الاحتفال بالمولد النبوي: شبهات وردود

بواسطة | مشرف النافذة
2005/04/20
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، فقال –سبحانه-: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ ديناً فلن يكون اليوم دينا، ومن استحسن فقد شرع كما قال الإمام الشافعي -رحمه الله- وهي كلمة مشهورة عنه –رحمه الله-، نقلها عنه أئمة مذهبه وعلماؤه، منهم الغزالي في "المنخول" ص (374)، والمحلَّى في "جمع الجوامع" (2/395) بحاشيته، وغيرهما.
ومن المعلوم بالضرورة أن العمل لا يقبل إلا بشرطين:
1- أن يكون خالصاً لله، كما قال تعالى: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً" [الكهف:110].
هذا وقد أثار القائلون بجواز الاحتفال بالمولد النبوي -بل قال بعضهم بسنيته المؤكدة- شبها يحسبها الظمآن ماءً، حتى إذا جاءها لم يجدها شيئاً.
وقد قرر علماء الأمة الثقات أنه لا يحتج مبطل على باطله بآية أو حديث صحيح، إلا كان الرد عليه فيما استدل به، وسوف يتبين لك ذلك –أيها القارئ الكريم- من خلال الرد على هذه الشبهات التي أثارها هؤلاء القائلون بجواز الاحتفال بالمولد النبوي.
فإلى الشبهات والرد عليها –بعون الله تعالى-:
الشبهة الأولى:
أن المولد اجتماع ذكر وصدقة ومدح وتعظيم للجناب النبوي، وهذه أمور مطلوبة شرعاً وممدوحة، وجاءت الآثار الصحيحة بها والحث عليها.
الجواب عليها: لو سلمنا بكل ذلك على سبيل التنزل والافتراض، فإن الاجتماع المخصوص بتلك الهيئة المخصوصة بتلك الهيئة المخصوصة في الوقت المخصوص للمولد، واعتبار ذلك من شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص الشارع –عمل مردود قد يوهم العوام والجاهلين بالسنن أن عمل المولد من أعمال القرب المطلوبة شرعاً. بتصرف من "القول الفصل" للشيخ إسماعيل الأنصاري.
ويقال أيضاً للرد على هذه الشبهة: إن الصحابة –رضي الله عنهم- هم أشد الناس حباً وتعظيماً وإجلالاً للرسول –صلى الله عليه وسلم- ولم يفعلوا ذلك المولد مع قيام المقتضي لذلك، فعلم أنهم ما تركوه إلا لأنه بدعة ولا يرضى الله سبحانه، فلو كان خيراً لسبقونا إليه، كيف لا وقد شهد بمحبتهم وتعظيمهم لرسولهم –صلى الله عليه وسلم- القريب والبعيد، والعدو والصديق، ويكفي هنا أن نذكر مثالين:
المثال الأول: قول عروة بن مسعود –وقد كان حينئذٍ مشركاً- حين أرسلته قريش لمفاوضة الرسول –صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية، فلما عاد إليهم قال: "أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك به وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له". البخاري برقم (2731 ، 2732).
المثال الثاني: هذا سعد بن الربيع –رضي الله عنه- وقد أثخنته الجراح يوم أحد يقول لزيد بن ثابت حين بلغه سلام الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "على رسول الله السلام، وعليك السلام، قل له: يا رسول الله، أجدني أجد ريح الجنة. وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفيكم شَفْر يطرف. قال: وفاضت نفسه –رحمه الله-". رواه الحاكم في "المستدرك"، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
فهل يليق بهؤلاء الأبرار، والسادة الأخيار، أن يتركوا أمراً يكون فعله قربة، بل سنة مؤكدة، كما زعم الجفري في أحد أشرطته جهلاً منه، فإن السنة المؤكدة هي: ما فعله النبي –صلى الله عليه وسلم- وداوم على فعله. فهل يجرؤ الجفري وأمثاله ممن يهرفون بما لا يعرفون أن يأتوا بدليل واحد على مجرد فعل النبي –صلى الله عليه وسلم- للمولد ولو مرة واحدة؟ اللهم لا ثم لا ثم لا، فإن الجميع متفقون بأن الاحتفال بالمولد أمر محدث، لم يفعله أحد من السف الصالح –فضلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وخذ بعض شهادات القائلين بجواز المولد:
قال الإمام السيوطي –رحمه الله- في "الحاوي للفتاوي" (1/189): "أول من أحدث فعل ذلك –أي فعل المولد- صاحب إربل الملك المظفر". قال الإمام السخاوي –رحمه الله-، كما ذكره صاحب "المورد الروي في المولد النبوي" مُلا علي قاري ص (12): "أصل عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعدها بالمقاصد الحسنة". قال محمد علوي المالكي –وهو من أشد الناس انتصاراً للبدعة- في "حول الاحتفال بالمولد" ص(19): "فالاحتفال بالمولد وإن لم يكن في عهده –صلى الله عليه وسلم- فهو بدعة، ولكنها حسنة لاندراجها تحت الأدلة الشرعية والقواعد الكلية". والشاهد قوله: وإن لم يكن في عهده.
