سياسة الهادي في صعدة وعلاقته بالقبائل

بواسطة | د. حسن خضيري أحمد
2005/04/13
دخل الإمام يحيى بن الحسين صعدة مع جموع الأكيليين ، وبني فطيمة بعد أن أصلح بينهم (68) ، ولم يكن بصحبته إلا عدد قليل من بني معاوية بن حرب (69) ، الذين تبعوه ، ومن انضم إليه في الطريق (70).
كتب الهادي عند قدومه إلى صعدة كتاباً إلى أهل اليمن ، يدعوهم فيه إلى الجهاد معه (71) ، وحدد أصول الدين في معرفة الله وتوحيده ، والعدل ، والوعد ، والوعيد ، والمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ثم الخروج مع أئمة آل البيت من ولدي الحسن والحسين (72) ، وشرط على نفسه في دعوته أربعة شروط وهي الحكم بكتاب الله ، وسنة الرسول (73) ، وأن يؤثر أتباعه على نفسه (74) ، فلا يتفضل عليهم ، وأن يقدمهم عند العطاء قبله ، وأن يتقدمهم عند لقاء عدوه ، وعدوهم (75) وشرط عليهم في مقابل ذلك الطاعة لله في السر والعلانية ، وأن يطيعوه ما أطاع الله فيهم ، فإن خالف فلا طاعة له عليهم (76) .
ومن هذا البيان الذي قدم به بيعته ، يتبين أنه كان يرمي إلى إقامة حكم إسلامي (77) ، فهو يرى أنه صاحب رسالة إصلاحية إسلامية ، وأن عليه أن ينشرها بين جميع اليمنيين (78) .
اهتم يحيى بن الحسين في حكومته الجديدة بتنظيم أمر البلاد (79) ، وتولية العمال النواحي القريبة من صعدة (80) ، وكانت مهمتهم الأساسية جمع الخراج لزيادة موارد الدولة الناشئة ، والإنفاق على دار الإمارة في صعدة ، والجنود ، ووضع عهداً لولاته حدد فيه واجباتهم (81) ، وكان يأخذ عليهم عند تسلمهم أعمالهم العهود والإيمان ، بألا ينتزعوا من أهل البلد مسكناً لهم ، وإنما عليهم أن يكتروا لهم دوراً لهم ، ولا يقبلون منهم هدية (82) ، كما ألزم عماله بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر (83) ، وتعليم الناس الصلاة ، وقراءة القرآن ، كما أمرهم أن يعلموا الناس أصول الدين ، وفضل الجهاد والمجاهدين ، والولاية لمن أمر الله تعالى بولايته من أهل بيت نبيه (84) .
حدد الإمام الهادي لعماله المقادير التي يأخذونها زكاة على الأرض بأنواعها ، فالأرض التي تستقي سيحاً أو بالأمطار ، يؤخذ العشر منها (85) وأما الأرض التي تروى بالسواني (86) ، والدوالي فيؤخذ منها نصف العشر (87) ، كما حدد زكاة التجار ، وجزية أهل الذمة من اليهود والنصارى (88) ، فحدد الجزية على أغنيائهم ثمانية وأربعين درهماً قفلة . أما أوساطهم فيؤدون أربعة وعشرين درهماً ، وعلى فقرائهم اثني عشر درهماً ومن لم يملك شيئاً فلا شيء عليه (89) .
كذلك حدد القواعد التي يجب مراعاتها في القضاء فكان يطلب من قضاته ان يساووا بين مجالس الخصمين ، فإن استويا بالخصومة بدأ بالضعيف (90) ، وكان الإمام الهادي يصلي الناس الصلوات الخمس ، ولاينقطع عن ذلك ليلاً ولا نهاراً ، ويجلس ما بين الصلاة يعظ الناس (91) ، ويعلمهم فرائض الدين وفرائض المواريث ، ويتحاكمون إليه (92) ،وكان يمشي في الأسواق ، والطرق ليقف على أحوال الناس ، فإن رأى جداراً مائلاً أمر بإصلاحه(93) ،وإن رأى امرأة أمرها بلبس الحجاب ، ومما يروى عنه أنه أمر النساء باتخاذ البراقع(94) ، كما كان يتفقد الأسواق ، ويقوم بأعمال الحسبة بنفسه(95) ، وحدد الأسعار للتجار على بضائعهم (96) ، وكان يعود المرضى ، ويأمر المحبوسين الذين يجيدون القراءة بتعليم من يجهلها من الناس (97).
