حكم ساب الصحابة وعقوبته

بواسطة | د.ناصربن علي الشيخ
2005/04/16
اختلف أهل العلم في الحكم والعقوبة التي يستحقها من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جرحهم هل يكفر بذلك وتكون عقوبته القتل ، أو أنه يفسق بذلك ويعاقب بالتعزيز .
1/ ذهب جمع من أهل العلم إلى القول بتكفير من سب الصحابة رضي الله عنه الله عنهم أو انتقصهم وطعن في عدالتهم وصرح ببغضهم وأن من كانت هذه صفته فقد أباح دم نفسه وحل قتله ، إلا أن يتوب من ذلك ويترحم عليهم .
وممن ذهب إلى هذا القول من السلف الصحابي الجليل عبد الرحمن بن أبزى(1) وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي(2) وأبو بكر بن عياش(3) وسفيان بن عيينة(4) ومحمد بن يوسف الفريابي(5) وبشر بن الحارث المروزي(6) بشار العبدي(7) وغيرهم كثير ، فهؤلاء الأئمة صرحوا بكفر من سب الصحابة وبعضهم صرح مع ذلك أنه يعاقب بالقتل ، وإلى هذا القول ذهب بعض العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية .
قال الإمام الطحاوي في عقيدته : (( وحبهم – أي الصحابة رضي الله عنه الله عنهم – دين وإيمان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان ))(8) ، ومن سبهم وطعن فيهم فقد زاد على بغضهم . وقال السرخسي(9) وهو أحد كبار علماء الحنفية : (( فأما من طعن في السلف من نفاة لاحتجاجهم بالرأي في الأحكام فكلامه كما قال الله تعالى : { كبُرتْ كلمةً تخرج من أفواههم إنْ يقولون إلا كذبا }(10) لأن الله تعالى أثنى عليهم في غير موضع من كتابه ، كما قال الله تعالى : { محمدٌ رسول الله والذين معهُ أشداءُ على الكفار رحماء رينهم }(11) ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم خير الناس فقال : (( خير الناس قرني الذي أنا فيهم ))(12) ، والشريعة بلغتنا بنقلهم ، فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام ، دواءه السيف إن لم يتب ))(13) .
وقال الحمبيدي القرشي تلميذ الشافعي وشيخ البخاري موضحاً العقيدة التي يجب على المسلم أن يلتزمها : (( والسنة عندنا أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشره حلوه ومره )) .. إلى أن قال (( والترحم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم فإن الله – عز وجل – قال : { والذين جاءُوا من بعدهم يقولونَ ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم فمن سبهم أو بعضهم أو أحداً منهم ، فليس على السنة وليس له في الفيء حق أخبرنا بذك غير واحد عن مالك بن أنس أنه قال : قسم الله الفيء فقال : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم } ، ثم قال : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا } الآية .. فمن لم يقل هذا لهم عن الإمام مالك أنه قال : (( والذي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له سهم ، أو قال : نصيب في الإسلام ))(14) .
وقال القرطبي بعد أن ذكر قول مالك : (( من أصبح من الناس في قلبه غليظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية { محمد رسول الله } إلى قوله { ليغيظ بهمُ الكفَّار }(15) قال : (( لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله ، فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين ))(15) .
وقد ذكر القاضي عياض عن بعض المالكية أنه ذهب إلى أن عقوبة ساب الصحابة أنه يقتل حيث قال : (( وقال بعض المالكية يقتل ))(16) .
وذكر الألوسي أن القاضي حسين(17) من علماء الشافعية ذهب إلى أن سب الشيخين كفر وإن لم يكن بما فيه إكفارهما – ثم قال – وإلى ذلك ذهب معظم الحنفية(18) .
