استجلاب ارتقاء الغرف -14

بواسطة | الحافظ السخاوي
2005/04/17
خـاتـمة
تشتمل على أمور مهمة :
أحدها : أنه ينبغي التّحرّز من الانتساب إليه صلى الله عليه وسلم إلا بحقِّ، فقد روى البخاري في (مناقب قريش ) من (صحيحة) من طريق عبد الواحد بن عبدالله ألنصري، سمعت وائلة بن الاسقع رضي الله عنه يقول :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(إن من أعظم الفرى، أن يدّعي الرجل إلى غير أبيه ،أو يُرِي عينهُ ما لم تَر، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا لم يقُل)
ومن طريق يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الدِّيلي ،عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (ليس من رجل ادّعى لغير أبيه وهو يعلمه ،إلا كفر .ومن ادّعى قوماً ليس له فيهم نسب ،فليتبوّأ مقعده من النار )
وكذا أخرجه مسلم في (صحيحه)وللبخاري ايضاًفي(الفرائض) من (صحيحه)من طريق خالد الحذاء،عن أبي عثمان – هو ألنهدي – ، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ادّعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه ،فالجنة عليه حرامٌ) وأخرجه ابن ماجه من حديث عاصم الأحول ،عن أبي عثمان ألنهدي ،قال : سمعت سعداً وأبا بكرة رضي الله عنهما ،وكُلُّ واحد منهما يقول :سمعت اذناي ووعى قلبي محمدا ًصلى الله عليه وسلم يقول : فَذَكرهُ… وله من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثيم ،عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )من أنتسب إلى غير أبيه ،أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) . وللطبراني في (الأوسط)من طريق عبد الله سَخبرة، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من ادّعى نسباً لا يُعرفُ ، كفر بالله وانتفاء من نسب وأن دقّ ، كُفرٌ بالله ). ومن طريق قيس بن أبي حازم، سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم …فذكر نحوه. ومن الطريق الثاني أخرجه البزار في ( مسنده). والطبراني أيضا في (الأوسط) و (الصغير) معاً. وكذا ابن ماجه من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري ،عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كُفر ٌبامرئِ ادِّعاءٌ إلى نسبٍ لا يعرف ، وجُحدُه وأن دَقّ ). وكذا هو عند احمد بلفظ :( كُفرٌ تَبرٍمن نسبٍ وأن دقّ ،وادّعاء نَسَبٍ لا يُعرف ). ولابن ماجه من حديث مُجاهد ،عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من ادّعى إلى غير أبيه ، لم يرُح رائحة الجنة ، وأن ريحها ليُجد من مسيرة خمس مئة عام ). وكذا هو عند احمد لكن بلفظ : (من قدر سبعين عاماً )،أو من مسيرة سبعين عاماً ).
ولابن ماجه من حديث يحيى بن حرب ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :لما نزلت آيةُ اللعان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أيما امرأة ألحقت بقوم من ليس منهم ، فليست من الله في شيئ ، ولن يدخلها جنته . وأيما رجل أنكر ولده وقد عرفه ، احتجب الله منه يوم ألقيامه، وفضحه على رُؤوس الأشهاد ). وللبخاري في ( الأدب المفرد ) من حديث عبيد بن عُمير ،عن عائشة رضي الله عنها ، عنُ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعظم الناس فرياً ،إنسان شاعر يهجو القبيلة من أسرها ، ورجلٌ تنفّى من ولده ).إلى غير ذلك من الأحاديث التي حملُها على ظاهرها يحتاج إلى تأويل ذلك بالمستحلٍّ له ،أو بأن المراد كفر النعمة .وأن لم تحمل على ظاهرها ،فيكون ورود ذلك على سبيل التغليظ لزجر فاعله فعل فعلا شبيها بفعل أهل الكفر . وقدروى أبو مصعب ،عن مالك بن أنس رحمه الله ،قال : من أنتسب إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم – يعني بالباطل -، يُضرب ضربا وجيعا ،ويُشهرُ ويحبس طويلا حتى تظهر توبته ، لأنه استخفاف ٌ بحق الرسول صلى الله عليه وسلم . ورحم الله مالكا كيف لو أدرك من يتسارع إلى ثبوت ما يغلب على الظن التوقُّف في صحته من ذلك بدون تثبّتٍ، غير ملاحظ ما يترتب عليه من الأحكام ، غافلا عن هذا الوعيد الذي كأن مُعينا على الوقوع فيه .إما ثبوته ولو بالأعذار فيه طمعا في الشيء التافه الحقير قائلاً: النس مؤتمنون على أنسابهم، وهذا لعمري توسع غير مرضٍ .ومن هنا توقف كثير ٌ ممن أدركناه من قضاة العدل عن التعرّض لذلك ثبوتا ونفيا ، للرّهبة مما قدّمُته . وما رواه مسلم في (صحيحه)عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( أربع في أمتي من اثر الجاهلية لا يتركوهن : الفخر في الاحساب ، والطعن في الأنساب ،والاستسقاء بالنجوم ، والنِّياحةُ ).الحديث. فقد استدل به ابن عساكر في (( تبيين كذب المفتري )) لذلك فإنه قال : وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم المُنتخبِ ، فيمن يطعن بغير علم في النسب . وساق الحديث . والظاهرُ : أنه ليس من هذا الباب ، بل معناه ، أن زيداً يطعن في نسب عمرو ، لكون نسبه أشرف وأعلى . وتوضح ذلك الرواية الأخرى التي عند ابن حبان في (( صحيحه )) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فإن في لفظها : (( والتَّعَايُرُ ، أو التَّعغايُّرُ – يعني بالمهملة أو المعجمة في الأنساب )) . ثم إن مما يثبت بالاستفاضة : النسب والشهادة في النسب ، فالاستفاضةُ صحيحةٌ عند الشافعية قطعا ، وكذا جوَّزها أبو حنيفة وغيره . وشرطُ قبُولها ، أن يسمعها مِن جمع مؤمن تواطُؤهُم على الكذب ، وقيل : أقلُّ ذلك أربعة أنفس ، وقيل : يكفي من عدلين ، وقيل : من عدلٍ واحدٍ إِذا سكن القلبُ إليه .
