شعب الإيمان الفقه والآثار (2)

بواسطة | عبدالله الأشول
2005/04/10
    تحدث المقال السابق عن أول شعبة من شعب الإيمان وهي قول لا إله إلا الله وأنها ليست مجرد كلمة تنطق باللسان فقط وأنه لابد أن يتحقق في قائلها مع العلم بمعناها الانقياد والتسليم والرضا التام بحكم الله تعالى ورسوله-صلى الله عليه وسلم-
من خلال ما سبق يتبين لنا أن الإيمان ليس مجرد إعلان باللسان ، أو معرفة ذهنية فقط فإن اليهود وكفار قريش أيضاً كانوا يعرفون صدق بنوة محمد-صلى الله عليه وسلم- ولم يكن ذلك مانعاً من الحكم عليهم بالكفر لأنهم للم يحصل منهم الطاعة والانقياد لماء فواق الحق.
قال-عز وجل-عن المشركين:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [(14) سورة النمل] وقال- عز وجل- عن اليهود:  {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (146) سورة البقرة ولم يكن أحد من أهل الجاهلية يتصور أن الإيمان مجرد كلمة لا تكليف فيها ، فضلاً عن أن يكون هذا التصور موجوداً عند أحد من أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم-بل لقد كان الواحد منهم حينما يدخل الإسلام كما يقول سيد قطب:" يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية " [معالم في الطريق ص16].
ويستعد  منذ اللحظة الأولى التي يعلن فيها إيمانه للقيام بواجباته تجاه هذا الدين الجديد.. يروي لنا عتبة بن غزوان-رضي الله عنه-حال الصحابة في مكة واصفاً صبرهم وتحملهم الشاق والمتاعب في ذات الله-عز وجل-فيقول:" … ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ومالنا طعام إلا ورق الشجر ، حتى قرحت أشداقنا ، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها ، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار وإني أعوذ بالله أن ككون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً .."[ رواه مسلم رقم ( 2967)].
فليس الإيمان إذن مجرد كلمة فقط… أو دعوى تنطق بها الألسنة وتخالفها الأعمال والجوارح .. لقد تميز مجتمع الصحابة-رضي الله عنه-بأنه مجتمع العمل والجد ، لهذا ابن عمر-رضي الله عنه-الله عنهما يقرر هذه المسألة ويوضحها قائلاًَ:" لقد لبثنا برهة من دهر وأحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن ، تنزل السورة على محمد-صلى الله عليه وسلم-فنتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده كما يتعلم أحدكم السورة…". [رواه الحاكم في المستدرك ( 1/ 25) وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وابن مندة في الإيمان (1/ 369) واللفظ له ].
تلك هي الصورة التي كان عليها المجتمع المسلم سواءً كان في مكة أو في المدينة … إنها الصورة الحقيقية للإيمان .. الإيمان الذي زكت به نفوسهم وأخلاقهم وسلوكياتهم ومشاعرهم فأخرجت أروع جيل عرفه التاريخ البشرية جمعاء…
وإن المرء ليدرك روعتة أكثر وأكثر، حينما يعلم أن أولئك الذين علموا العالم أروع صور الحضارة والرقي والرفعة ،كانوا بالأمس القريب قبل أن يعرفوا حقيقة الإيمان ، من أضل الأمم ومن أشدها تخلفاً ومن أكثرها تأخراً وقسوة…وهذا أمر عرفه العدو قبل الصديق. يقول غوستاف لوبون:"إننا لا نذكر أمة كالعرب حققت من المبتكرات العظيمة في وقت قصير مثل ما حققوه،وإن العرب أقاموا دينا من أقوى الأديان التي سادت العالم..أقاموا ديناً لا يزال تأثيره أشد حيويةً مما لأي دينٍ آخر …وإنهم أنشأوا دولة من أعظم الدول التي عرفها التاريخ.."[حضارة العرب(736)].
ومهما سطرنا بمدادنا .. نريد الوقوف على سمو الجيل الأول.. جيل الصحابة  الذين تربوا على يد إمام الهدى محمد-صلى الله عليه وسلم-فلن نستطيع؛ وليس الخبر كالمعاينة .
ولكن لعل من المفيد أن ندرك أن سر تميز الجيل الأول ،هو إدراكهم لحقيقة الإيمان إدراكا واقعياً .