وقال الإمام الذهبي مبيناً حكم الطاعن في الصحابة والساب لهم : (( فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم وإضمار الحقد فيهم وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وفضائلهم ومناقبهم وحبهم ولأنهم أرضى الوسائل من المأثور والوسائط من المنقول والطعن في الوسائط طعن في الأصل والإزدراء بالناقل ازدراء بالمنقول وهذا ظاهر لمن تدبره وسلم من النفاق ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته ))(19) .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر اختلاف أهل العلم في عقوبة ساب الصحابة ونص على أن بعض الشافعية يرى قتله ، فقد قال رحمه الله : (( واختلف في ساب الصحابي ، فقال عياض : ذهب الجمهور إلى أنه يعزر ، وعن بعض المالكية يقتل(20) وخص بعض الشافعية ذلك بالشيخين والحسنين فيحكى القاضي حسين في ذلك وجهين : وقواه السبكي في حق من كفر الشيخين والحسنين فيحكى القاضي حسين في ذلك وجهين : وقواه السبكي في حق من كفر الشيخين ، وكذا من كفر من صرح النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانه أو تبشيره بالجنة إذا تواتر الخبر بذلك عنه لما تضمن من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم(21) )) اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً أن من علماء الحنابلة من ذهب إلى القول بتكفير من يعتقد سب الصحابة حيث قال : (( وصرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم – ثم قال – وقال أبو بكر عبد العزيز(22) في المقنع : فأما الرافضي فإن كان يسب فقد كفر فلا يزوج ولفظ بعضهم وهو الذي نصره القاضي أبو يعلى(23) أنه إن سبهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم كفر بذلك ، وإن سبهم سباً يقدح – مثل أن يسب أبا أحدهم أو يسبه سباً يقصد به غيظه ونحو ذلك لم يكفر ))(24) .
وجاء في كتاب (( الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ))(25) : (( وقال في نهاية المبتدي : (( من سب صحابياً كفر وإلا فسق ، وقيل : وعنه يكفر )) اهـ .
وأما أبو محمد بن حزم الظاهري ، فإنه ذهب إلى أن ساب الصحابة لابد من تعليمه وتعريفه أولاً بما يجب للصحابة ، فإن تمادى بعد ذلك يكون فاسقاً ، وأما إذا عاند ما جاء عن الله ورسوله فيهم ، فهنا يكون كافراً مشركاً حيث قال : (( حكمه – أي : ساب الصحابة – أن يعلم ويعرف ، فإن تمادى فهو فاسق وإن عائد في ذلك الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك )) اهـ(26) .
فهذه النقول فيها توضيح أن طائفة من أهل العلم يرون كفر ساب الصحابة ومنهم من قرن هذا الحكم عليه أن يعاقب معه بقتله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : (( وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة ))(27) . وقد استدل أصحاب هذه النقول بأمور منها :
1/ إن سب الصحابة وانتقاصهم والطعن فيهم إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وانتقاص له وحط من مكانته عليه الصلاة والسلام ، لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم وذكرهم بخير وأوصى بهم خيراً ومن المعلوم أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر فيكون سب أصحابه كفراً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( وأذى الله ورسوله كفر موجب للقتل ، كما تقدم ، وبهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار الصحبة وأذى سائر المسلمين وبيت أذاهم بعد صحبتهم له ، فإنه على عهد ققد كان الرجل ممن يظهر الإسلام يمكن أن يكون منافقاً ويمكن أن يكون مرتداً ، فأما إذا مات مقيماً على صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مزنون(30) بنفاق فأذاه أذى مصحوبه قال عبد الله بن مسعود : اعتبروا الناس بأخذانهم ، وقالوا : عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال مالك رضي الله عنه الله عنه : (( إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي عليه الصلاة والسلام ، فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال : رجل سوء ، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين ، أو كما قال ، وذلك أنه ما منهم رجل إلا كان ينصر الله ورسوله ويذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله وبعينه على إظهار دين الله وإعلاء كلمة الله وتبليغ رسالات الله وقت الحاجة ، وهو حينئذ لم يستقر أمره ولم تنتشر دعوته ولم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه ، ومعلوم أن رجلاً لو عمل به بعض الناس نحوهذا ثم آذاه أحد لغضب له صاحبه ، وعد ذلك أذى له وإلى هذا أشار ابن عمر ، قال نسير بن ذعلوق(31) : سمعت ابن عمر رضي الله عنه الله عنه يقول : (( لا تسبوا أصحاب محمد ، فإن مقام أحدهم خير من عملكم كله )) رواه اللالكائي ، وكأنه أخذه من قول النبي صلى الله عليه وسلم (( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم أو نصيفه ))(32) ، وهذا تفاوت عظيم جداً(33).