وقد ترجم البخاري (( باب الشهادة على الأنسابِ والرِّضاعِ المستفيض )) وكذا رأيت في محضرِ نسبٍ خط شيخنا بما نصه : الأمر على ما نُصّ وشُرح فيه ، من نسبَةٍ مُنهيةٍ للسيد أمير المؤمنين أبي مُحمد الحسن بن عليّ رضي الله عنهما ، وثبت بأخباره مع غيره عند بعض النُّواب في ربيع الآخر سنة ستٌّ وعشرين )). – قبل استقراره في قضاء الشافعية بأشهر -.
ولم ينفرد بذلك، فقد سبقه لمثله الشيخ أبو محمد بن أبي زيد المالكي،صاحب ( الرسالة ). وكذا كتب في محضرٍ يتضَمّنُ نفي طائفةٍ عن الشرف ، الأستاذ أبو حامد الاسفراييني ،وأبو الحسين ألقدوري .وناهيك بهم جلالةً في طائفة ٍ من العلماء المقتدى بهم .
والله الموفق.
ثانيها : اللائقُ بمحاسن أهل البيت ، اقتفاء أثار سلفهم ، والمشيُ على سنتهم في سُكُونِهم ،فقد قال تعالى (أن أكرمكم عند الله اتقاكم ).{الحجرات :13} .
روى البخاري في (صحيحه ) من طرقٍ عن عبدة بن سليمان ، عن عبيد الله بن عمر العمري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أَيُّ الناس أكرم ؟ فقال :( أكرمهم عند الله اتْقاهم ).
قالوا :ليس عن هذا نسألك.
قال: (فأكْرَمُ الناس يوسف نبيُّ الله بن نبيُّ الله ابن نبي الله بن خليل الله ).
قالوا :ليس عن هذا نسألك .
قال : ( فعن معادن العرب تسألوني ؟ ).
قالوا :نعم .
قال : (فخيارهم في الجاهلية ،خيارهم في الإسلام، إذا فقِهوا ).وهكذا هو عند النسائي في (التفسير )من (سنته ) من حديث العمري .
وللبخاري في ( الأدب المفرد ) من طريق عبدا لملك، عن عطاء ،عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (لا أرى أحدا يعملُ بهذه الآية :(يا أيُّها النّاسُ أنا خَلَقْنَاكُم من ذَكَرٍ وَأنثى )حتى بلغ (أن أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ اَتْقَاكُمْ ) {الحجرات :13} فيقول الرجل للرجل : أنا أكرمُ منك ، فليس احدٌ أكرم من احدٍ ، إلا بتِقَوَى الله ).
ومن حديث يزيد بن الأصم قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما : (ما تعدُّون الكرم وقد بين الله عز وجل الكرم ؟! فأكرمكم عند الله اتقاكم .ما تعدُّون الحسبَ ؟ أفضلكم حسباً، أحسنكم خُلُقاً ) ولأحمد من حديث بكر ، عن أبي ذر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( أُ نْظُر فأنك ليس بخيرٍ من احمرَ ولا اسودَ، إلا أن تَفْضُلهُ بِتقوى ).
وله ، وكذا للحارث في (( مُسنديهما ))، وابن أبي حاتم من طريق أبي نضرة ، حدثني من شَهِدَ خُطبةَ النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وهو على بعير يقول :(يا أيها الناس ، أن دينكم واحد ، وأن أباكم واحد . ألا لا فضل لِعربيّ على عجميّ ،ولا لأسود على أحمرَ إلا بالتقوى
.خَيركُم عند الله اتقاكم ) .
وللطبراني من طريق محمد بن حبيب بن خِراش العصري ،عن أبيه رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (المسلمون أخوة ، لا فضل لأحد على احدٍ ، إلا بالتقوى ) .
ولابن خُزيمة ، وابن حبان في ( صحيحهما )وابن مردويه ، وابن أبي حاتم ، وعبدٍ في ( تفاسيرهم ) من حديث موسى بن عقبة ، عن عبد الله بن دينار ،عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده ،فما وُجِدَ لها مناخاً في المسجد ، حتى نزل على أيدي الرجال فخُرِجَ بها إلى بطن المسيل فَأنيخت ، ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبهم على راحلته ، فحمد الله عز وجل واثني غليه بما هو له أهل . ثم قال : (( يا أيها الناس ، أن الله قد اذهب عنكم عُبيةَ الجاهلية وتَعظّمها بآبائها، فالناس رجلان :رجلٌ برٌّ تقيٌ كريمٌ على الله ، وفاجرٌ شقيٌ هينٌ على الله .أن الله يقول :{ يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله اتقاكم أن الله عليم خبير } {الحجرات :13} ثم قال : أقول قولي هذا واستغر الله لي ولكم )) .
ورجاله ثقات بحث أن الضياء ألمقدسي أورده في (المختارة ) من هذا الوجه ، لكن قد أعله ابن مر دويه بأن محمد بن المقري راويه عن عبد الله بن رجاء ، عن موسى بن عقبة وهم في قوله :موسى بن عقبة ، وإنما هو موسى بن عبيدة ، وحينئذ فهو ضعيف ٌ لضعف موسى بن عبيدة . قلت :لكن له متابع عند الترمذي في (التفسير )من (جامعه )من حديث عبدالله بن جعفر والد علي بن ألمديني ،عن عبدالله بن دينار .