وقد أكثرنا من النقل في إبطال هذه الشبهة؛ ليتبين لك مقدار تلبيسهم وتدليسهم حتى زعم الجفري -كما مر بك- أن الاحتفال بالمولد "سنة مؤكدة". ولمن أراد الوقوف على شيء من حقيقة هذا الرجل أن يستمع إلى "حوار هادئ مع الجفري" لحسن الحسيني.
الشبهة الثانية:
يقولون: إن الله كرم بعض الأماكن المرتبطة بالأنبياء، مثل مقام إبراهيم، حيث قال: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" [البقرة:125]، وهذا فيه حث –زعموا- على الاهتمام بكل ما يتعلق بالأنبياء، ومنها الاحتفال بمولد نبينا –صلى الله عليه وسلم-.
والجواب أن يقال:
هذا أصل من أصول أهل البدع، وهو الاستدلال على بدعهم بالنصوص العامة، وفي هذا خطأ كبير –كما يقول علي الحلبي في كتابه "علم أصول البدع" ص(138)-؛ لأن هذا الذي فهمه هؤلاء لم يفهمه السلف الصالح –رضي الله عنهم-، ولا جرى عملهم على هذا.
وثانياً: يقال لهم: إن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الرأي والابتداع، فما عظمه الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- من زمان أو مكان فإنه يستحق التعظيم، وما لا فلا. والله –تبارك وتعالى- قد أمر عباده أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، ولم يأمرهم أن يتخذوا يوم مولد النبي –صلى الله عليه وسلم- عيداً ويبتدعوا فيه بدعاً لم يؤمروا بها. "الرد القوي" للتويجري (70-71).
الشبهة الثالثة:
 احتجاجهم بصيام النبي –صلى الله عليه وسلم- ليوم الاثنين، وقد سئل عن صيامه فقال: "ذاك يوم ولدت فيه، وأنزل علي فيه" رواه أحمد ومسلم وأبو داود. قالوا: وصيامه في معنى الاحتفال به، إلا  أن الصورة مختلفة، ولكن المعنى موجود، سواء كان ذلك بصيام  أو غيره..
وللرد على هذه الشبهة يقال لهم:
أولاً: هذا من الاستدلال بالنص في غير موضعه، وهو فهم حادث من هؤلاء لم يسبق إليه أحد من السلف، كما أقروا هم بأنفسهم بأن المولد لم يفعله أحد من السلف، بل أول من أحدثه الفاطميون، ويكفي لبيان حال الفاطميين ما ذكره الإمام السيوطي في "تاريخ الخلفاء" حول حقيقة هؤلاء الأدعياء –أعني الفاطميين المنتمين كذباً وزوراً إلى فاطمة الزهراء رضي الله عنه-.
ثانياً: إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول –صلى الله عليه وسلم- فيه، فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول به وهو الصوم، وعليه فلنصم كما صام.. "الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف" ص(44) للجزائري.
ثالثاً: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يصم يوم ولادته، وهو يوم 12 من ربيع الأول –مع الاختلاف في تحديد يوم ولادته-، وإنما صام يوم الاثنين الذي يتكرر في كل شهر.
رابعاً: قد ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث نفسه: "وأنزل عليه فيه"، فقد ذكر نعمة الإيحاد ونعمة الإمداد؛ فلماذا لم يحتفلوا بيوم بعثته، وهو ولا شك يوم النعمة الكبرى على رسولنا –صلى الله عليه وسلم- وعلى أمته من بعده، وهذا –أي يوم بعثته- أعظم من يوم ولادته ولا ينكر ذلك إلا مطموس البصيرة، مجادل بالباطل. ولا يفهم مما سبق جواز الاحتفال بيوم بعثته.
الشبهة الرابعة:
الاحتجاج بصيام النبي –صلى الله عليه وسلم- ليوم عاشوراء، معللا ذلك: بأنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى –عليه السلام-.