أقام الإمام الهادي بصعدة أربعة أشهر ، بذل جهده خلالها في القضاء على الفتن ، وتهدئة الأحوال وتيسير الأرزاق ، وتأمين الناس على حياتهم ، وممتلكاتهم في منطقة صعدة (98).
لما استتب النظام ، واستقرت الأمور بصعدة ، عمل الهادي على تأمين دولته الناشئة من ناحية الشمال بضم نجران لدولته التي يخترقها الطريق بين صعدة والحجاز ، ومما يجدر ذكره أن أهل نجران قدموا إليه أثناء إقامته بصعدة، يطلبون خروجه إلى بلدهم ، وممن وفد عليه قبيلة شاكر(99) وثقيف ، ووادعة(100) ، ويام(101) والأحلاف(102) ، وجماعة من بني الحارث (103) ، فأجابهم الهادي إلى ما طلبوا (104).
دعا الهادي أتباعه من خولان وغيرهم ، وسار بهم إلى نجران في السادس من جمادى الآخرة سنة (284هـ / 897م ) (105) فلقيه أهل وادعة ، وشاكر ويام والأحلاف مستبشرين بقدومه ، ومما حملهم على دعوته " ماجرى بينهم وبين بني الحارث من قتل الرجال ، وذهاب الأموال، وانقطاع الطرق ، وهتك الحرم ، وخراب المنازل ، (106) واتجه الجميع إلى بني الحارث فأصلح الهادي بينهم ، وأخذ عليهم الأيمان والمواثيق بالاتفاق ، وترك الشقاق (107) ، وعلى السمع والطاعة له (108) ، وبايعه القوم على ذلك .
كذلك أقر الهادي عهداً لأهل الذمة من نصارى نجران وغيرهم (109) ، واتفق معهم على أن يأخذوا منه تسع غلة الأرض التي اشتروها من المسلمين (110) ، وأبقى لهم الأراضي التي كانوا يمتلكونها زمن الجاهلية ثم فرض عليهم الجزية (111) ،ومما حمله على ذلك حرصه على أن تبقى الأراضي في أيدي المسلمين (112) ، ودون المساس بحقوق الذميين الثابتة .
بعث الهادي الولاة إلى قرى نجران ، وأمرهم بتقوى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (114) ، ثم رجع إلى صعدة عاصمة دولته في 18 رمضان سنة (284هـ ) (114) ، بعد أن ولى على نجران أحمد بن محمد من ولد العباس بن علي بن أبي طالب (115) ، وضم إليه رجلاً من تميم لمعاونته يقال له محمد بن عيسى من أهل العراق (116).
على أن الهادي ما لبث بعد أن قضى فترة قصيرة في صعدة ، أن عزم على المسير تجاه وشحة (117) ، التي تقع إلى الغرب من صعدة . فولى عليها محمد بن عبيد الله العلوي (118) ثم عاد الهادي إلى صعدة .
تجلى تطلع الهادي إلى توسيع رقعة دولته بعد سنة من قيامها ، فسار في صفر سنة (285هـ) (119) إلى برط (120) – وهو جبل كبير تسكنه همدان شاكر – ولم يشأ سكان الجبال أن يسلموا للهادي بسهولة ، فأقاموا في طريقة المسالك ، وحالوا بينه وبين الماء (121) ورموه وأصحابه بالنبال ، حتى أصيب الهادي نفسه بسهم ، غير أنه انتصر عليهم (122) وطلبوا منه الأمان فأمنهم ، وبايعوه ، ثم ولى عليهم رجلاً يقال له عبد العزيز بن مروان من أهل نجران (123) ، ليدير شؤونهم ، ويجبي زكاة العشر التي قدرها الهمداني (124) بـ ((خمسة آلاف فرق)) (125) .