ولفظه :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة،فقال :(يا أيها الناس ، أن الله قد اذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها . فالناس رجلان :برٌّ تقيٌ كريمٌ على الله ، وفاجرٌ شقيٌ هينٌ على الله .والناس بنو آدم ، خلق الله آدم من تراب ، قال الله ( يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله اتقاكم أن الله عليم خبير ){ الحجرات :13} ، .
وابن جعفر أيضا ضعيف ، وادعى الترمذي تفرده به ، وهو مردود بما أوردته.
بل للحديث أيضا شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الترمذي في آخر (جامعة )من حديث هشام بن سعد ،عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ،عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتو إنما هم فحم جهنم ،أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه .أن الله قد اذهب عنكم عبية الجاهلية ، إنما هو مؤمن تقي ، وفاجر شقي .الناس كلهم بنو آدم ،وآدم خلق من تراب ) .
وقال :أنه حسن ،ثم أخرجه باختصار من حديث هشام أيضا بإثبات أبي سعيد بينه وبين أبي هريرة رضي الله عنه ،وقال :أنه عندنا اصح من الأول . قال : وسعيد المقبري سمع ابا هريرة رضي الله عنه ،ويروي أيضا عن أبيه أشياء كثيرة ،عن أبي هريرة رضي الله عنه . وقد أخرجه العسكري بدون واسطة الأب بلفظ :أن الله اذهب عنكم عبية الجاهلية وتفكهها بآبائها . إنما الناس رجلان :برٌ وتقيٌ كريمٌ على الله أو فاجرٌ شقيٌ هينٌ على الله . ثم تلا (يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله اتقاكم ) الآية ،وليدعن أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها ) .
وقوله :( عبية الجاهلية ) ،يعني الكبر والتعاظم والتفاخر .وتضم عينها وتكسر .
و (الجعل ) :بضم الجيم ،واحد الجعلان – بكسرها – حيوان معروف كالخنفساء .و ( تدهده ) :أي تدحرج .
ولمسلم وابن ماجه من حديث يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(أن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) .
ولأحمد من حديث علي بن رماح ،عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أن أنسابكم هذه ليست بمسبة على احد ، كلكم بنو آدم ،طف الصاع لم تملئوه.ليس لأحد على احد فضل إلا بدين وتقوى ، وكفى بالرجل أن يكون بذيا بخيلا فاحشا ) .
وهكذا رواه ابن جرير والعسكري بلفظ :(الناس لآدم وحواء كطف الصاع لن تملئوه ، أن الله لا يسألكم عن احسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة ، إلا عن أعمالكم . أكرمكم عند الله اتقاكم ) .
والمعنى والله اعلم :أن كلكم في النقصان عن ملء الصاع واحد ،ليس فيكم من يملؤه . ونحو : رواه أبو بكر بن هلال العسكري من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الناس كلهم كأسنان المشط ،وإنما يتفاضلون بالعافية ،فلا تصحبن أحدا لا يرى لك من الفضل ، مثل ما ترى له )) . وكذا رويناه في (مشيخة ابن شاذان الكبرى ) من حديث رواد بن الجراح ، عن أبي سعد ألساعدي ،عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الناس مستوون كأسنان المشط ،ليس لأحد على احد فضل ، إلا بتقوى الله عز وجل )) .وبعضه عند القضاعي من حديث سليمان بن عمرو النخعي ، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الناس كأسنان المشط ) .
فإن معنى هذا : أن الناس يتساوون في الإسلام إذا تكافأت أعمالهم ،وإنما التفاضل في العمل الصالح ، والفعل الجميل .
ولأحمد من طريق عبدالله بن عميرة زوج درة بنة أبي لهب ،عن درة رضي الله عنها قالت : قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال : يا رسول الله ، أي الناس خير ؟ فقال خير الناس أقرؤهم واتقاهم لله عز وجل ، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر ، وأوصلهم للرحم ).
وله أيضا من حديث أبي الأسود ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها قالت :ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الدنيا ولا أعجبه احد قط ، ألا ذو تقي .
ولأبي يعلى وغيره ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : (كرم المؤمن دينه ، ومروءته عقله ، وحسبه خلقه )
وللديلمي في مسنده (مسنده ) عن عمر رضي الله عنه أنه قال : (الكرم التقوى ،والحسب المال . لست بخير من فارسي ولا نبطي ، إلا بتقوى ) .
ولأحمد والترمذي عن سمرة رضي الله عنه ،أنه صلى الله عليه وسلم قال : (الحسب المال ، والكرم التقوى ) . وقال أنه حسن صحيح غريب .
وللمدائني في وفادة بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن مالك بن أبرهة بن نهشل المجاشعي قال : الست يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اشرف قومي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن كأن لك عقل ، فلك فضل ،وإن كأن لك خلق فلك مروءة .وإن كأن لك مال ، فلك حسب .وإن كأن لك دين فلك تقي ) .
وكذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه – وقد سمع رجلا يخطر بين يديه يقول : أنا ابن بطحاء مكة ،كديها فكداؤها – إن يكن لك دين فلك كرم ،وإن يكن لك عقل فلك مروءة ، وإن يكن لك مال فلك شرف .وإلا فأنت والحمار سواء .
وقال الحجاج بن أرطأة لسوار بن عبدالله : أهلكني حب الشرف .فقال سوار اتق الله تشرف . وجاء رجل لعبد الوارث بن سعيد فقال له يا أبا عبيدة ،أني حلفت بطلاق امرأتي هذه ، أني اشرف منها . وحلفت هي بعتق جاريتها , أنها أشرف مني .
فقال أشرفكما ، أكثركما مالاً .