 لقد حولوا وجهة التاريخ حينما أعلنوا بفعالهم حقيقة إيمانهم؛ حتى أصبح التاريخ يفاخر بهم .. ويصيح في العالم أجمع .. أن الزموا طريق أولئك الأبرار واسلكوا هديهم … واعملوا مثلهم إذا أردتم العز والشرف.
وهل شيء غير الإيمان سما بسمية بنت خياط-رضي الله عنها- إلى درجات العلى؛ وهي صابرة محتسبة ترفض أن تترك دينها حتى ماتت بطعنة من الفاجر أبي جهل لعنه الله .
وهل شيء آخر .. غير الإيمان يزرع الثبات في قلب ياسر-رضي الله عنه-حتى مات شهيداً صابراً محتسبا تحت وطأة العذاب ، وهو يرى زوجته شهيدة وابنه عماراً يلقى أصناف العذاب …؟!
 وهل شيء غير الإيمان .. يدفع بالأنصار إلى إعطاء البيعة للنبي-صلى الله عليه وسلم-في بيعة العقبة الأولى والثانية، وهم يعلمون أنها تعني الالتزام بالتكاليف الشرعية، والقيام بها حق القيام ،وأن من ورائها أن ترميهم العرب جميعاً عن قوس واحدة .. فعن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه-أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال للأنصار :" تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرفوا ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئاً فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبة ، وإن شاء عفا عنه " فبايعوه على ذلك ..
[ رواه البخاري رقم ( 3892) واللفظ له، ومسلم رقم ( 1709)].
وأما بيعة العقبة الثانية فيرويها جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما- أن الصحابة قالوا : " يا رسول الله .. علام نبايعك ؟ قال: على اسمع والطاعة في النشاط والكسل.
وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن تقوموا في الله ولا تأخذكم لومة لائم ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم ، وأبناءكم ولكم الجنة ".
 [البخاري رقم ( 7056) ، ( 7299) ومسلم رقم ( 1709)].
تلك هي بنود البيعة … وهي الإيمان الذي التزموا بالقيام به .. في تلك البيعة ، ولو لم يلتزموا بتلك البنود لما بسط رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يده للمبايعة ولقبضها، كما فعل مع بشير بن الخصاصية-رضي الله عنه-حينما بايع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وأراد أن يستعفى من الجهاد والصدقة، فقال :" أما اثنتان فوالله ما أطيقهما: الجهاد والصدقة…" الحديث…. وفيه :" فقبض رسول الله-صلى الله عليه وسلم-عليه يده ثم حركها وقال : " فلا جهاد ولا صدقة ، فلم تدخل الجنة إذن؟!" يقول بشير-رضي الله عنه-:" فبايعت عليهن كلهن" [رواه أحمد في المستدرك ( 5/ 224)].
  تلك هي حقيقة الإيمان .. الذي غابت عنا معالمه في واقعنا المعاصر؛ فغابت معه رفعتنا وعزتنا ،ودب بسبب غيابه الوهن والخور في قلوبنا .
إنه الإيمان الذي يبعث بروح التضحية ، والفداء والشجاعة حتى في قلوب صغار المؤمنين منهم.
 فهل رأى التاريخ صبياً كعلي بن أبي طالب-رضي الله عنه-حينما نام على فراش رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ليلة الهجرة .. دون خوف، أو رهبة مما قد يصيبه من المشركين الذين أشرعوا سيوفهم يتربصون بالنبي-صلى الله عليه وسلم-ليقتلوه..!!
[رواه أحمد في المستدرك ( 5/ 87) وحسنة الشيخ أحمد شاكر والألباني في فقه السيرة النبوية للغزالي ص ( 107) وما بعدها].
وليس ذلك غريباً على آل بيت النبوة .. فإن لهم من الفواضل، والمكارم ما يعجز القلم عن تسطيره ، وإن المرء ليجد فيهم قدوة صالحة تنير له الدروب، وتقفه على حقيقة الفهم الصحيح للإيمان كما فهموه وأدركوه . وإن من الدروس التي تستحق الذكر ما رواه عباد بن عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهما- قال: حدثني أبي الذي أرضعني- وكان أحد بني مرة بن عوف – وكان في تلك الغزوة ( غزوة مؤتة) قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر-رضي الله عنه-حين أقتمَ – أي نزل – عن فرسٍ له شقراء، ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل ، وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها     طيبة وبارد شرابها
    والروم روم قد دنا عذابها     كافرة بعيدة أنسابها      علي إن لاقيتها ضرا بها "
[البداية والنهاية ( 4/ 244) والإصابة ( 1/ 238)].
