اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً

بواسطة | مشرف النافذة
2005/04/16
هذه جملة من دعاء نبوي مأثور ، خرجه البخاري و مسلم و الترمذي وابن ماجة ، يدعو فيه عليه الصلاة والسلام لآله بأن يكون رزقهم قوتاً .. كثيراً ما يتمنى المرء لمن يلوذ به ولمن يتصل به بأدنى سبب أن يكون على أهنىء حال و على أرغد عيش ، و لو قلبنا أحوال الناس والتاريخ لوجدناه يدلنا على أنه يعز على أصحاب الشرف التام و المجد الكامل أن يكون من لهم به أدنى صلة على حال معوزة ، لا يجدون فيها رغد العيش و لا طيبه ..فضلاً عن أن يطردوا من الأبواب أو يقفوا بموائد اللئام أو تتنكر لهم الأيام ..
و في هذا الحديث نجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يكتفي بدعوة مباركة يطلب فيها لآله مجرد " القوت " من الرزق …
كم ترث حقاً لأناس ينصبون و يتعبون من أجل المحافظة على جاه أو منزلة أو توفير مخصصات لمن بعدهم ؟ هذا محمد صلى الله عليه وسلم يدعو لآله بأن يكون رزقهم قوتاً و كفافاً !! إنها دعوات صادقة تخرج من قلب امتلأ بحقيقة الإيمان والعبودية ، فرأى الأمور على حقيقتها كما هي ، أدرك قيمة الدنيا و زهرتها ، فعزفت نفسه عليه الصلاة والسلام عن جبال مكة و قد خير فيها أن تكون بين يديه تجري أنهاراً و ذهباً وفضة .. أيفعل ذلك ثم يطلبها لأولاده و لآله من بعده ؟!
ليس هذا الظن به و لا بدعوته عليه الصلاة والسلام ، فما هذا إلا ظن السوء .. فمن نفذ إليه بصيص من نور الرسالة أدرك عظمة الرسالة التي كان يحمل بين جنبيه عليه الصلاة والسلام ..
ورد في بعض روايات الحديث تفسير القوت بأنه " الكفاف " كما في رواية :" اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً " ، و هي تفسر معنى القوت المقصود ؛ و لكن قد ذهب بعض شراح الحديث إلى أن المراد بالقوت :" سدُّ الرمق " ، كما فعله الإمام النووي في " رياض الصالحين " ، و قد تعقبه محمد بن إبراهيم الوزير اليماني بقوله – بعد أن استغربه – :" .. و ليس كذلك ، إنما القوت كفاية الحاجة .. " ، ثم قال :" فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كره الزيادة في الغنى " . أهـ[1] .
و المعنى الذي يمكن استفادته من الحديث : أي بلغة تسد رمقهم و تمسك قوتهم بحيث لا ترهقهم الفاقة و لا تذلهم المسألة و الحاجة ، ولا يكون فيهم فضول يصل إلى ترفه و تبسط ليسلموا من آفات الغنى والفقر .. و الكفاف ما يفضل عن الشيء و يكون بقدر الحاجة ، و القوت ما يسد به الرمق . قيل : سمي قوتاً لحصول القوة به .. و سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث طريق الاقتصاد المحمود الذي هو جزء من خمس وعشرين جزءاً من أجزاء النبوة كما ثبت في الحديث ، ذلك أن كثرة المال تلهي ، و قلته تنسي ، فما قل منه وكفى خير مما كثر و ألهى [2]..
و في هذا الدعاء إرشاد لعامة الأمة إلى أن الزيادة على الكفاف بكثير لا ينبغي للعبد العاقل أن يشغل نفسه فيه ، إذ إن الاستكثار من ذلك قد يزاحم المقصود من الخلق و الإيجاد ، و هو التعبد لله سبحانه وتعالى ..
و الناظر في أحوال الناس اليوم ينكر منهم ولا يعرف ، إذ تراهم يتهافتون تهافت الفراش على النار .. هذا يطارد أخبار الأسهم و الشركات ، و الآخر فقد أسرته ، و الآخر دخل مستشفى الصحة النفسية بسبب خسارة مالية ، و الآخر مدمن على المهدئات و المسكنات بسبب متابعته للأسهم و صعود و نزول مؤشراتها ، و آخر قام بعدة محاولات للانتحار ..
و لو تأمل هؤلاء في الغاية من خلق الإنسان لتغيرت نظرتهم إلى أنفسهم و إلى نشاطاتهم التي يقومون بها ، و لأصبحوا يبحثون عن الراحة النفسية .
إن توفر القوت و وجود الكفاف يعطي النفس دفعات روحية عميقة جداً ، و النفس عادة ما تكون مكبلة بالمتع والملاهي والشهوات ، و كثيراً ما تقع أسيرة لها ، متيمة بها ، كلفة بالسؤال عنها ، و الكفاف والقوت يطرد ذلك كله .. إنَّ " اكثر المحبين للدنيا لا يحبونها على الوجه المسنون ، بل إنما يحبها الكثيرون بمجرد الطبيعة البشرية وداعية الهوى ، وذلك يكون في مرتبة النقص لا في مرتبة التحريم مهما بقي صاحبه على حد الشريعة في ترك الحرام و أداء الواجب … " [3].
و لا يعني ذلك الكلام أن في الحديث دعوة إلى الفقر و المسكنة و الرضا بذلك ، بل الكفاف و القوت في أحيان كثيرة لا يمكن تحققه إلا بالسعي والكسب .. و لكن السؤال أي سعي و أي كسب ؟