2/ إن الطعن في الصحابة والتجريح لهم مفاده إبطال جميع أحكام الشريعة الإسلامية إذا هم نقلتها والمبلغون لها .
قال عمر بن حبيب بن محمد العدوي مخاطباً هارون الرشيد عندما جرت مسألة في مجلسه تنازعها الحاضرون واحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه الله عنه ، فقال قائلون منهم : لا يقبل الحديث لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه ، ودافع عنه عمر بن حبيب ومن ضمن ما قاله للرشيد : (( إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة ، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود عير مقبول ))(34) . فاقتنع الرشيد بقوله وأيده عليه .
وقال القرطبي : (( فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين )) (35) .
3/ إن الطعن في الصحابة يؤدي إلى إنكار ما قام عليه الإجماع (( قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم ومصادمة المتواتر من الكتاب والسنة الدالين على أن لهم الزلفى من ربهم ))(36) .
ولا شك أن من يعارض كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل ما دلا عليه فإنه في خطر عظسم ، بل إنه لو أنكر حرفاً من القرآن فإن ذلك خرجه من الإسلام ، ويدخله في الكفر والعياذ بالله .
قال محمد صديق حسن خان : (( من خالف الله ورسوله في أخبارهما وعصاهما بسوء العقيدة في خلص عباده ، ونخبه عباده فكفره بواح لا سترة علين ))(37) اهـ .
4/ ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار ))(38) .
ورويا أيضاً : من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال في الأنصار : ((لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق ، من أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله ))(39.
وعند مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر ))(40) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : (( فمن سبهم فقد زاد على بغضهم ، فيجب أن يكون منافقاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، وإنما خص الأنصار – والله أعلم – لأنهم هم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه ومنعوه ، وبذلوا في إقامة الدين النفوس والأموال وعادوا الأحمر والأسود من أجله وآووا المهاجرين وواسوهم في الأموال ، وكان المهاجرون إذ ذاك قليلاً غرباء فقراء مستضعفين ، ومن عرف السيرة وأيام رسول الله عليه الصلاة والسلام وما قاموا به من الأمر ، ثم كان مؤمناً يحب الله ورسوله ، لم يملك أن لا يحبهم ، كما أن المنافق لا يملك أن لا يبغضهم وأراد بذلك – والله أعلم – أن يعرف الناس قدر الأنصار لعلمه بأن الناس يكثرون والأنصار يقلون وأن الأمر سيكون في المهاجرين فمن شارك الأنصار نصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بما أمكنه فهو شريكهم في الحقيقة ، كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله }(41) فبغض من نصر الله ورسوله من أصحابه نفاق ، اهـ 42) .
هذه بعض أدلة الفريق الأول من أهل العلم التي استدلوا بها على ما ذهبوا إليه من أن ساب الصحابة يكفر بسبه وانتقاصه لهم وطعنه في عدالتهم .
2/ ذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة لا يكفر بسبهم بل يفسق ويضلل ولا يعاقب بالقتل ، بل يكتفى بتأديبه وتعزيره تعزيراً شديداً يردعه ويزجره عن ارتكاب هذا الجرم الذي يعتبر من كبائر الذنوب وفواحش المحرمات ، وإن لم يرجع تكرر عليه العقوبة حتى يظهر .
فقد روى اللالكائي : عن الحارث بن عتبة ، قال : إن عمر بن عبد العزيز أتى برجل سب عثمان ، فقال : ما حملك على أن سببته ؟ ، قال : أبغضه ، قال : وإن أبغضت رجلاً سببته ؟ ، قال : فأمر به فجلد ثلاثين سوطاً(43) .
وروى الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم(44) الأحوال قال : أتيت برجل قد سب عثمان ، قال : فضربته عشرة أسواط ، قال :ثم عاد لما قال ، فضربته عشرة أخرى ، قال فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطاً ))(45) .
