امتداد نفوذ الهادي إلى صنعاء واستيلاؤه عليها

بواسطة | د. حسن خضيري أحمد
2005/04/13
عزم الهادي على المسير إلى صنعاء ، عاصمة التبابعة ، ومعقل بني يعفر ، وآل طريف ، لبسط سلطانه عليها ، وكانت الفرصة مواتية له ، عندما راسله عبد الله بن بشر بن طريف الذي يكنى بأبي العتاهية (214) ، وكان والياً على صنعاء ومخالفيها (215) من قبل آل يعفر ، ومن بين الذين تأثروا بدعوته (216) .
لما شرع الإمام يحيى بن الحسن ، التوجه إلى صنعاء ، أخذ يعد قواته في أوائل المحرم سنة (28هـ/901م)(217) فطلب من واليه على نجران – محمد بن عبيد الله العلوي – أن يمده بما لديه من عسكر من بني الحارث وهمدان من سكان نجران (218) فأجاب الوالي طلبه ، وأنفذ ابنه علي بن محمد إلى صعدة ، وبصحبته كثير من العسكر (219) .
اما الهادي فجمع عدداً كبيراً من خولان ، وسار من صعدة متجهاً نحو الجنوب ، حتى نزل العمشية (220) ، وهناك انضم إليه الدعام بن إبراهيم بمن معه من بكيل ، ودخلوا جميعاً خيوان (221)، ثم سار الهادي من خيوان إلى أثافت ، وواصل سيره حتى دخل ريدة (222) ، وهي على مسافة يوم من صنعاء ، وقد سرّ أهالي تلك الجهات بقدومه ، لما بلغهم من عدله (223) ، ولما كانوا يقاسونه من الضرائب التي فرضها عليهم حكامهم (224) ، فأسقط عنهم ما كان يؤخذ منهم بغير حق (225) ،وأمرهم بالتأهب للمسير معه (226) وذكر لهم أن أبا العتاهية قد سلم إليه البون ومشرقها (227)، وهي المناطق التي كانت موضع نزاع بين الدعام وآل طريف بقيادة أبي العتاهية ، وأنه سيعود إلى صعدة بعد أن يتفقد أحوال هذه المناطق التي سلمها إليه أبو العتاهية (228) .
ولم يزل الهادي يتابع سيره حتى وصل إلى موضع على مقربة من صنعاء يقال حدقان (229) ، تم فيه الاتفاق بين أبي العتاهية ، والهادي على تسليم صنعاء ، وبايع أبو العتاهية الهادي ، وأقسم له يمين الولاء والطاعة (230) ، وسلم له جميع ما كان بيده ، وسار بجيشه تحت إمرته (231) ، ثم دخل الهادي صنعاء في 23 من محرم سنة (288هـ/901م) (232 بصحبة أبي العتاهية ، وخطب الجمعة في جامعها الكبير (233) .
ومما يجدر ذكره أن تسليم صنعاء تم وفق خطة مدروسة بدقة ، فكانت جميع المراسلات تجري بصورة سرية (234) .
ولما كان الهادي على مقربة من صنعاء ، عمل أبو العتاهية الحيلة ، لتسليم صنعاء إليه ، فأذاع أنه خارج لمحاربة الهادي ، وأمر الجفاتم (235) ، بالمسير إلى موضع يقال له السر شمالي صنعاء (236) في بني حشيش (237) ، ومعهم جماعة من بني عمه المنافسين له ، وأمرهم بألا يبرحوا مكانهم ، حتى يأتيهم أمره (238) .
أقدم أبو العتاهية على هذه الحيلة ليسهل على الهادي دخول صنعاء ، لما كان يخشاه من معارضة الأمراء اليمنيين من آل يعفر ، وقرابته من آل طريف ، فضلاً عن غيرهم من رجال جفتم (239) ، الذين يصفهم مؤلف سيرة الهادي (240) بقوله : (( وكانوا هؤلاء فساقاً ظلمة )) ، فقد اقتطع كل رجال من آل طريف بلداً من اليمن ، يأكله جوراً وظلماً وفسقاً (241) ، وقد ويفرض عليه ما شاء ، ويتحكم في أهله كيف يشاء (242) ، حتى وصل الأمر بأحدهم ، وهو إبراهيم بن خلف حد إباحة جيشان (243)، لمن كان معه من الجنود ، واستباحوا نسائها (244) .
أما عن رجال جفتم ، فيذكر صاحب أنباء الزمن (245) ، أنه ربما حمل الرجل على المرأة والصبي من السوق إلى الفجور ، ولا يقدر أحد معارضته ، (( وصادروا الناس ، وعاملوهم بغير القياس )) (246) ، ومما يجدر ذكره أن أبا العتاهية كان يمد الهادي بالعساكر والأموال في الحروب التي خاضها لإخضاع القبائل منذ أن وصل إلى البمن (247) .
لما بلغ عبد الله بن جراح – من آل طريف – ، والجفاتم خبر دخول الهادي صنعاء بمعونة أبي العتاهية ، أقبلوا من السر وهم يقولون : (( لا نريد العلوي ، ولا يدخل بلدنا ، وكذلك قول آل طريف جميعاً )) (248) ، واتفقوا أن يثيروا الخلاف بين الهادي وأصحابه (249) ، وعاثوا فساداً داخل المدينة (250) ، وأخذ أبو العتاهية يدعوا زعماء الفتنة إلى السكينة والهدوء (251) ، والرجوع عما اعتزموه من مهاجمة الهادي ، وأصحابه ، فلم يصغوا لقوله ، ورموه بالنبل والحجارة (252) ، وانضم إليهم من أهل صنعاء زهاء عشرة آلاف راجل ، وستمائة فارس بالجفاتم (253) ، ثم حاول أبو العناهية استمالة العسكر بأن يزيد رواتبهم ، وأرزاقهم ، لكن محاولته لم تلق قبولاً منهم ، وقالوا : (( لا نريد العلوي )) (254) .