لقد علمنا-رضي الله عنه-أن الإيمان .. بذلٌ وتضحية وإقدام،وأنه لا يستوي في قلب المؤمن حب الدنيا وحب الآخرة …و تلك هي حقيقة من آمن بالجنة، وما فيها من النعيم ،وآمن بوعد الله الذي لا يتبدل ولا يتخلف.
إنه الإيمان الصادق..الذي لا يعتريه كذب أو كسل ..
 تلك الصورة هي إحدى صور الإيمان الصادق وهناك صور أخرى … تمثل النموذج الحقيقي للإيمان الحق.. فلقد كان الصحابة بمجرد أن تنزل آية يتبادرون إلى تنفيذها دون تكلؤ أو تأخر . فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال:" كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة ، فنزل تحريم الخمر فأمر منادياً فنادى ، فقال أبو طلحة : أخرج فانظر ما هذا الصوت قال:  فخرجت فقلت : هذا مناد ينادي ، ألا إن الخمر قد حرمت، فقال لي : أذهب فأهرقها، فقال : فجرت سكك المدينة ..
[رواه البخاري رقم ( 4620 )]
إن المسافة قصيرة جداً بين قول أنس .. "ألا إن الخمر قد حرمت" ،وقول طلحة …"اذهب فأهرقها" ..ففي لحظة واحدة ودون أي تردد، تحصل الاستجابة،وتتخلى النفس عما اعتادت عليه لسنوات طويلة…. إنه التسليم المطلق، والإيمان الصادق الذي تميز به ذلك الجيل الفريد !!
وليس نساء الصحابة-رضي الله عنه-عنهن بأقل شأناً في ذلك، فلقد روت أم سلمة-رضي الله عنه-الله عنها أنه :"لما نزلت هذه الآية :" يدنين عليهن من جلابيبهن " خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن ، أكسية سود يلبسنها".
[رواه أبو داود رقم (4101) وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم ( 3456)].
إنها المبادة الجادة إلى السمع والطاعة.. لأن الآمر هو الله- عز وجل- الذي له الحكم والأمر والنهي، وهي المبادرة التي تحتاجها المرأة  المسلمة اليوم وبخاصة مع استهدافها من قبل اليهود والنصارى؛ ليخرجوها من عفتها، وطهارتها.. ويجعلوها متاعاً رخيصاً يتناوله كل فاسق وعربيد…
ولئن كان ما سبق ذكره ينبئ عن حال الصحابة-رضي الله عنهم – فيما يتعلق بفرائض الإيمان؛ إلا أن الحال لا يختلف كثيراً فيما يتعلق بمستحبات الإيمان.
فقد جاء رجل إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وكان جائعاً ، فلم يجد رسول الله-صلى الله عليه وسلم-شيئاً عند زوجاته ، فطلب من أصحابه استضافته ، فاستضافه أنصاري ، لم يكن عنده إلا عشاء أهله وصبيانه ،فأنام صبيانه ، وقدم طعام أهله إلى ضيفه  وجلس معه ، فأطفأت المرأة السراج، وجعلا يريانه كأنهما يأكلان ،ولكنهما باتا جائعين.  وفيهما نزل قوله-عز وجل:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (9) سورة الحشر" [رواه البخاري رقم ( 3797) ].
ولا عجب ؛ فقد امتزجت حلاوة الإيمان بمرارة الجوع وألمه فلم يعدله أي أثر.
وحينما نزل قوله- عز وجل : {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (92) سورة آل عمران، قام أبو طلحة الأنصاري وقال:  يا رسول الله ، إن الله يقول:" لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " وأن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة الله ، أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بخ " ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ، قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين.
قال أبو طلحة : " أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه" .
[ رواه البخاري رقم ( 4554)].
ذلك غيض من فيض، وإلا فمن أراد الوقوف على سير القوم وحقيقة الإيمان في حياتهم؛ فعليه أن يطالع كتب التاريخ، والسير ، وكتب الحديث كالأمهات الست والمسانيد وغيرها من المصادر التي اشتملت على تاريخ خير أمة أخرجها الله للعالمين.
 
 

بحث سريع