وممن ذهب من الأئمة إلى ما ذهب إليه عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول الإمام مالك والإمام أحمد وكثير من العلماء ممن جاء بعدهما .
قال القاضي عياض مبيناً ما ذهب إليه الإمام مالك وبعض علماء المالكية في هذه المسألة :
((وقد اختلف العلماء في هذا ، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع ، قال مالك رحمه الله : (( من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، ومن شتم أصحابه أدب )) ، وقال أيضاً : من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال : كانوا على ضلال وكفر ، قتل ، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً .
وقال ابن حبيب(46) : (( من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدباً شديداً ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه وسلم )) اهـ(47) .
قال إسحاق بن راهويه : (( من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس ))(48) .
وقال سحنون(49) : من كفر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم علياً أو عثمان أو غيرهما يوجع ضرباً . وحكى أبو محمد بن أبي زيد عن سحنون فيمن قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إنهم كانوا على ضلال وكفر قتل ، ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل هذا نكل النكال الشديد ))(50) .
وقال الإمام أحمد رحمه الله : (( ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين ، والكف عن الذي جرى بينهم ، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحداً منهم فهو مبتدع رافضي حبهم سنة ، والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم ، فمن فعل ذلك فقد وجب تعلى السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ثم يستتيبه ، فإن تاب قبل منه ، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يتوب ويراجع ))(51) .
قال شيخ الإسلام بن تيمية بعد أن ساق قول أحمد هذا : وحكى الإمام أحمد هذا عمن أدركه من أهل العلم وحكاه الكرماني عنه وعن إسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم .
وقال الميموني : سمعت أحمد يقول ما لهم ولمعاوية ؟ نسأل الله العافية ، وقال لي : يا أبا الحسن : إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء ، فاتهمه على الإسلام )) ، فقد نص رضي الله عنه الله عنه على وجوب تعزيره واستتابته حتى يرجع بالجلد ، وإن لم ينته حبس حتى يموت أو يراجع ، وقال : ما أراه على الإسلام وقال : وأتهمه على الإسلام ، وقال : أجبن عن قتله )) .
قال رحمه الله بعد قول إسحاق بن راهويه المتقدم : (( وهذا قول كثير من أصحابنا منهم ابن أبي موسى ، قال : ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يزوج ، وهذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول وغيرهما من التابعين ))(52) .
وفي مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله أنه قال : سألته عمن شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، رضي الله عنه الله عنهم ؟ ، فقال أبي : أرى أن يضرب ، فقلت له حد ؟ ، فلم يقف على الحد إلا أنه قال : يضرب وقال : ما أراه إلا متهماً على الإسلام ))(53) .
قال القاضي أبو يعلى : فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة وتوقف في رواية عبد الله وأبي طالب عن قتله ، وكمال الحد وإيجاب التعزيز يقتضي أنه لم يحكم بكفره ، قال : فيحتمل أن يحمل قوله : (( ما أراه على الإسلام )) إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف ويحمل اسقاط القتل على من لم يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي قال : ويحتمل قوله : (( ما أراه على الإسلام على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله : ظلموا ، وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وأخذوا الأمر بغير حق ويحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله : كان فيهم قلة علم ، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة ، وكان فيهم سح ومحبة للدنيا ، ونحو ذلك ، قال : ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان : أحدهما يكفر ، والثانية يفسق ، وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره ، حكوا في تكفيرهم روايتين ))(54) .
وقال ملا علي القاري حاكياً الإجماع في حكم سب الصحابة (( ومن سب أحداً من الصحابة فهو فاسق ومبتدع بالإجماع ، إلا إذا اعتقد أنه مباح أو يترتب عليه ثواب كما عليه بعض الشيعة أو اعتقد كفر الصحابة فإنه كافر بالإجماع )) اهـ(55) .
فهذه النقول فيها توضيح أن طائفة من أهل العلم ومنهم عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول والإمام مالك وأحمد وكثير من الفقهاء ذهبوا إلى أن ساب الصحابة فاسق ومبتدع ليس طافراً ، يجب على السلطان تأديبه تأديباً شديداً لا يبلغ به القتل .
