لمحات في دراسة قبائل العراق

بواسطة | أ.د.أبو محمدالهاشمي
2005/05/06
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده
ورسوله .. وبعد :
قال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } [ 13 الحجرات ] ، وقال تعالى : { وفصيلته التي تؤويه } [ 13 المعارج ] ،
وقال تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ 21 الشعراء ] .
هذه بعض تقسيمات المجتمع القبلي المذكورة في القرآن الكريم ، وقد اختلف علماء الأنساب في تسمياتها وتقسيماتها ولعل أفضلها ما ذكره الماوردي في ( الأحكام السلطانية ) وهي : شعب ، ثم قبيلة ، ثم عمارة ، ثم بطن ، ثم فخذ ، ثم فصيلة ([1]) .
ولقد كان استقرار العرب في أرض الرافدين قديماً جداً يرقى تأريخ وجودهم إلى زمن ( بخت نصّر ) حيث غزا التجار العرب " فأخذهم وبنى لهم حَيْراً بالنجف وحبسهم فيه ووكّل بهم وانتشر الخبر في العرب فخرجت إليه طوائف منهم مستأمنين فقبلهم وعفا عنهم فأنزلهم السواد فابتنوا الأنبار وخلّى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلاً حياة ( بخت نصّر ) فلما مات انضمّوا إلى أهل الأنبار وهذا أول سكنى العرب السواد بالحيرة والأنبار " ([2]) .
ولما تم الفتح الإسلامي لبلاد الرافدين كان هنالك العديد من القبائل العربية العريقة مستقرة فيها كإياد ، وتغلب ، وقضاعة ، وطيء ، وتميم ، وبكر بن وائل والقبائل التنوخية – مزيج من قحطان وعدنان – وزاد عليها بفعل توسع رقعة الفتوحات استيطان العديد من القبائل حيث ساهمت الدولة في إقطاعهم الأراضي حيث تم تنظيم الخطط على أساس قبلي ( بشكل عام ) .
ويعد العراق أكثر البلاد العربية جمع ضمن حدوده المعروفة قبائل كثيرة ومختلفة ولا ريب في ذلك لأن العراق هو الامتداد الطبيعي المتصل بجزيرة العرب واليمن .
والنسيج القبلي الواسع المتشعب في العراق يثير التساؤل و يشغل فكر كل باحث في هذا الشأن في أسباب قوته وعدم اضمحلاله وتلاشيه حتى الوقت الحاضر ولعل أبرزها وأقواها هي :
أولاً : وجود معظم القبائل العربية فهو مجمع ضم قبائل الجزيرة واليمن وهذا يثير الشعور بالقوة والعزة والمنعة عند العربي خاصة وهو يحادد في هذه البلاد الفرس الذين يختلفون في طباعهم وعاداتهم وتقاليدهم ، يقول العزاوي : " والقبائل العراقية كثيرة وغالبها قحطانية وقسم منها عدنانية وبينها ما هو متردد بين العدنانية والقحطانية مثل إياد وإنمار .. ولهذه القبائل فروع كثيرة ولا نجد بين هؤلاء ما هو خارج عن الجذمين القحطاني والعدناني . ولكننا نرى بعضها يعزى إلى العاربة الأولى البائدة … " ([3]) .
وعلل العزاوي أيضاً طول بقائهم بما يلي :
ثانياً : كانوا أكثر الأمم مراعاة للمصالح ، وتمرناً على الحروب والمناجزة أو المتاركة تبعاً للأوضاع والحالات القاهرة أو الظروف المقتضية والبواعث الجابرة ، ذلك ما دعا أن يطول بقاؤهم في العراق رغم النفرة بينهم وبين المالكين لزمام الملك … ([4]) .
ثالثاً : الوجود التأريخي للعرب الموغل في القدم في أرض العراق .
رابعاً : وجود إمارات عربية عديدة قديمة في العراق كإمارة الحضر ، والأزد ( التنوخية ) ، ولخم الأولى ،
والثانية ، والثالثة ، والرابعة ، والخامسة ، وكندة ، وطيء ([5]) .
خامساً : وجود عدد غير قليل من آل بيت النبي الكريم r منهم علي ، والحسين ، والعباس ، وموسى الكاظم ومحمد الجواد ، وعلي الهادي ، والحسن العسكري رضي الله عنهم ورحمهم .
