظل غياب رمز يلتف الشيعة حوله يحقق طموحاتهم؟! أم أنه تقديس للخميني كشخص في حد ذاته؟!
لكن سواء بحث الشيعي عن القائد أو لم يبحث؛ فهو في حالة استمداد دائم من النموذج العلوي الهاشمي القيادي الجهادي بكل رموزه؛ بدءا من الإمام علي، مرورا بالإمام الحسين والإمام زيد بن علي بن الحسين والإمام موسى الكاظم، انتهاء بالإمام الحسن العسكري. وهو معنى مستمر اعتاد الشيعة خلعه على كل من يتوسمون فيه القيادة للجمع الشيعي.

بحث سريع