وأشار إلى قوله صلى الله عليه وسلم كما مضى : (( الحَسبُ المال ، والكرمُ التقوى ))
فقال له الرجل : قد سألت عثمان بن مِقسم البُري ، فقال لي كما قلت :
وقد قال أبو العتاهية :
كرم الفتى التقوى وقوته محض اليقين ودينه حسبه
والأرض طينته وكلُ بني حواء فيها واحد نسـبه
ومما نسب إليه :
ألا أن التقى هو العز والكرم وحـبك للدنيا هـو الـذل والعدم
وليس على حرًّ تقي نقيضه إذا صحح التقوى ولو حاك أو حجم
ولبعضهم :
لعمرك ماا لإنسان إلا بدينه فلا تترك التقوى اتكالا على النسب
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشِّركُ الشقي أبـا لهب
ولأبي الفضل ابن أبي طاهر :
حسبُ الفتى أن يكون ذا حسب في نفسه ليس حسبه حسبه


وللقطب القسطلاني :
إذا طاب أصل المرء طابت فروعه ومن غلط جاءت يد الشوك بالورد
وفد يخبث الفرع الذي طاب أصله ليظهر صنع الله في العكس والطرد
وقال محمد بن الربيع الموصلي :
الناس في صور التمثال أكفاء أبوهم أدم والأم حواء
فمن يكن منهم في أصله شرف يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
ووزن كل امرء ما كأن يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
وللعسكري والقضاعي وغيرهما ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من بطأ به عمله ، لم يسرع به نسبه ))
وهو في((صحيح مسلم )) من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش به ، في حديث .
ولابن شاذان في (( مشيخته الكبرى )) من حديث فضيل بن مرزوق ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (( من يبطىء به عمله ، لا يسرع به نسبه )) والمعنى : أن من قصر في العمل ، لم ينفعه النسب . وهو كقوله صلى الله عليه وسلم :((يا بني هاشم ، لا يجيئني الناس بالأعمال وتجيئوني بالأنساب )) ونحوه الحديث الماضي (( يا بني عبد المطلب ، أنقذو أنفسكم من النار )) وكذا في (( الأدب المفرد )) للبخاري من حديث إسماعيل بن عبيد ، عن أبيه ، عن جده رفاعة بن رافع رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه :(( اجمع لي قومك )) ، فجمعهم . فلما حضرو باب النبي صلى الله عليه وسلم ، دخل عليه عمر رضي الله عنه فقال : قد جمعت لك قومي . فسمع ذلك الأنصار ، فقالو : قد نزل في قريش الوحي ، فجاء المستمع ، والناظر ما يقال لهم ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام بين أظهرهم ، فقال : ((هل فيكم من غيركم ؟ )) . قالو نعم ، فينا حليفنا وأبن اختنا ، وموالينا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( حليفنا منا ، وابن اختنا منا ، ومولانا منا ، وأنتم تسمعون أن أوليائي منكم المتقون ، فأن كنتم أولئك ، فذاك ، وإلا فانظروا لا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالأثقال ، فيعرض عنكم )) . ثم نادى فقال يا أيها الناس ، – ورفع يديه يضعهما على رؤوس قريش- يا أيها الناس أن قريش أهل أمانة من بغي منهم – قال زهير راوية أظنه قال : العواثر – كبَّهُ الله عز وجل لمنخريه )) يقول ذلك ثلاث مرات . وكذا أخرجه البزار في (( مسنده )) ، وهو عند الحاكم في (( تفسير سورة الأنفال )) من (( مستدركه )) مختصر . وفي (( الأدب المفرد )) للبخاري وغيره ، من حديث عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أن أوليائي يوم القيامة المتقون ، وأن كأن نسب أقرب من نسب . فلا يأتيني الناس بالأعمال ، وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم ، فيقولون : يا محمد ، فأقول هكذا وهكذا وأعرض في كل عطفيه )). وكذا هو عند ابن أبي الدنيا ، وفي (( المسند )) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : أن النبي الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن ، خرج معه يوصيه ، ثم التفت فأقبل بوجهه إلى المدينة ، فقال (( أن أولى الناس بي المتقُون من كانو )) . وأخرجه الطبراني وزاد فيه (( أن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولى الناس بي ، وليس كذلك . أن أوليائي منكم المتقون من كانو أو حيث كانو )) . وللشيخين من حديث قيس أبن أبي حازم ، عن عمرو أبن العاص رضي الله عنه قال : سمعت النبي الله صلى الله عليه وسلم . جهاراً غير سراً ، يقول(( أن آل أبي فلأن ليسو لي بأولياء ، إنما وليي الله وصالح المؤمنين )) لفظ مسلم . وزاد البخاري بآخرة تعليقاً من وجه آخر عن قيس ، عن عمرو رضي الله سمعت النبي الله صلى الله عليه وسلم :((ولكن لهم رحم سأبُلها ببلالها )) يعني : بصلتها . ولهذه الجملة ترجم البخاري في (( البر والصلة )) من((صحيحه )) فقال : باب تُبلُّ الرحم ببلالها ووصلها