وكذلك الكم الكبير من صحابة رسول الله r الذين نزلوا أرض العراق ، ومساهمتهم في الفتوح الإسلامية حيث كان العراق قاعدة الانطلاق للفتوح ولقد كان نصيب الكوفة في الصحابة كبيراً إذ هبط فيها ثلاثمائة من أصحاب الشجرة وسبعون من أهل بدر ([6]) ، أهل الشجرة الذين قال فيهم الله عز وجل : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة
عليهم } [ 18 الفتح ] وأما أهل بدر فقد أثنى عليهم بقوله عز وجل : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله … } [ 13 آل عمران ] .
وبقوله هو جل وعلا يشهد لهم بالإيمان : { هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين
قلوبهم … } [ 62 الأنفال ] ، وكذلك البصرة حيث نزلها ما يزيد على ( 230 ) صحابي([7]) عدا صحابة آخرين دفنوا في أماكن مختلفة ، كحذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي في المدائن قرب قصر كسرى . ومعروف مكانة الصحابة رضي الله عنهم وتعليمهم وإرشادهم لمن ينزلون بينهم في الأمصار الإسلامية الجديدة ويوجد في الوقت الحاضر الكثير من الأسر التي تنتمي إلى عدد من الصحابة رضي الله عنهم . ووجود الكم الكبير الهائل من المصلحين والمفسرين والمحدثين والفقهاء والعلماء في مختلف العلوم الشرعية وغيرها .
سادساً : قيام الدولة الإسلامية وبقائها حتى عام 656 ﻫ . كان له الدور الحضاري العظيم والمؤثر في نفوس أبناء المسلمين الذين ينتمون إلى قبائل مختلفة .
سابعاً : وجود شيوخ العديد من كبريات القبائل العربية في العراق أمثال شيوخ شمر ، وعَنَزة ، وربيعة ، والعبيد ، والجبور ، والزبيد ويعودون الثلاثة إلى جد واحد من ( حِمْيَر ) .
ثامناً : التزام أبناء القبائل بـ( القانون ) المتعارف عليه عندهم ، واحتكامهم إليه وقوة سلطة ( شيخ القبيلة ) وخاصة في سوء أو ضعف إدارة الدولة حيث يلجأ أفراد القبيلة إلى شيخهم الذي يعتبر سلطة تشريعية وتنفيذية وكل ما يتعلق بقبيلته وصلتها بغيرها من القبائل ، وقد صنف بعض شيوخ وأبناء القبائل وبعض الباحثين كتباً في ذلك ([8]) .
تاسعاً : الأحلاف التي تعقد بين القبائل المختلفة كحلف المنتقق – المنتفج – ، والزبيد ، والدليم ، والعبيد ، وبني لام وربيعة … فالقبيلة تقوى بتحالفها مع القبيلة الأخرى المجاورة لها في الأرض ، وهذا حلف المنتفق المكون من الأجود وبني مالك وبني سعيد بزعامة الشيخ ( الشريف ) شبيب بن مانع كونوا إمارة بقيت قرابة
( 4 ) قرون ([9]) .
النظرة المقدسة لآل البيت ومن ينتسب لهم :
كان للأحداث الدامية الأليمة التي مرت بالأمة الإسلامية وخاصة مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما الأثر البالغ في انحياز العديد من القبائل العربية إلى آل بيت النبي الكريم r والتعاطف معهم بل والقتال وبذل الدماء لنصرتهم رضي الله عنهم ، وضل هذا الأمر متأصلاً فيهم ولا يقدم عليهم سواهم حيث كان الشريف يفضل في ترأس الحلف المبرم بين القبائل المتعددة كما هو معروف في ( حلف المنتفق أو المنتفج ) .
وقد هاجر العديد من أسر الأشراف من الحرمين وغيرها إلى بلاد الرافدين كأسرة أبي طبيخ التي هاجرت من الأحساء بحدود 1214 ﻫ ، وأسرة السعدون من الحجاز قبل أربعة قرون ، و( البو محمد ) من الحجاز سنة 1213 ﻫ ، والسادة العذارية – نسبة إلى زيد بن علي بن أبي طالب – من المدينة النبوية ، وكذا آل زوين قبل عدة قرون ، وكذا ( بيت القزويني ) وغيره من إيران ([10]) .
وإذا ما نزل شريف من الأشراف أو السيد بما هو المصطلح عليه في العراق فله المكانة العالية وينظر له بقدسية كبيرة ، وإذا كان متواضع الحال أو معدماً منحه شيخ القبيلة أرضاً خصبة ويوثق تلك المنحة بصك شرعي كما فعل شيخ الخزاعل لأسرة آل أبي طبيخ بحدود عام 1214 ﻫ ([11]) .
وكذلك ما فعلته قبيلة ( العنافجة ) إحدى فروع قبيلة آل كثير مع السيد أحمد الجابري الذي هاجر من العمارة على أثر خلاف بينه وبين والده ، حيث أنزلوه منزل إجلال وإكرام وقد أعطوه أرضاً مزروعة … ([12]) .