لم تستقر الأوضاع في بلاد خولان ، ونجران ، ففي شهر ربيع الثاني (285هـ/989م) (126) ورد الهادي كتاب من محمد بن عبيد الله العلوي عامله على وشحة يوضع له أن أباد دغيش الشهابي ، جمع جموعاً كثيرة من الرجال ، اشتبك معه ، ومنع الزكاة (127) فوجه الهادي أخاه عبد الله بن الحسين على رأس جيش لإخضاع هذا الثائر وأصحابه (128) ، وحدث نفس الشيء في نجران ، حيث خرج بعض عمال الزكاة بمال الزكاة في طريق نجران ، فتتبعهم رجل يقال له (حنيش ) من وداعة ، ومعه جماعة من عشيرته ، فأخذوا المال ، وقتلوا رجلاً كان مع هؤلاء العمال (129) ، لما بلغ الهادي هذا الحادث ، سارع إلى إخماد حركة المتمردين ، ونزل بقرية شوكان (130) ، وهي قرية حنيش الوادعي ، وأمر بقطع نخيلها وأعنابها ، وهدم منزله عقاباً له على قطع الطريق (131) .
على أن هذه الوسائل التي اتبعها الهادي ، وإن كانت قد عملت على تهدئة الوضاع في هذه البلاد ، خلال الفترة التي نحن بصددها .
ولما استولى الهادي على نواحي اليمن الشمالية ، اتجه إلى الجنوب ، لتأمين عاصمته ، بضم الجهات القريبة منها ، وفي أثناء وجوده بنجران ، وصلت إليه كتب الدعام بن إبراهيم الذي طلب منه أن يوليه الجهة التي يقيم فيها (132) ، غير أن الهادي لم يجبه إلى طلبه (133) ، وخرج في جمع كبير قاصداً خيوان (134) في أواخر جمادى الأولى سنة (285هـ / 898) (135) وتلقاه أهلها بالترحاب ، ولبث فيها أياماً (136) ، ثم سار إلى الحضن (137) من بلاد وادعة (138) ، ومنها إلى أثافت ، فصلى بها الجمعة ، ودعا الناس إلى البيعة فبايعه عدد كبير (139) ، ولما قدم إليه أهل بيت زود (140) شاكين له من الدعام ، وأصحابه ،بعث معهم الهادي رجلاً من بني عمه والياً عليهم (141) ، ولما وصل عامله إلى بيت زود ، خرج من كان فيه من ولاة الدعام ، ثم كتب الهادي إلى صعصعة ابن جعفر صاحب ريدة ، فأجاب بالسمع والطاعة (142) ، ووجه إليه الهادي نفراً من همدان لضبط البلد ، وإخراج من ولاة الدعام (143) .
ويبدوا أن صعصعة بن جعفر – صاحب ريدة – دخل في طاعة الهادي لما كان بينه وبين الدعام من خصومات وحروب حيث أن الهمداني (144) : (( أن صعصعة بن جعفر حارب الدعم )) .
لما رأى الدعام أن الهادي رفض توليته البلاد التي تحت يده ، جمع جموعه ، وعزم على المسير إلى البون (145) ، كما عبأ الهادي قواته ، غير أن الرسل أخذت تعمل على وضع حد للنزاع بين الفريقين ، وانتهى سعيهما بالصلح ، ودخول الدعام في طاعة الهادي (146) .
ومن المرجح أن الدعام قبل الصلح ، لما كان بينه وبين آل طريف ، وبني يعفر من صراعات وحروب ، أضف إلى ذلك خروج كثير من ولاته وقادته عليه ، ودخولهم في طاعة الهادي ، ويبدوا أن هذا الصلح لم يكن بدافع إخلاص الدعام ، وإنما فرضته الظروف المحيطة به .
لم يقبل أرحب بن الدعام ، دخول أبيه في طاعة الهادي ، فقد رأى في ذلك إهانة لهم وفقد سلطاتهم على هذه البلاد فأغار بقوم من همدان على أثافت (147) ، حيث كان ولدا الهادي محمد وأحمد في خيوان (148) ، ويبدوا أن الزكاة التي كان يلزمهم بها الهادي ، كانت من أسباب عصيان القبائل له ، يتجلى ذلك من قول مؤلف سيرة الهادي (149) : (( حتى لا يتولى أمرهم الهادي فيأخذ منهم ما أوجبه الله عليهم من الصدقات )) .