في((بر الوالدين )) . وكذا وصلها أبو نعيم ، والإسماعيلي وآخرون وأن أقتصر الطبراني في (( معجمه الكبير )) على إيرادها من هذا الوجه بلفظ :(( أن لنبي أبي طالب عندي رحماً سأبُلُها ببلالها )) . وكذا وقعت الزيادة عند مسلم في (( صحيحه )) في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه اتفقا عليه كما أسلفته في الباب الثاني ، ما عدا الزيادة ، فأنفرد بها مسلم ، عكس ما وقع في حديث عمرو رضي الله عنه . وهو محمول على غير المسلم منهم ، فأن من جملة آل أبي طالب علياً وجعفراً رضي الله عنهما ، وهما من اخص الناس بالنبي الله صلى الله عليه وسلم ، لما لهما من المسابقة والتقدم في الإسلام ونصر الدين . بل في بعض الأحاديث مما روي مرفوعاً و موقوفاً ، ولكن لا نطيل ببيان علته هنا : (( صالح المؤمنين علي رضي الله عنه )) وإنما خصه بالذكر تنويهاً بذكره ، لكونه رأسهم . قال النووي رحمه الله : ومعنى الحديث :إن وليي من كأن صالحاً ، وإن بعُد مني نسبه . وليس وليي من كان غير صالح وإن قرب مني نسبه . وقال غيره : المعنى إني لا أوالي أحداً بالقرابة ، وإنما أحب الله تعالى لما له من الحق الواجب على العباد , وأحب صالح المؤمنين لوجه الله تعالى . وأوالي من أوالي بالإيمان والصلاح ، سواء أكانو من ذوي رحمي أم لا ، ولكن أرعى لذوي الرحم حقهم لصلة الرحم . وكل ذلك مما يشهد للحديث المروي عن أنس رضي الله عنه أن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال : (( آل محمد كل تقيٍّ )) . ولذلك يحكى في (( نوادر أبي العيناء )) أنه غض من بعض الهاشميين فقال له : أتغضُّ مني ؟! وأنت تصلي علي في كل صلاة في وقولك ، اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد . فقال أني أريد الطيبين الطاهرين ولست منهم . وقد تمسك بآية الباب مع كثير مما أسلفته من الأحاديث ، من ذهب من العلماء إلى أن النسب في الكفاءة في النكاح لا تشترط ، وإنما المشترط الدين فقط ، ولكن الجمهور على خلافه حسبما بسط في محله . لكن قال ابن العديم فيما رويناه عنه : أخبرني محمد بن محمد بن أحمد بن يوسف الأنصاري التلاوي ، قال : أخبرني الشريف القاضي الرازي الحنفي أنه رأى والدي – يعني أبا عبد الله التلاوي – في المنام في سنة ثلاث وعشرين وست مئة .
فقال له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي . فقلت له بماذا ؟
فقال بشيء من النسبة بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : فقلت : له : أنت شريف ؟ فقال : لا .
فقلت : من أين النسبة ؟ .
فقال : كنسبة الكلب إلى الراعي .
قال ابن العديم فأولته بانتسابه إلى الأنصار.
فقال أبنه : أو إلى العلم . قلت : خصوصا علم الحديث لقوله صلى الله عليه وسلم : (( أولى الناس بي أكثرهم علي صلاة )) إذ هم أكثر الناس علي صلاة ، وتسليماً كثيراً . بل روينا في الثاني عشر من (( المجالسة )) للدينوري عن وهب بن منبه قال : بلغني أن الله عز وجل قال للعُزير : من بر والديه رضيت عنه ، وإذا رضيت باركت ، وإذا باركت بلغت الرابعة من النسل . ونحوه قول بعضهم : المؤمن محفوظٌ في ولده وولد ولده . وروينا مما أخرجه الحاكم في (( صحيحة )) ، وقال : صحيح على شرطهما من حديث عبد الملك بن ميسرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في قوله تعالى : { وكأن أبوهما صلحاً } ( الكهف 82 ) قال : حفظا لصلاح أبيهما ، وما ذكر عنهما صلاحاً . ومن حديث عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { ألحقنا بهم ذريتهم } ( الطور : 21 ) . قال : أن الله يرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة ، وأن كانو دونه بالعمل . ثم قرأ : { والذين امنو واتبعتهم ذريتهم بإيمن ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتنهم من عملهم } ( الطور 21 ) يقول وما نقصناهم .
وعن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير قال : يدخل الرجل الجنة فيقول : أين أبي؟ أين أمي ؟ أين ولدي ؟ أين زوجي ؟ . فيقال له : لم يعملو مثل عملك . فيقول : كنت أعمل لي ولهم . فيقال لهم : ادخلو الجنة . ثم قرأ : {لهم جنت عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم وأزوجهم وذريتهم } ( الرعد 23 ) فإذا كأن هذا فيمن كأن الصالح هو السابع من آبائهم فيما قيل ، أو الرابع في عموم الذرية ، فخصوص ذرية نبينا صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى . ولا سيما وقد قيل : أن حمام الحرم من حمامتين عاشتا على فم الغار الذي اختفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكرم سائر الحمام لهما .