الجواب: ونعود ونؤكد على أن أهل البدع يستدلون على بدعهم بالنصوص العامة.
وقد رد الاستدلال بهذا الحديث على بدعة الاحتفال بالمولد الحافظ ابن حجر، حيث قال –كما نقله السيوطي في "الحاوي" (1/196)-: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة.
الشبهة الخامسة:
احتجاجهم بأن أبا لهب لما أعتق ثويبة –مولاة له- حين بشرته بميلاد الرسول –صلى الله عليه وسلم- انتفع بذلك حتى في قبره، والقصة رواها البخاري في "صحيحه" في كتاب النكاح.
وللجواب على هذه الشبهة:
أولاً: يجاب بالقاعدة العامة السابقة: أن هذا لم يفهمه السلف الصالح –رضوان الله عليهم-، فلو كان ما ذكره المجيزون للاحتفال دليلاً؛ لما خفي عن السلف الصالح –رضوان الله عليهم-.
ثانياً: أن الخبر –أي المتعلق بتلك القضية- مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به… الخ. أفاده الحافظ في "الفتح" (9/49).
وكما هو معلوم فإن المرسل من أقسام الحديث الضعيف، فلا حجة في هذا الخبر.
ثالثاً: أن هذا الخبر لو كان موصولاً؛ فلا حجة فيه؛ لأنه رؤيا منامية، ورؤيا المنام لا يثبت بها حكم شرعي –كما هو مقرر عند أهل العلم-، وسيأتي مزيد بيان لذلك.
رابعاً: أن هذا الخبر فيه أن إعتاق أبي لهب لثويبة كان بعد ميلاد الرسول، وهو مخالف لما عند أهل السير من أن إعتاقها كان بعد إرضاعها للنبي –صلى الله عليه وسلم- بدهر طويل. "الفتح" (9/48)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (4/250)، "الاستيعاب في أسماء الأصحاب" (1/12)، "الوفا بأحوال المصطفى" (1/106).
خامساً: أن هذا الخبر مخالف لظاهر القرآن: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً" [الفرقان:23]. ولا يعارض ذلك بما ثبت من تخفيف العذاب عن أبي طالب بشفاعة الرسول –صلى الله عليه وسلم-، فإن ذلك ثبت بنص، وما ذكر عن أبي لهب هو مجرد رؤيا منامية عن كافر وهو أبو لهب.
سادساً: أن فرح أبي لهب فرح طبيعي لا تعبدي، فلا يثاب عليه.
سابعاً: أن ذلك الفرح المزعوم لم يثبت بدليل صحيح كما رأيت.
الشبهة السادسة:
قولهم: إن الاحتفال بمولده –صلى الله عليه وسلم- من الفرح المأمور به في قوله تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" [يونس:58]، حيث فسر بعضهم الرحمة هنا بالرسول –صلى الله عليه وسلم-.
والجواب: أن ذلك مخالف لتفسير السلف، فلم يفسر الآية أحد بذلك. وقد فسرها بالإسلام أبو سعيد الخدري وابن عباس، وقد دارت أقوال السلف –كما يقول ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية" ص(38)- على أن فضل الله ورحمته –في هذه الآية- الإسلام والسنة.
وقد دل الكتاب والسنة على أن الرحمة كانت ببعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- لا بمولده، قال الله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [الأنبياء:107].
وأما من السنة المطهرة، ففي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قيل يا رسول الله، ادع على المشركين. قال: "إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة".
الشبهة السابعة:
استدلالهم بقوله تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً" [الأحزاب:56]. ويقولون إن الاحتفال بالمولد يحث على الصلاة على الرسول –صلى الله عليه وسلم-.
الرد على تلك الشبهة:
بالقاعدة العامة التي تكرر ذكرها سابقاً: أن الصلاة والسلام على الرسول –صلى الله عليه وسلم- مستحبة في كل وقت، ولم يرد نص بتخصيص مولده بذلك، وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه من حديث عائشة -رضي الله عنها-. وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
الشبهة الثامنة:
احتجاجهم بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- عق عن نفسه بعد النبوة، وقد استدل بذلك السيوطي على مشروعية المولد.
وفي الجواب على هذه الشبهة:
أولاً: أن الحديث لم يثبت، ولمن أراد التوسع فليرجع إلى كلام الحافظ ابن حجر في "التخليص الحبير" (4/147)، "الفتح" (9/905)، "المجموع بشرح المهذب" (8/412)، "تحفة المودود" ص(57)، "شرح المواهب اللدنية" (1/140)، وغير ذلك.