واستدلوا لما ذهبوا إليه بأدلة منها :
1/ ما رواه الشيخان في صحيحيهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد وقد سب عبد الرحمن بن عوف : ( لا تسبوا أصحابي .. الحديث )(56) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن سب الصحابة وقع على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وسمع ذلك ، فلم يقل أن الساب كافر ولا أهدر دمه وإنما اكتفى صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك .
2/ ما رواه الإمام أحمد بإسناده إلى أبي برزة الأسلمي قال : (( أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه الله عنه ، قال : فقال أبو برزة ألا أضرب عنقه ، قال : فانتهره وقال : ما هي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ))(57) .
3/ إن الله تعالى ميز بين المؤذي الله ورسوله ومؤذي المؤمنين فيجعل الأول ملعوناً في الدنيا والآخرة ، وقال في الثاني : { فقد احتمل بهناناً وإثماً مبيناً }(59) ، ومطلق البهتان والإثم ليس بموجب للقتل وإنما هو موجب للعقوبة في الجملة ، فتكون عليه عقوبة مطلقة ، ولا يلزم من العقوبة جواز القتل ، ولان النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلأه إلا الله إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو رجل قتل نفساً فيقتل بها ))(60).
ومطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر ، لأن بعض من كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان ربما سب بعضهم بعضاً ، ولم يكفر أحد بذلك ولأن أشخاص الصحابة لا يجب الإيمان بهم بأعيانهم ، فسب واحد لا يقدح في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ))(61) .
هذه أدلة من ذهب من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة غير كافر ولا مهدور الدم وإنما يفسق ويضلل ويبدع ، هذا ما قرره أهل العلم في حكم من ساب الصحابة ، فقد اختلفوا في حكمه كما تقدم على قولين ، فمن قائل بأنه كافر يجب قتله ومن قائل بأنه فاسق مبتدع يعاقب بما دون القتل ، وكل له أدلة على ما ذهب إليه ، والقول الذي تطمئن إليه النفس ويرتاح إليه قلب المؤمن أن من أبغضهم جميعاً أو أكثرهم أو سبهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم ، فإنه يكفر بهذا لأن هذا يؤدي إلى إبطال الشريعة بكاملها ، أو أكثرها لأن الصحابة هم الناقلون لها ، ومن اعتقد أنهم مجروحون وغير عدول فقد طعن في تلك الواسطة التي تلقت الشريعة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومن المستحيل أن تطمئن النفوس إلى شريعة نقلتها مطعون فيهم مجروحون .
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى : (( وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولاً يتوصل به إلي تضليل الأمة وتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم تقدم علياً ، وكفرت علياً إذ لم يتقدم ويطلب حقه في التقديم فهؤلاء قد كفروا من وجوه لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها ، إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن إذ ناقلوه كفرة على زعمهم وإلى هذا والله أعلم أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة ، ثم كفروا من وجه أخر بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى قولهم وزعمهم أنه عهد إلى علي رضي الله عنه الله عنه وهو يعلم أنه يكفر بعد على قولهم(62) لعنه الله عليهم وصلى الله على رسوله وآله ))(63) أهـ .
وكذا يكفر من أبغض واحداً من الصحابة أو أكثر ، لأمر يرجع إلى الصحبة أو النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو الجهاد معه إذ هذا يؤدي إلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأما إذا كان البغض لأمر لا يرجع إلى الصحبة ولا إلى النصرة فحكم هذا أنه فاسق مبتدع على احاكم أن ينكل به نكالاً شديداً لا يبلغ له القتل حتى يظهر التوبة ويرجع عن طعنه في صحابة رسول الله ويعرف لهم حقهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( من لعن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كمعاوية وعمرو بن العاص أو من هو أفضل من هؤلاء كأبي موسى الأشعري وأبي هريرة أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة والزبير وعثمان أو علي أو أبي بكر أو عمر عائشة أو نحو هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم فإنه يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين )) اهـ(64) .

بحث سريع