كبف أصله وأزوره وقد ظلمني ؟

بواسطة | الشريف محمد الصمداني
2009/04/16
من الأمور المؤلمة للنفس أن تجد في مواسم الأفراح كالأعياد و المناسبات الاجتماعية كالزواج و اللقاءات و الرحلات وغيرها شنآناً من الأقارب تجاه بعضهم البعض و ازوراراً بالجانب يصل إلى حد القسوة و الخشونة في التصرفات القولية و الفعلية .
و لو فتشت في سبب هذه الظاهرة لوجدت أنها محكومة بكثير من الأسباب و المداخلات النفسية ، و من أشهر تلك الأسباب : سلب الحقوق و أكل الأموال والظلم من أحد الأطراف للطرف الآخر ؟! و قد تكون مسائل معلقة لسنين طويلة ، تطاول عليها العمر ، وسارت بخبرها الركبان ، و ولدت و ماتت أجيال و رجال ، و هي كما هي ! و لسان حال المظلوم ينشد في سكك القبيلة :
                   و ظلم ذوي القربى أشد على           المرء من وقع الحسام المهند
فإذا انضاف إلى ذلك انتساب المظلوم إلى بيت رئاسة وسؤدد و مجد ، فهناك لا يتحكم في المواقف و الانفعالات إلا الذي فطر السموات و الأرض !
و في مواسم الفرح و الأعياد و المناسبات ، تلوح مبادرات الاصلاح ورأب الصدع ، و تنمو صلات الرحم ، وتزدهر الحياة الاجتماعية ، و تتبادل الزيارات والقبلات ، و تنبت فيافي الياسمين و أنواع الورود وقد كانت لوقت قريب لا ينبت فيها إلا شجر العضاه والقتاد و الحنظل !
و مع هذا تظل طائفة من الناس لا يمكنها أن تتعايش مع هذه المواسم ، وتجدهم اكثر الناس ضيقاً منها ، لا لشيء إلا لأنهم لم يوفوا حقوقهم كاملة غير منقوصة ؟!
يقول قائل هؤلاء : كيف أستطيع أن أطهر قلبي من الحقد و الشحناء تجاه فلان – أخيه او عمه أو قريبه أو صهره – و قد أكل مالي ، و أخذ حقي من الميراث ، و تعدى على مالي من الأوقاف أو الشركات ، و أشباه ذلك من المسائل ..
و غاية ما يمكن قوله ههنا – ونحن نريد مراعاة الجانب البشري للنفس البشرية ، و نختط المنهج الشرعي في معالجة هذه الحالات – : لابد من التخالص المُرْضِي بين الأفراد في الدنيا ، فتؤدى الحقوق على وضوح ووفاء وشفافية ، ورغبة صادقة في العدل ، أو الارتفاع إلى المبادرة بالاحسان احتساباً لوجه الله و طلباً لصفاء الأخوة وسمو العلاقة و وصلاً للرحم التي تعلقت و استعاذت بالله من مقام القطيعة ..
فإذا لم يستطع التفاهم المتبادل تخليص الحقوق تخليصاً مرضياً ، فينبغي التصارح بما في النفوس من عدم الاقتناع بما تمَّ ، ويمكن إشراك من يراه الطرفان ليكون حكماً يحل المشكلة العالقة بينهما .
فإذا تحكم شح النفوس فيهما ، و أصر من بيده الشيء على أن لا حق لقريبه في هذا الشيء ، و أنه لن يتنازل له عن شيء ، فإن أمام الثاني الذي يرى لنفسه الحق خيارين :
أولهما : أن يحتسب حقه المجحود عند الله إما مسامحة لقريبه طلباً لكرم الله و مسامحته حينما يقول يوم القيامة " نحن أحق بالمسامحة و التفضل منك " ، فيفيض عليه من كرمه وبره ومعروفه ما يجعله ينسى ألم ما يجد من فوات ذلك الحق ن وهذا مجرب عند العقلاء ، فإنهم يتركون كثيراً مما لهم لتهنأ نفوسهم وتسعد حياتهم . و إن لم ترض نفسه بالمسامحة والعفو ، فليرجيء طلب الأداء أمام الله يوم الحساب ، " ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار " و الانسان العاقل الحكيم يؤخر بعض مطالبه لنيل ما يريد من المكاسب الدنيوية و الاخروية ..
ثانيهما : أن يطلب حقه قضاءً ، و يهدف من ذلك رضا النفس و إغلاق باب الشر وفض الخصومة لا تأجيج المشاعر و زيادة القطيعة ، فإن من الناس من يتخذ أبواب المحاكم سلماً لتوغير الصدور ، و زيادة الشحناء ، وهذا يخالف منهج الاسلام عندما يدعو و يلزم باللجوء إلى الحكم الشرعي والقضاء الالهي . و لهذا قال تعالى :" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت و يسلموا تسليماً " … و كثيراً ما تكون أروقة المحاكم سبباً لوجود الحرج النفسي ، وليس ذلك بسبب حكم الله ، كلا وحاشا ، فإنه رحمة كله ، و لكن لأن تلك النفس المطالبة بحقها لا يمكن أن ترضى بشيء ، فإن قضي لها وجدت على الطرف الاخر من مشاعر الاستعلاء و الخيلاء و التشفي ما لا يعلمه إلا الله ، و إن قضي عليها ، ازدادت مشاعر الغضب والحقد و القطيعة لذلك الخصم القريب البعيد !! فالقضية كما هي معلقة .. و لم يصل المجتمع المسلم ممثلاً بالحكم الشرعي في مباني القضاء إلى النتيجة المرجوة من فض النزاع و إرجاع النفوس على ما كانت عليه .. و السبب يعود إلى تلك النفس المطالبة بحقوقها و أموالها ورفع الظلم عنها ..
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله :" .. فإن الله لم يوجب على من له عند أخيه المسلم المؤمن مظلمة من دم أو مال أو عرض أن يستوفي ذلك ، بل لم يذكر حقوق الآدميين في القران إلا ندب فيها إلى العفو ، فقال تعالى :" و الجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له " ، وقال :" فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " … ، " [1].
و قد يتوهم متوهم أن العفو وإسقاط الحق يذهب مقام النفس وقوة الشخصية امام الناس . قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :" .. من توهم أن بالعفو يسقط حقه أو ينقص : غالطٌ جاهلٌ ضالٌ ، بل بالعفو يكون أجره أعظم ، و كذلك من توهم أنه بالعفو يحصل له ذل ، ويحصل للظالم عز واستطالة عليه ، فهو غالط في ذلك ، كما ثبت في الصحيح و غيره ع النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ثلاثٌ إن كنت لحالفاً عليهن : ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ، وما نقصت صدقة من مال ، و ما تواضع احدٌ لله إلا رفعه الله " .. " .
ثم قال رحمه الله تعالى في كلام نفيس له في هذا الباب :" و الناس في الباب أربعة أقسام :
· منهم من ينتصر لنفسه و لربه ، وهو الذي يكون فيه دينٌ وغضب .
· و منهم من لا ينتصر لا لنفسه ولا لربه ، وهو الذي فيه جهل و ضعف دين .
· و منهم من ينتقم لنفسه لا لربه ، وهم شر الأقسام .
· و أما الكامل ، فهو الذي ينتصر لحق الله ، ويعفو عن حقه " أهـ [2].


[1] مجموع الفتاوى (35/85 ).
[2] مجموع الفتاوى 30 / 368 ، 370 .
{moscomment}

بحث سريع