- وهل هذا الفعل لو ثبت –وهيهات- يدل على جواز المولد؟ إن كان الجواب: نعم؛ فلماذا لم يبين النبي –صلى الله عليه وسلم- ذلك لأصحابه.
الشبهة التاسعة:
الاستدلال بحديث: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض" رواه داود.
الجواب: - لو كان هذا الاستدلال حقاً لما خفي على خير القرون.
- في الحديث: "وفيه قبض"، فهل قبض آدم –عليه السلام- سبب لتفضيل يوم الجمعة؟!
- لم يكن النبي –صلى الله عليه وسلم- يخص يوم الجمعة بشيء من النوافل، بل قد نهى عن ذلك؛ فقال: "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" مسلم عن أبي هريرة.
- لماذا لم يأمر النبي –صلى الله عليه وسلم- عقب نهيه عن إفراد يوم الجمعة بصيام بالاحتفال بمولد أبيه وأبي البشرية آدم –عليه السلام-؟!
الشبهة العاشرة:
أن الاحتفال بالمولد جرى عليه عمل كثير من الناس واستحسنوا، وقد قال ابن مسعود –رضي الله عنه-: "ما رآه المسلمون حسناً؛ فهو عند الله حسن".
وللرد على تلك الشبهة:
أولاً: لا شك أن الأثر ثابت عن ابن مسعود –رضي الله عنه-رواه أحمد (1/379)، والطيالسي (23)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/146)، والحاكم "3/78)، والبزار (130)… ولكن لا يصلح حجة على أن في الدين بدعة حسنة، يقول الشيخ الألباني –رحمه الله-: إن من عجائب الدنيا أن يحتج بعض الناس بهذا الحديث على أن في الدين بدعة حسنة، وأن الدليل على حسنها اعتياد المسلمين لها!!
ولقد صار من الأمر المعهود أن يبادر هؤلاء إلى الاستدلال بهذا الحديث عندما تثار هذه المسألة. وخفي عليهم:
أ- أن هذا الحديث موقوف، فلا يجوز أن يعارض النصوص المرفوعة القاطعة في أن "كل بدعة ضلالة" كما صح عنه.
ب- وعلى افتراض صلاحية الاحتجاج به؛ فإنه لا يعارض تلك النصوص لأمور:
الأول: أن المراد به إجماع الصحابة، كما يدل عليه السياق، وقد استدل به ابن مسعود على صحة خلافة الصديق، واللام فيه للعهد لا للاستغراق -كما توهمه البعض-.
الثاني: سلمنا أنه للاستغرق، ولكن ليس المراد به قطعاً كل فرد من المسلمين، ولو كان جاهلاً لا يفقه من العلم شيئاً… بتصرف من "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (2/17).
وقال الحافظ ابن كثير –رحمه الله-: وهذا الأثر فيه حكاية إجماع الصحابة في تقديم الصديق، والأمر كما قاله ابن مسعود، وقال ابن قدامة في "الروضة" ص(86): الخبر دليل على أن الإجماع حجة، ولا خُلْف فيه. وكذا فهمه الإمام الشاطبي "الاعتصام" (2/130)، وابن حزم في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" (6/197)، والعز بن عبد السلام "الفتاوى" ص(379).
- ثم إن المسلمين أهل القرون المفضلة لم يفعلوا ذلك، بل أول من فعله هم الفاطميون الذين يشهد التاريخ الإسلامي بتدنيسهم محيا الإسلام، وأنهم ادعوا الإلهية، وقتلوا العلماء، وغيروا الملة.
الشبهة الحادية عشرة:
استدلالهم باحتفال النصارى بميلاد عيسى –عليه السلام-، قالوا: فنحن أولى أن نحتفل بميلاد نبينا –صلى الله عليه وسلم-، وهو من عجائب الاستدلال، وقد ذكر السخاوي في "التبر المسبوك" ص(14).
وللجواب عن ذلك يكفي أن تعلم أن مُلا علي قاري –وهو من القائلين بجواز المولد- قال في "المورد الروي في المولد النبوي" ص(16): قلت: "ولكن يرد عليه أنا مأمورون بمخالفة أهل الكتاب".
وهو أيضاً من المشابهة التي حذر منها الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "خالفوا المشركين" البخاري (5893، ومسلم (259 ، 260).
وقد أخبَر –صلى الله عليه وسلم- بذلك محذراً فقال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!!" البخاري (7320)، ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه-.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية مؤلف جامع ماتع في هذا الباب سماه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" يساوي وزنه ذهباً.