ثم إن هذا " الكفاف " و " القوت " مما يختلف باختلاف الأحوال و الأشخاص ولا يوجد ضابط ينضبط به من جهة التعريف والحد ، فعلى مستوى الأفراد نجد من يتعود على وجبة واحدة في اليوم ، و هو يجد كفايته قد تمت بذلك و قوته قد قام ، و منهم من تكفيه الوجبتان ، ولا يطلب غيرها ، و منهم من لا تكفيه إلا ثلاث وجبات إما لمزيد عمل يقوم به أو لحاجة بدنه الخاصة ..
و على مستوى الأسر تجد أن الأسرة كثيرة العدد تختلف في قوتها و كفافها عن الأسرة قليلة العدد ، و كفاف هذه وتلك ما يسد رمق العيال .
و المحمود من القوت والكفاف ما حصلت به العبادة بمفهومها الشامل أو أعان عليها ..
و لو تأمل المتأمل في أحوال آل البيت في صدر الاسلام لوجد البساطة و الكفاف ، إنه ليس الفقر و لكنه الغنى الذي يتعالى بالنفس عن زهرة الحياة الدنيا و متاعها ، و لهذا المعنى كان بعض أهل العلم ينهى عن إطلاق لفظ " الفقر " على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقول : " هو الغني بالله تعالى " ، كما حكاه السبكي في " طبقات الشافعية " عن والده .. لقد كانت تمر ثلاثة أهلة لا يوقد في بيته صلى اله عليه وسلم نار ! و يدخل عليه عمر رضي الله عنه غرفته يوم أن كان مغاضباً لنسائه ، قد احتجب عنهن ، فينظر في أرجاء الغرفة فيرى سريراً من رمل و وسادة حشوها ليف ، و يذكر احوال فارس والروم ، ممن عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ، … فبكى رضي الله عنه ! فقال عليه الصلاة والسلام مغضباً :" أفي شك أنت يا ابن الخطاب " !!
لقد كان بعض أهل البيت يعلم و يتحقق صحة نسبه في بيت النبوة بالنكبات و المصائب التي تصيبه ، فيعلم أنها ليست إلا تصحيحاً للمسار وانتشالاً له من حمأة ما أقحم نفسه فيه مما لا يصلح لمثله !! هذا محمد بن محمد بن زيد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق ، الملقب بالمرتضي ذي الشرفين ، المولود سنة 405 : " سمع الحديث الكثير و قرأ بنفسه على الشيوخ ، وصحب الحافظ أبا بكر الخطيب ، فصارت له معرفة جيدة بالحديث ، وسمع عليه الخطيب شيئاً من مروياته ، ثم انتقل إلى سمرقند و املى الحديث بأصفهان ، وكان يرجع إلى عقل كامل ، و فضل و مروءة و كانت له أموال جزيلة و املاك متسعة و نعمة وافرة . يقال : إنه ملك أربعين قرية ! وكان كثير الصدقة والبر و الصلة للعلماء والفقراء ، وبلغت زكاة ماله الصامت عشرة آلاف دينار غير العشور ، وكان له بستان ليس لملك مثله ! فطلبه منه ملك ما وراء النهر ، واسمه الخضر بن إبراهيم ، عارية ، ليتنزه فيه ، فأبى عليه ، وقال : أعيره إياه ليشرب فيه الخمر بعدما كان مأوى أهل العلم والحديث و الدين ؟! فأعرض عنه السلطان و حقد عليه ! ثم استدعاه إليه ليستشيره في بعض الأمور على العادة ، لما حصل عنده قبض عليه وسجنه في قلعته و استحوذ على جميع أملاكه و حواصله ، وكان يقول : ما تحققت صحة نسبي إلا في هذه المصادرة : فإني ربيتُ في النعيم ، فكنت أقول : إن مثلي لابد أن يبتلى !! ثم منعوه الطعام والشراب حتى مات رحمه الله تعالى " [4]
و لو نظرت في أحوال كثير من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدت القوت و الكفاف ، و لوجدت أنهم يصرفون عن الرضا والقناعة بملهيات الزمان و المكان و البيئة التي ينشأ فيها المرء منهم ، و ما هم إلا بشرٌ ممن خلق الله وذرأ ، و لكن ضريبة ذلك عظيمة على النفس و على تربية الأبناء و البنات ، و العاقل يختار لنفسه و يسوس حاله ، و يقدر أصل الخلق والايجاد و ينظر في زوال الدنيا و هجوم الآخرة ، فما الذي سيخرج به منها ؟!
يقول تعالى : " هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم و تكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة و اعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى و نعم النصير " ،،،
فاللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتاً … اللهم آمين


[1] العواصم والقواصم في الذب عن سنة أ القاسم ( 8/195 ) .
[2] بتصرف من " فيض القدير " للمناوي عند شرح الحديث .
[3] العواصم والقواصم ( 8 / 194 ) .
[4] البداية والنهاية لابن كثير ( 12/142-143 ) .

بحث سريع