ولما بدأ القتال بينهم وبين الطبريين من أصحاب الهادي ، انهزم الطبريون (255) ، فخرج إليهم الهادي في أصحابه ، وحمل عليهم حملة أسفرت عن هزيمتهم ، وخروجهم من صنعاء (256) ، واستطاع أن يضم إلى جانبه جند صنعاء بزيادة رواتبهم (257)، وقضى بذلك على الفتنة (258) .
لما استقرت الأحوال للهادي في صنعاء ، ودانت له بالولاء والطاعة سلم إليه أبو العتاهية جميع ما في يده من الأموال ، والدواب ، والخيل والأسلحة (259) ، واعتزل الولاية ، ومهام منصبه طائعاً مختاراً (260) .
بعث الإمام الهادي عماله على المخاليف (261) ، ثم وجه كتاباً إلى أهل صنعاء (262) ، دعاهم فيه إلى الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ،وركز فيه على الجهاد ، وفضله كما نوه بانتمائه إلى بيت النبوة ، وأشار إلى أنه لم يأت ببدعة ولم يخرج بدعوته عن رأي الجماعة ، ويتجلى ذلك في قوله (263) : (( لست بزنديق ، ولا دهري ، ولا مجبر ، ولا قدري .. وإلى الله أبرأ من كل رافض غوي .. ، ومن كل معتزلي غالي ، ومن جميع الفرق الشاذة .. )) ، ودعا الإمام الهادي إلى نفسه (264) ، فبايعه الناس (265) ، ونقش اسمه على الدينار والدرهم (266) ، والطرز (267) ، وأقيمت له الخطبة بالإمامة على المنابر (268) ، واسند قضاء صنعاء إلى محمد بن أحمد بم زريق الأعم مولى بني العباس (269) .
لم يمض شهر على دخول الهادي صنعاء ، حتى عزم على الخروج إلى شبام كوكبان (270) ، معقل بني يعفر ، فتوجه إليها في أول صفر سنة (288هـ/901م) في صحبة أبي العتاهية ، وبعد أن خضعت له شبام (271) وجهاتها ، ثم عاد على صنعاء (272) ، وبعد أن أوعز إلى أبي العتاهية بسجن آل يعفر كلهم (273) ، وأكثر آل طريف ، في أماكن متفرقة في شبام ، وضهر (274) ، وصنعاء (275) ، وحرصاً على استقرار الأمور ، والتخلص من مناوئيه .
استقر رأي الهادي بعد عودته إلى صنعاء ، وعلى توسيع رقعة دولته ، فاستخلف عليها أخاه عبد الله بن الحسين ، وسار بعساكره نحو الجنوب (276) ، وكان كلما نزل بمنطقة عين عليها عاملاً ، واستمر الإمام الهادي في مسيرته حتى وصل إلى ذمار (277) ، وأقام بها أياماً ، وولى عليها إبراهيم بن جعفر الفطيمي ، ثم رجع منها إلى يحصب (278) ، ورعين (279) ، ونواحيها (280) وواصل الهادي سيره نحو الجنوب حتى وصلإ إلى منكث (281) ، وأقام بها أياماً ، وولى عليها عبد الله بن الحسين الفطيمي (282) ، وأمره بتقوى الله ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وانضم إليه أبو العشيرة ابن الروية (283) في جيش كبير ، ودخل في طاعته (283) ، وسار معه حتى وصل إلى جيشان (284) من بلاد قعطبة (285) ، ومن جيشان أرسل الإمام الهادي رجلاً من أهل طبرستان يقال له (( علي بن ذركان )) فولاه على عدن (286) ، وأوصاه بتقوى الله ، ثم رحل الهادي من جيشان ، بعد أن نظم أمورها ، واستخلف عليها أبا عبد الله الرازي والينا عليها (287) ، وعاد باتجاه الشمال على طريق رداع وعنس (288) إلى صنعاء في آخر ربيع الأول سنة (288هـ/901م) (289) .
لم يمض وقت طويل على عودة الهادي إلى صنعاء حتى خرج منها إلى شبام (290) بعد أن استخلف على صنعاء ابن عمه علي بن سليمان (291) ، ووجه ابنه أبا القاسم محمد على رأس جيش إلى البون من بلاد همدان ، لقتال الخارجين على طاعة الهادي .
وهكذا استطاع الإمام الهادي أن يفرض سيطرته على اليمن من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها ، بعد هذه الجولة ، التي لم تستغرق أكثر من ثلاثة شهور .
ولما دانت له البلاد بالولاء والطاعة ، واستوثق له الأمر فيها ، وجه أخاه عبد الله بن الحسين إلى الحجاز ، ليأتي بأهله إلى صنعاء (292) .
وصفوة القول إن هذه الفترة تعتبر من أهم الفترات في تاريخ الدولة الزيدية ، فقد استطاع الهادي الهادي أن ينتزع صنعاء من يد أسعد بن أبي يعفر (293) ، ويستولي عليها ، واتسعت رقعة دولته ، وأصبحت تضم من نجران شمالاً إلى عدن جنوباً ، وبعث برجاله ينشرون الدعوة ، ويقيمون حكم الله ، غير أن الأوضاع في اليمن لم تستقر نتيجة لحركات التمرد ، والعصيان ، مما حمله على خوض كثير من المـعارك ، لمواجهة هذا التمرد .

بحث سريع