الشبهة الثانية عشرة:
ليس كل ما لم يفعله السلف يكون بدعة مذمومة، بل منه ما هو حسن.
الجواب عن هذه الشبهة:
هذا خلط بين البدعة والمصلحة المرسلة التي هي: "الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن الناس". "أصول الفقه الإسلامي" (2/757) وهبة الزحيلي.
ومن باب الفائدة نذكر الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة:
أ- أن البدعة غالباً ما تكون في الأمور التعبدية، وأما المصالح المرسلة فهي فيما يعقل معناه، ولا دخل له في التعبدات.
ب- أن البدعة مقصودة لذاتها، وأما المصالح المرسلة فهي مقصودة لا لذاتها، وإنما هي بمنزلة الوسائل لتحقيق مقصد من مقاصد الشريعة، وإذا عورضت بمفسدة سقطت.
ج- أن البدعة يكون المقتضي لها قائماً في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- ثم لا يفعلها، أما المصالح المرسلة فلم يكن المقتضي لها قائماً في عهده –صلى الله عليه وسلم-.
د- أن البدعة مناقضة لمقاصد الشريعة؛ فهي هادمة لها، أما المصالح المرسلة، فإنها موافقة لمقاصد الشريعة؛ فهي خادمة لها.
هـ- البدعة زيادة في الدين وشرع لم يأذن به الله، أما المصالح المرسلة فهي تخفيف عن الأمة أو حفظ لأمر مهم.
الشبهة الثالثة عشر:
احتجاجهم بقول الإمام الشافعي –رحمه الله-: "ما أحدث وخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعة الضالة، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئاً من ذلك فهو المحمود".
وللرد على ذلك:
أن الإمام الشافعي قال: من استحسن فقد شرع، كما نقله عنه الغزالي والمحلي، فقوله هنا محمول –إن صح- على المصالح المرسلة، كبناء الربط والخانات والمدارس وغير ذلك.
قال الإمام الشاطبي في "فتاويه" ص(180-181) في شرح حديث "كل بدعة ضلالة": محمول عند العلماء على عمومه، ولا يستثنى منه شيء البتة، وليس فيها ما هو حسن أصلاً… وقال ابن عمر –رضي الله عنهما-: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة، وهو حديث صحيح موقوف، رواه اللالكائي (126)، وابن بطة (205)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن" (191)، وابن نصر في "السنة" بتحقق علي حسن الحلبي، وقال: بسند صحيح.
- ثم أين محبة النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي نهى عن البدع والمحدثات، بلفظ العموم والحصر والاختصاص، حتى يعارضه قوله بقول غيره مهما كان.
- وعلى افتراض أن الإمام الشافعي أراد ما فهمه هؤلاء فكل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي –صلى الله عليه وسلم-. مع أننا نجل الإمام الشافعي –رحمه الله- عما فهمه هؤلاء من جواز الابتداع في الدين، وقد  ثبت عنه كما في كتابه "الرسالة": "أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد".
الشبهة الرابعة عشر:
أن في الاحتفال بالمود قراءة لسيرته –صلى الله عليه وسلم-.
الجواب: أنها شبهة واهية جداً؛ إذ أن سيرته مطلوبة دائماً وأبداً، وأما تخصيص يوم لذلك بدون دليل على التخصيص فإنه بدعة "وكل بدعة ضلالة".
- ثم إن في ذلك جفاء للرسول –صلى الله عليه وسلم- إذ لا يهتم بسيرته إلا في يوم واحد، فنعوذ بالله من الخذلان.
ولهم شبهات غير ذلك لا تنهض للاحتجاج، ويكفي للرد عليها وعلى غيرها من البدع والضلالات أن السلف الصالح لم يفعلوها:
وكل خير في اتباع من سلف                  وكل شر في ابتداع من خلف
وكما قال الإمام مالك بن أنس –رحمه الله-: "لا يصح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". وقال أيضاً: "فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً". وقال أيضاً: "من قال إن في الإسلام بدعة حسنة، فقد ظن أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم… ) الآية [المائدة:3] ".
ونختم بقول الإمام أبي حفص تاج الدين الفاكهاني –رحمه الله-: أما بعد: فقد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول، ويسمونه المولد، هل له أصل في الدين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبيناً، والإيضاح عنه معيناً؛ فقلت –وبالله التوفيق-: لا أعلم لهذا  المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطَّالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون. أ.هـ. من رسالة "المورد في عمل المولد".

بحث سريع