رفض أهل خيوان الخروج مع محمد بن الهادي لقتال أرحب بن الدعام وجماعته (150) ، بل ساعد أهل أثافت ابن الدعام على دخول القرية (151) ، أما عن موقف الهادي فإنه عبأ قواته وسار إلى أثافت في شوال سنة (285هـ/898) (152) حيث جرت بينه وبين الدعام معركة كبيرة ، لم يشترك فيها أهل خيوان ، مما أدى إلى اضطراب عسكر الهادي (153) غيرأن الهادي أخذ في تنظيم قواته ، بعد وصول الإمدادات ، وحاصر جند الدعام الذين أضيروا من الحصار ، يقول العلوي (154) : (( واضناهم الحصار ، والبرد ، وانقطاع المدد )) .
اضطر الدعام بعد أن طال أمد الحصار إلى الخروج إلى خيوان في أواخر ذي القعدة سنة (285هـ/898م) (155) واستغل عسكر الهادي خروجه من أثافت ، فقاموا بنهب ما بقي فيها ، ولما بلغ الهادي ما فعله جنده ، أظهر استياءه وقال : (( لولا أني أخاف ضيعة الإسلام ، لما أقمت في اليمن ، ولمضيت إلى بلدي ، فما أحسب أن هؤلاء يحل المقام بينهم ، ولا أستحل أقاتل بهم (156) )) ، وأمر برد ما نهب .
وكان قد طلب المدد من أبي العتاهية – صاحب صنعاء – فأجابه ، وبعث أخاه ومعه خمسون فارساً (157) ، لحقوا بالهادي في درب بني صريم في أواخر المحرم سنة (286هـ/899م) (158) ، ثم خرج الهادي يريد خرفان (159) ، والسبيع (160) ، ليدعوهم إلى الدخول في طاعته ، وهم من بني عم الدعام (161) ، غير أنه وجد أهل القرى ، فمروا من قراهم ، واعتصموا برؤوس الجبال ، وتركوا بيوتهم ، وما فيها ، فأرسل إليهم بالأمان (162) .
لما بلغ ذلك الدعام موالاة أبي العتاهية ، ودخول خرفان والسبيع في طاعة الهادي ، عظم عليه ذلك الأمر (163) ، وجمع أصحابه وقال لهم : (( أليس من العجب أني أصبحت مسوداً (164) ، وأصبح أبو العتاهية مبيضاً )) .
وعندما عزم الدعام على العدول عن قتال الهادي ، ثار أصحابه في وجهه ، وقالوا له : (( بل نقاتل ، ونقاتل معك ، ولا يأخذ ملكاً قد قاتلت عليه آل بعفر ، وغيرهم ثم تدفعه إلى هذا العلوي (165) ، وكانت كتب الدعام تتوالى على الهادي أثنا إقامته بدرب بني ربيعة ، وقد تضمنت شروطاً منها إطلاق يده في جميع الضرائب من بعض البلاد التي في حوزته ، وتوليته البعض (166) ، غير أن الهادي لم يوافق على مطالبه (167) ، ويذكر مؤلف سيرة الهادي (168) أن الهادي قال : (( لو سألني أن أوليه شبراً من الأرض ، وما وليته على المسلمين .. )) .
انتقل الهادي (169) بعد صلح خرفان والسبيع إلى (( حوث )) لمناجزة الدعام ، غير أن الدعام كان غادر خيوان إلى غرق (170) واستشار أصحابه في أمر الهادي ، فأختلفت آراؤهم (171) ، فقال : (( أما أنا فأول من استقدم أمر هذا الرجل ، وأخرجه من بلده ، وراسله حتى قدم هذا البـلد .. وقد عزمت على أن لا أقاتله أبداً ، وأن أسـمع له وأطيع . )) (172) .