ويستأنس لذلك بحكايات :-
منها : عن علي بن عيسى الوزير ، قال كنت أحسن إلى العلوية براتب لهم ولعيالهم ، لكسوتهم ونفقتهم في سنتهم أدفعه لهم في شهر رمضان ، فاتفق اجتيازي بواحد منهم يوماً ، وهو سكران بأسوء حال ، فقلت في نفسي : أنا أعطي هذا الفاسق خمسة آلاف درهم ينفقها في معصية الله ، لأمنعنه . فلما جاء رمضان ، جاءني في جملة الجماعة فلم أعطه شيئا ً . وقلت له أما رأيتك وأنت سكران في وقت كذا ، فلا تعد إلي بعدها . فلما كانت ليلة ذاك اليوم ، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو معرضٌ عني ، فاشتد علي ذلك . فقلت يا رسول الله ، هذا مع كثرة إحساني لأولادك وبرِّي لهم ، وكثرة صلاتي عليك . قال صلى الله عليه وسلم : (( فلما رددت ولدي فلأناً عن بابك أقبح رد وخيبته ، وقطعت راتبه كل سنة )) . فقلت : لأني رأيته على فاحشة ، وكرهت أن أعينه على المعصية . قال صلى الله عليه وسلم : (( أكنت تعطيه لأجله أو لأجلي
؟ )) . قالك فقلت لأ جلك
قال صلى الله عليه وسلم : (( أفما كان يجمل أن تستر عليه عثرته لأجلي ؟ )) فقلت كرامةً وعزاً ، وانتبهت فأرسلت خلفه ، ودفعت له عشرة آلاف . فسألني عن سبب ذلك بعدما تقدم ، فأعلمته فبكى ، وعقد التوبة مع الله . ومنها : ما أورده التقيُّ الفاسي الحافظ في ترجمةأبي عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن عمر الأنصاري القرطبي من كتابه (( العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين )) : أنه كأنت له أخبار مع الملك الكامل صاحب مصر في حق شرفاء المدينة وتعظيمهم ، بحيث سافر إلى مصر مع بعضهم لقضاء حاجته عنده ، وكأن يتولى خدمتهم بنفسه ، فما وسع الكامل إلا قضاؤها لإجلالة الشيخ ، حتى كان يأتي إليه للزيارة . وأن سبب تعظيم الشيخ لهم ، كون شخص منهم مات ، فتوقف عن الصلاة عليه ، لكونه كأن يلعب بالحمام . فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، فأعرضت عنه . فاستعطفها حتى أقبلت عليه وعاتبته قائلة : (( أما يتسع جاهُنا مُطيراً )) . ونحوه ما حكاه الفاسي أيضا في ترجمة صاحب مكة الشريف أبي نميٍّ محمد بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني . أنه فيما بلغه لما مات امتنع الشيخ عفيف الدين الدلاصي من الصلاة عليه ، فرأى في المنام فاطمة رضي الله عنها وهي بالمسجد الحرام والناس يسلمون عليها ، وأنه رام السلام عليا ، فأعرضت عنه ثلاث مرار ، فتحامل عليها وسألها عن سبب إعراضها عنه فقالت له : (( يموت ولدي ولا تصلي عليه )) . فبادر وأعترف بالظلم . وحكى التقي المقريزي ، عن يعقوب بن يوسف بن علي بن محمد المغربي : أنه كأن بالمدينة النبوية في رجب سنة سبع عشر وثمان مئة ، فقال له الشيخ العابد أبو عبد الله محمد الفارسي – وهما في الروضة النبوية -: أني كنت أبغض أشراف المدينة النبوية بني حسين ، لما يظهرون من التعصب على أهل السنة ، ويتظاهرون به من البدع . فرأيت وأنا نائم بالمسجد النبوي تجاه القبر الشريف ، رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : (( يا فلأن – باسمي – ، مالي أراك تبغض أولادي ؟ )) فقلت : حاشا الله ما أكرههم ، ولكن كرهت منهم ما رأيت من تعصبهم على أهل السنة . فقال لي صلى الله عليه وسلم : مسألة فقهية أليس الولد العاق يلحق بالنسب ؟ )) . فقلت : بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال صلى الله عليه وسلم : (( هذا ولد عاق )) . قال : فلما انتبهت صرت لا ألقى من بني حسين – أشراف المدينة – أحداً ، إلا بالغت في إكرامه . وحكى أيضاً عن الرئيس شمس الدين محمد بن عبدالله العمري ،قال : سرت يوما في خدمة الجمال محمود العجمي المكتسب من منزلة ، ومعه نوابه وأتباعه إلى بيت الشريف عبد الرحمن الطباطبي المؤذن ، فاستأذن عليه . فخرج إليه فأدخله منزله ودخلنا معه وعظم عليه مجيء المحتسب إليه .
فلما اطمئن به المجلس ،قال للشريف :يا سيد حاللني . فقال : مماذا يا مولاي؟ .
فقال :أنك لما جلست البارحة عند السلطان الظاهر برقوق فوقي ، عزّ ذلك علي وقلت في نفسي :كيف يجلس هذا فوقي ؟ . فلما كان الليل ، رأيت في منامي النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي :(يا محمود ! أتأنف أن تجلس تحت ولدي ؟ )،فبكى الشريف عند ذلك وقال : يا مولانا ، من أنا حتى يذكرني النبي صلى الله عليه وسلم . وبكى الجماعة ، ثم سألوه الدعاء وانصرفوا .
وحكى الجمال أبو محمد عبد الغفار بن المعين أبي العباس احمد بن عبد المجيد الأنصاري الخزرجى الاقصري القوصي – عرف بابن نوح – في كتابه ( المنتقى من كتاب الوحيد في سلوك أهل التوحيد والإيمان بأولياء الله في كل زمان ) ، عن الحاجة أم نجم الدين ابنة مطروح زوجة القاضي سراج الدين -وكانت من الصالحات -
قالت :حصل لنا غلاء بمكة أكل الناس فيه الجلود ، وكنا ثمانية عشر نفسا ، فكنا نعمل ما مقداره نصف قدح حسوة . فبينما نحن كذلك ، إذ جاءنا من الدقيق أربع عشرة قطعه ،فاقتطعت منها الزائد على العشر وقلت له : أي لزوجها – أنت تريد أن تقتلنا من الجوع .وفرق العشر على أهل مكة . فلما كأن الليل ، قام من منامه وهو مرعوب ، وربما قالت يبكي فقلت له : ما بالك ؟ . قال : رأيت الساعة في منامي فاطمة الزهراء رضي الله عنها وهي تقول :((يا سراج ! تأكل البر وأولادي جياع )) ونهض إلى القطع التي أخرتها ففرقها على الأشراف ، وبقينا بلا شيء ، وما كنا نقدر على القيام من الجوع . وحكى التقي بن فهد الهاشمي المكي لحافظ فيما سمعه منه ابناه قال :جاءني الشريف عقيل بن هميلي – وهو من الأمراء الهوا شم – يسألني عشاء ، فاعتذرت إليه ولم افعل . فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة – أو في غيرها – فاعرض عني .
فقلت : كيف تعرض عي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا خادم حديثك ؟ . فقال صلى الله عليه وسلم : (( كيف لا اعرض عنك ويأتيك ولد من أولادي يطلب منك العشاء ، فلم تعشه )) . قال: فلما أصبحت جئت الشريف فاعتذرت إليه وأحسنت له بما تيسر .