لأنهم – أي القبائل المتواجدة في وسط وجنوب العراق – يعتبرون أن للسادة حقاً في أملاكهم الخاصة وكذا في وارداتهم السنوية فيقدمون ذلك مع الطاعة ([13]) . يقول عبد الجبار فارس شاهد عيان : " ويندر أن نجد قرية خلت منهم أو عشيرة لا يحط معها بعضهم ، وهم أينما حلوا كانوا من المقربين عند الشيوخ ولهذا صاروا يقطعونهم قسماً من أراضيهم ويخصصونها ملكاً لهم … " ([14]) .
بل نجد ( التجمع القبلي ) المكون من قبائل شتى يسمى أحياناً باسم الأسرة التي تنتمي إلى الرسول r وحلت بينهم كـ( آل سيد نعمة ) ([15]) ، حتى بلغ الأمر بأمير المحمرة ( من مقاطعة الأحواز – خوزستان – عربستان ) خزعل بن جابر الكعبي العامري ( ت 1355 ﻫ / 1936 م ) قوله المشهور لما طلب منه أحد أفراد أسرة السيد هاشم النزاري أن يسمح له بقتله وذلك لتحريضه القبائل ضده – خزعل – : " لو أعطيت ملك الدنيا لما رضيت أن ألاقي ربي ويداي ملطخة بدم علوي " ([16]) . وبناء على هذا التصور وهذه القدسية والهالة التي تحيط بأي أسرة علوية تنتسب إلى رسول الله r اعتمد فقهاء الشيعة في دعوة القبائل المنتشرة في جنوب ووسط العراق التي كانت ولا زالت إلى عهد قريب تعيش في جهل مبين ، ومبادئ الدين وأصوله مغيبة عن معظمهم عدا المدن التي كانت يتوفر فيها المساجد والمدارس الدينية منذ القرون الغابرة مع العلماء العاملين .
وعُدَّ ( السيد ) والمؤمن ( العالم ) من مكونات المجتمع البدوي القبلي ، ولا تكاد توجد قبيلة أو عشيرة وحتى الصغيرة منها القليلة العدد إلا ويوجد فيها السيد أو ( المؤمن ) وغالباً الاثنين معاً أو يقوم السيد بمهام المؤمن إضافة إلى مهمته ([17]) ، وهؤلاء يتم ترشيحهم وإرسالهم إلى القبائل من قبل المرجعية الدينية في النجف
وكربلاء .
وهذا السيد الذي ينتسب إلى الرسول r يرجعون إليه في كثير من أمورهم الشخصية والعامة حين تنتابهم مصيبة أو مرض فيتبركون بأخذ قطعة صغيرة من ( كوفيته الزرقاء ) أو عمامته السوداء أو الخضراء يشدونها على رسخ أيديهم ليطردوا بها الأرواح الشريرة والأمراض ولينالوا الحظوظ السعيدة وتكون لهؤلاء السادة الصدارة في المجلس والمائدة والسير في الطريق فلا يتقدمهم أحد من أفراد العشيرة وكذا التوسط في المعارك الدامية بين أفخاذ العشيرة أو غيرهم والنزول إلى رأيه ، بل يصل الغلو بالجهلة من أبناء القبائل القسم بهم حتى في الدوائر الرسمية كما هو معروف في عشيرة ( البو محمد ) حيث كانوا يقسمون بحياة ( سيد صريوط ) في الدعاوى المدنية والجنائية والخصومات الأخرى وكان لهم به اعتقاد باطل ، والأفراد من هؤلاء السادة الذين يقيمون بين القبائل جزاء ما يقومون به ، يقتطع شيوخ العشائر والقبائل في العادة قسماً من أراضيهم إكراماً لهم أو تجبى لهم رسوم خاصة من أفراد القبيلة سنوياً تسمى بـ( الخمس ) ([18]) . والأراضي المخصصة لهم تسمى بـ( المحرمات ) ([19]) .
وأما مهمة المؤمن ( العالم ) فيقوم بالفرائض الدينية كالصلاة ويعلم في العادة أولاد القبيلة القرآن ، ويرتدي عمامة بيضاء كي يتميّز بها عن السيد حيث يرتدي السوداء ويتمتع المؤمن بمكانة تلي مكانة السيد ولهم رسوم معينة تسمى ( العوائد ) لما يتولونه إجراء عقود الزواج والطلاق حسب الفرائض الشرعية وتحرير الوصايا والتركات وغيرها كقراءة واقعة كربلاء ووفيات سائر الأئمة وينشد فيهم القصائد مدحاً ورثاءً … ([20]) .