ويذكر مؤلف سيرة الهادي (173) ، أن الدعام لما وصل إلى بلده ، أمر بالأذان بحي على خير العمل ، وأظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )) ، وأرسل إلى الهادي يطلب منه لقاءه ، فأجابه الهادي ، ولقيه بالقرب من خيوان ، فحلف له هو وبنو عمه ، وولده ، ثم انصرف إلى بلده (174) ، ووجه الهادي معه أبا جعفر محمد بن سليمان الكوفي والياً من قبله ، وليأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويجبى الزكاة ، وخطب للهادي في بلد الدعام (175) ، ثم رجع الهادي إلى صعدة في منتصف جمادى الآخرة سنة (286هـ/899م) (176) .
يتبين مما سبق أن الدعام دخل في طاعة الهادي ، لأن الظروف لم تكن في صالحه ، وكان يود أن يكون والياً على بلده ، غير أن الهادي رفض طلبه ، مما حمله على محاربته ، حتى لا يسلم له ملكاً قاتل عليه آل يعفر (177) ، وقدم أبو العتاهية الهمداني المساعدة للهادي ، في الوقت الذي كان ينتظر فيه قدوم قائد العباسيين ليحارب الهادي ، وينشغل به ، لكنه لم يأت (178) ، لذلك كله اضطر إلى الجنوح للسلم ، والدخول في طاعة هذه الدولة الجديدة (179) ، غير أن هذا الولاء فرضته الأحداث التي أحاطت به .
استغلت القبائل اليمنية المناوئة للهادي ، فرصة انشغاله بمحاربة الدعام ، فأخذت تثير القلاقل والاضطرابات في صعدة ، وغيرها من البلدان التي دخلت في حوزة الهادي ، ويصف مؤلف سيرة الهادي (180) الذي قدم إليه في ذي الحجة سنة (285هـ/898م) الأوضاع في صعدة بقوله : (( .. فوجدت البلد عليه مضطربة ، لما كان من حرب الهادي للدعام ، وكان أهل البلد ، ويؤملون أن يأتيهم في تلك السنة قائد من المسودة ، فأخلف ظنهم )) .
لم تكن صعدة وحدها هي التي ظهرت فيها الاضطرابات ، بل امتدت الثورة إلى وشحة ، فثار أهلها ضد واليها محمد بن عبيد الله العلوي(181) ، ولما رأى الهادي أنه لايستطيع الاحتفاظ بالحكم في وشحة ، أمر واليها بالعودة إلى صعدة (182) ، وفي هذه الأثناء وصل إلى صعدة أول فريق من المتطوعين من طبرستان (183) ، يقدر عددهم بخمسين رجلاً (184) ، وكان الهادي مشغولاً وقتذاك في محاربة الدعام .
أخذت الثورة في الامتداد إلى نجران ، وعمل ابن بسطام – قائد الربيعة – على إشعالها ، فكان يعرض المال على الياميين (185) ، لإثارة النزاع بينهم وبين بني الحارث (186) ، ولما علم ابن بسطام بخروج الهادي من خيوان إلى نجران ، هرب إلى الدعام وطلب منه التوسط إلى الهادي فأمنه الهادي (187).
جمع الهادي جموعه من خولان وهمدان ، وتوجه إلى منطقة التمرد في نجران ، فوصلهت في 20 من جمادى الثانية سنة (286هـ/899م) (188)، وقصد قرية (لبينان) (189) ، ففر المفسدون من الياميين إلى الجبال (190) ، غير أن عشائرهم أتت إلى الهادي ، فبعث بهم إلى صعدة ، وحبسهم في قرية قريبة منها يقال لها الغيل (191) .
على أن الأمور لم تستقر بعد في نجران بسبب ثورات بني الحارث (192) ،وكان ابن بسطام هو الرأس المدبر لها ، ويبدو أن بني الحارث عظم عليهم سجن بعضهم لدى الهادي ، فهاجموا في ليلة 17 رمضان سنة (286هـ/899م) الدار التي ينزل فيها عبد الله بن الحسين وأبي أحمد بن محمد العلوي – والي البلد – (193) وأرادوا أن يأخذوهما مقابل الذين أخذهم الهادي إلى صعدة (194) .