وحكى المقريزي عن العز عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي الحنبلي قاضي الحنابلة بعدة أماكن –وكان من جلساء المؤيد – أنه رأى كأنه في المسجد النبوي ،وكأن القبر الشريف أنفتح ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وجلس على شفيره وعلي أكفأنه ، فأشار بيده إلي ،فقمت إليه حتى دنوت منه .فقال لي صلى الله عليه وسلم : (( قل للمؤيد :يفرّج عن عجلان )) – يعني ابن نعير أميرالمدينه ،وكان محبوسا سنة اثنتين وعشرين وثمان مئة – . قال : فلما انتبهت صعدت إلى السلطان ، وحلفت له بالأيمان المغلظة أنني ما رأيت عجلان قط ، ولا بيني وبينه معرفة . ثم قصصت عليه الرؤيا فسكت.
ثم لما انقضى المجلس ، قام بنفسه إلى مرماة النشاب التي استجدها بطرف الدركاة ، واستدعى بعجلان من محبسه بالبرج ، وأفرج عنه وأحسن إليه . ثم قال التقي المقريزي : وعندي عدة حكايات صحيحة مثل هذه في حق بني حسن ، وبني حسين . فإياك والوقيعة فيهم ، فليست بدعة المبتدع فيهم ، أو تفريط المفرط منهم في شيء من العبادات ، أو ارتكابه محرماً من المحرمات ، مُخرجٌ له من بنوة النبي صلى الله عليه وسلم ، بل الولد ولداً على كل حال ، عقَّ أو فجرَ . قال : ومن غريب ما اتفق ، أن السلطان – ولم يُعينهُ – كحل الشريف سرداح بن مقبل بن نخبار بن مقبل بن محمد بن راجح بن إدريس بن حسن بن أبي عزيز قتادة بن إدريس بن مُطاعن الحسني حتى تفقأت حدقتاه وسالتا ، وورم دماغه ونتن . فتوجه بعد عماهُ إلى المدينة النبوية ، ووقف عند قبر الشريف وشكا ما به وبات تلك الليلة ، فرأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح عينيه بيده الشريفة ، فأصبح وهو يبصر عيناه أحسن ما كانتا ، واشتهر ذلك في المدينة . ثم قدم القاهرة ، فغضب السلطان وظن مُحاباة الذين كحلوه ، حتى أقيمة عنده البينة المرضية بمشاهدة كحله وسيلان حدقته ، وكون أهل المدينة النبوية شاهدوه كذلك . ثم أصبح وهو يبصر ، وقص عليهم رؤياه ، فتركه السلطان بحاله ، وبرأ الذين كحلوه ، واستمر حتى مات بالطاعون . ومن أبلغ ما يحكى في الترغيب في إكرامهم ، ما حكاه الجمال محمد بن حسن ألخالدي المكي المعروف والده – بالكذاب – مما سمعه منه صاحبنا النجم بن فهد ، ورواه المقريزي بواسطته عنه : أن بعض القراء ممن كان يقرأ على قبر تمرْلنك بعد موته ، حكى له وهما بشيراز . قال : كنت إذ كنت مع القراء قرأت القرآن ، وإذ خلوت بالقبر قرأت : { خذوه فغلوه (30) ثم الجحيم صلوه } (الحاقة 30/31 ) وأكرر تلاوتها فبينا أنا في بعض الليالي نائم ، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس وتمر إلى جانبه قال : فنهرته وقلت : إلى هنا يا عدو الله وصلت . وأردت أخذه بيده لأقيمه من جانب النبي صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( دعه ، فإنه كان يحب ذريتي – أو إنه يحب ذريتي – )) . قال : فانتبهت وأنا فزع ، فتركت بعد ذلك ما كنت أقرأه في الخلوة . ونحوه مما سمعه الجمال امرشدي ، والشهاب الكوراني – وهو الآن في قيد الحياة – ، من الزين عبد الرحمن البغدادي الخلال : أن بعض أمراء تمر لنك أخبره : أنه لما مرض تمرلنك مرض الموت . اضطرب في بعض الأيام اضطراباً شديداً ، واسودّ وجهه وتغير لونه ، ثم أفاق ، فذكرو له ذلك . فقال : إن ملائكة العذاب أتتني ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : (( اذهبوا عنه فإنه كان يحب ذريتي ويحسن إليهم )) فذهبو . ومن سير أهل البيت : ما رويناه عن جرير به أنه قال : ما أكل زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم درهماً قط . ويروى عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : (( الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد صلى الله عليه وسلم )) . ثالثها : اللائق بمحبهم أن ينزلهم منزلتهم ، فمن كان منهم موصوفاً بالعلم ، قدمه على غيره ، على الحكم الذي أسلفته في الباب الأول ويروى كما عند أبي نعيم في (( الحلية )) وغيره من حديث الحسن ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الحكمة تزيد الشريف شرفاً ، وترفع العبد المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك )) . وقيل إنه موقوف على أنس رضي الله عنه ، أو من كلام الحسن. بل يروى عن مالك بن دينار قال : قرأت في بعض كتب الله ، فذكره … وللعسكري من حديث حماد بن سلمه ، عن ثابت عن أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( اتبعوني تكونوا بيوتاً )) . أي تشرفوا ، وأراد البيت من بيوت العرب الذي يجمع شرف القبيلة . يقال البيت في بني فلان ، أي الشرف . ومن حديث أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي ذر رضي الله عنه : انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( أفضل الناس مؤمن بين كريمين )) . أي بين أبوين كريمين مؤمنين ، فيكون قد اجتمع له الإيمان والكرم فيه ، وفي أبويه . وقال صلى الله عليه وسلم : (( الناس معادن في الخير والشر ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )) . ولأحمد بن منيع ، وأبي يعلى في (( مسنديهما )) . عن علي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يا علي ، يدخل النار فيك رجلان : محبٌ مفرط ، ومبغضٌ مفرط . كلاهما في النار )) . وللطبراني من حديث الحجاج بن تميم ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده علي رضي الله عنه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( يا علي ، سيكون في أمتي قوم ينتحلون حُبنا أهل البيت ، لهم نُبزٌ يسمُون الرافضة ، فاقتلوهم فإنهم مشركون )) . وقال يحيى بن سعيد : سمعت زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله – وكان أفضل هاشمي أدركته – يقول : يا أيها الناس أحبونا حب الإسلام ، فما برح بنا حبكم ، حتى صار علينا عاراً . وقال أبو معاوية وأبو خالد وغيرهما ، عن يحيى بن سعيد أيضا ، سمعته يقول : يا أهل العراق ، أحبونا بحب الإسلام ، فوالله ما زال حبكم بنا ، حتى صار سبةً . وقال الثوري عن عبيد الله بن موهب : جاء قوم إلى زين العابدين فأثنوا عليه فقال : ما أجرأكم – أوما أكذبكم – على الله ، نحن من صالحي قومنا ، فحسبنا أن نكون من صالحي قومنا . وفي جزء محمد بن عاصم قال : حدثنا شبابة ، عن الفضيل بن مرزوق ، قال : سألت عمر بن علي ، وزين العابدين ، وعمي جعفراً . قلت : هل فيكم إنسان من أهل البيت ، مفترضةٌ طاعته . فقالوا : لا والله ، من قال هذا فينا ، فهو كذاب . وقد تقدم في الباب الثاني قول الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم لرجل ممن يغلو فيهم : ويحكم ! أحبونا لله ، فإن أطعنا الله فأحبونا ، وإن عصيناه فابغضونا . قولوا فينا بالحق ، فإنه أبلغ فيما تريدون ، ونحن نرضى به منكم . رابعها : أخبرني غير واحد ، منهم أبو عبد الرحمن بن محمد : أن أبا الحسن الدمشقي أخبرهم عن الشرف أبي محمد عيسى بن عبد الرحمن ،أخبرنا الحافظ الضياء أبو عبد الله ألمقدسي ، أخبرنا أبو الحين احمد بن حمزة بن علي السلمي قراءة عليه ، حدثنا أبو بكر يحيى الغزال لفظاً ، سمعت أبا الفضل حمداً يقول : (ح) وأخبرتني عالياً أم محمد ابنة أبي حفص الحموي ، عن أبي حفص بن الحسن المزي ، وجماعة ، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الحنبلي مشافهة ، أخبرنا أبو المكارم اللبان في كتابه ، أخبرنا أبو علي الحداد ، قالا : أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله ، حدثنا ألقاضي أبو الحسن علي بن محمد القزويني إملاء بغداد ، حدثني محمد بن أحمد بن عبد الله بن قضاعة ، حدثني القاسم بن العلاء الهمداني ، حدثني الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن باقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين بن أبي طالب ، حدثني أبي علي ، حدثني أبي محمد ، حدثني أبي علي ، حدثني أبي الحسين رضي الله عنه ، حدثني أبي طالب بن أبي طالب رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( قال لي جبريل عليه السلام : يا محمد إن مدمن الخمر ، كعابد وثن )) . هذا حديث غريب أتصل بقول كل واحد من رواته : أشهد بالله وأشهد الله ، لقد أخبرني فلان ، وقرأته كذلك على شيخنا رحمه الله في جملة مسلسلات ابن المفضل . رواه ابن المفضل عن السلفي ، عن أبي علي الحسن بن أحمد بن مهرة ، عن أبي نعيم ، فوقع لنا عالياً . وقال أبو نعيم عقبة : هذا حديث صحيح ثابت روته العترة الطيبة ، ولم نكتبه على هذا الشرط بالشهادة بالله ولله ، إلا عن هذا الشيخ . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من غير طريق ، انتهى . وهذه الترجمة – أعني رواية جعفر الصادق ، عن أبيه الباقر ، عن زين العابدين علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم – كما قال الحاكم أبو عبد الله صاحب (( المستدرك )) : أصح أسانيد أهل البيت ، لكن بشرط أن يكون الراوي عن جعفر ثقة . واقتصرت عليه لكثرة من اجتمع فيه من أهل البيت ، وعندي مسلسلات ن اجتمع فيها أربعة عشر أباً من أهل البيت . وإلا ففي (( مسند الإمام احمد )) مسنداً لأهل البيت أشتمل على : مسند الحسن ، والحسين ، و عقيل ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم . وقدم علياً رضي الله عنه رأسهم في (( مسند العشرة )) . وكذا عندنا في (( الذرية الطاهرة )) جملة أحاديث من مسانيد أهل البيت ، بل عندي الشيء الكثير من ذلك ، مما لو تتبعته وأوردته لطال الكتاب ، والله الهادي إلى الصواب . وقد قال السيد شهاب الدين حسين بن محمد الحسيني صاحب المدرسة الشريفية البهائية :
وخِلٌّ جاء يسأل عن قبيلي وضوء الشمس للرائي جليُّ
فقلت له ولم أفخر وإنـى يحق لمثلي الفخـر ألعلـيُّ
محمد خير خلق الله جدي وأمي فاطم وأبـي علـي
آخره . وصلى الله على سيدنا محمد أشرف رسله وخلقه وعلى أهل بيته وأصحابه وأنصاره وأزواجه وأشياعه وأتباعه وسلم تسليماً كثيرا .

                             
                      1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13  14



تمت مراجعته على طبعة المدينة بتحقيق شكري وكذلك على طبعة البشائر الإسلامية بتحقيق خالد بابطين مع تقديم الثانية عند الاختلاف

بحث سريع