ولما علم الهادي أن حركات الثائرين لم يقض عليها في نجران عول على القيام بحملة لتأديبهم ، خرج في 2 من ذي الحجة سنة (286هـ/899م) (195) ، وترك لعاصمته واليها – محمد بن عبيد الله العلوي – وابنه مؤلف سيرة الهادي ، ولم يترك معهم قوة محاربة تدافع عن العاصمة (196) ، ولما قرب الهادي من نجران لقيه الوادعييون ، ثم أخوه عبد الله بن الحسين في جماعة من شاكر وثقيف .
جمع الهادي قواته ، وأمرهم بقتال أهل الحصن الذي يقيم فيه ابن بسطام وعشيرته ، وعامة بني الحارث (197) ، واستمرت الحرب بين الطرفين وظل الهادي يقاتله على أبواب حصنهم غير أن بني الحارث (198) استطاعوا أن يستغلوا طبيعة أرضهم ، ويباغتوا جيش الهادي، وينقضوا على أصحابه (199) ، مما أدى إلى هزيمة الهادي فأخذ ينظم صفوفه ، وأبى إلا أن يفتح الحصن ، واستطاع أن يحدث ثغرة فيه ، وحمل على بني الحارث ، حتى حلت بهم الهزيمة ، وهربوا في الجبال والأودية (200) ، وعفا الهادي عن ابن حميد ، وأتباعه ليأمن جانبهم، ولتهدئة الأوضاع في نجران ، بيد أن الذين نالوا العفو أقسموا أن لا يدخلوا ديارهم، وأن لا يروا أهلهم إلا بعد القصاص من الهادي ، ورجاله ، " فلجأوا إلى البدو من أهلهم " (201) . أما ابن بسطام – زعيم التمرد – فهرب إلى قبيلة شاكر من همدان (202) ، وكانت بينه وبينهم محالفة فطلب منهم الخروج معه ، فأجابوه ، وسار حتى لحق أصحابه في مذحج (203) ، وانضم إليه من شاكر خلق عظيم (204) ، وأبلى الهادي وأصحابه بلاء حسناً في المعركة التي دارت بينهم وبين هؤلاء الخارجين عليه ، وألحق بهم الهزيمة ، ومما جعل همدان تعود إلى جيش الهادي ، وفي ذلك يقول ابن الحسين (205) : " فقاتلهم ، وقتل جماعة منهم ، وفر الباقون إلى جبل الأخدود ".
لما فرغ الهادي من محاربة الثائرين ، أقام في نجران شهرين لضبط الأمور في البلاد (206)، ثم رجع إلى صعدة في جمادى الأولى سنة (287هـ/ 900م) بعد أن ولى على نجران محمد بن عبيد الله العلوي (207) ، تاركاً الأوضاع فيها يسودها الهدوء النسبي بينما كانت القلاقل تسود عاصمة دولته ، فقد انتهز أحمد بن عبد الله بن محمد بن عباد ، غياب الهادي عن صعدة ، وعمل على مساعدة بعض المساجين على الفرار من سجن صعدة (208) ، كما استطاع أن يضم إلى جانبه قبيلة بني يرسم (209) ، التي رفضت مساعدة والي صعدة محمد بن عبيد الله العلوي (210) .
لما عاد الهادي إلى عاصمته وجد تمرداً من الربيعة (211) ، فتجهز لحربهم ، مما جعلهم يلجأون إلى حصونهم ، فأمر بهدم منازلهم (212) ، ولما رأت الربيعة أنها لا قبل لها بالهادي ، طلبت منه الأمان ، فأجاب طلبها ، أما زعيم الأكيليين – ابن عباد – فإنه لم يلبث أن توجه إلى العراق ، ليطلب العون من الخلافة العباسية (213) .
يتضح مما تقدم أن المرحلة الأولى من قيام دولة الهادي تمت ن بعد أن وطد دعائم سلطته في صعدة ، وما يجاورها من البلاد ، وعلى الرغم من أنه لم ينعم بالهدوء والاستقرار في تلك الفترة ، بسبب حركات التمرد والعصيان التي قادها بعض زعماء القبائل المناوئين له ، إلا أنه كان يتطلع إلى توسيع رقعة دولته الناشئة ، فعزم على ضم صنعاء – عاصمة التبابعة – حتى تتم له السيطرة على بلاد اليمن .


بحث سريع