ونظراً لما يتمتع به السيد وسط القبيلة من مميزات ومكانة المذكور بعضها آنفاً أكثر الادعاء بالسيادة ، وقل من هو مقطوع بنسبه كما يقول العزاوي ([21]) . ولكثرة السادة وازدياد نفوذهم تنبه فريق من الناس لتلك الظاهرة وأخذوا يتساءلون عنهم مما اضطر مدعي السيادة أحياناً إلى تغيير محلات سكنهم لتفادي تدقيق رجال العشائر تدقيقاً شاملاً في موقعهم ([22]) . وحاول رؤوساء بعض العشائر لتعزيز مكانتهم وهيمنتهم على عشائرهم وقبائلهم تزويج بناتهم لبعض السادة ([23]) .
شيخ القبيلة :
هو رأس القبيلة الذي يتولى فض الخلافات والنزاعات وإقامة العدل بين المختلفين ، ويذب عن شرف القبيلة ويحمي ذمامها ، فهو يتمتع من بين أفراد القبيلة بالمعرفة والحنكة ، وأشدهم في القتال مع الشجاعة والإقدام .
وقد لخص تلك الصفات أحد شيوخ البدو بقوله وهو يهز سيفه : " بالفَهْم السَوي والزَنْد القوي " ويكون المصدر الأساسي لكافة السلطات والشؤون القضائية والتنفيذية التي تستمد قوتها الإلزامية من التصورات الجماعية والمشاعر والأحاسيس المشتركة ، ومن العصبية المتغلغلة الجذور في حياتهم اليومية والتي تتميّز بأنها مبجلة ومقدسة وأنها تمارس سيطرة فعالة على ضمائر أفراد القبيلة ، وأوامره تتصف بالإلزام لأنها النتاج الطبيعي الذي يحافظ على حياة القبيلة ، وفي يدي الشيخ سلطة تعيين المهام الاجتماعية للأفراد وهو الذي يقصي من يريد إقصائه ويقرب من يريد وله حق معاقبة كل فرد من قبيلته إن تمرد على قواعد وعرف القبيلة أو ارتكب جرماً كما لهم الحق في طرده وإبعاده ، ويتم اختيار شيخ القبيلة من بيت من بيوتاتها تميّز فيه الكرم والشجاعة والشيم والخصال الحميدة وتبقى تلك الخصوصية في ذلك البيت يتوارثه الأحفاد ما دامت فيهم تلك الصفات فهو نظام وراثي في الغالب فيأخذ ( الشيخة ) الابن عن أبيه أو عمه ويكون أحياناً ولي عهد الشيخ طفلاً يبقى تحت وصاية أحد أقاربه أصحاب النفوذ حتى يبلغ سن الرشد وإذا أخل شيخ القبيلة بالصفات التي يجب توفرها فيه يختار عندئذ أقرب الأفراد الآخرين إلى الشيخ الراحل ([24]) .
ربط القبائل المتشيعة بالمدن ذات التأثير الديني ( المدن المقدسة ) :
من المعلوم أن أكثر من نصف سكان العراق كانوا من أهل الأرياف وقد ذكر الحسني إحصائية في ذلك لعام 1947 م :
سكان الأرياف
64 ٪
وهم 3.150.667 نسمة
سكان المدن
31 ٪
وهم 1.415.516 نسمة
البدو
5 ٪
قدروا تقديراً بـ(250) ألف نسمة
وجرى إحصاء عام ثان للعراق في 12 تشرين الأول 1957 م فظهر بنتيجة أن نفوس العراق في هذا التاريخ 6.538.109 نسمة منها ( 3.294.073 ) من الذكور و( 3.244.036 ) من الإناث ([25]) .
وكان نصيب النجف في أوائل القرن العشرين ( 30 ألف ) نسمة بينما كربلاء ( 50 ألف ) نسمة ، يشكل الفرس منهم 75 ٪ ([26]) ، وفي عام 1955 م نفوس النجف ( 78.101 ) وكربلاء ( 71.163 ) نسمة ([27]) .
ولقد كان رد فعل القبائل والعشائر العربية وخاصة في منطقة الفرات الأوسط التي تتكون من ( كربلاء ،
الحلة ، الديوانية ) – والنجف تعتبر أحد أقضية لواء كربلاء – على هجمات الوهابيين لأكثر من مرة منها دخولهم كربلاء عام 1801 م حفز علمائها وعلماء النجف إلى تكثيف عملية تشيُّع قبائل العراق ، وواكب ذلك سياسة العثمانيين الملحة في توطين العشائر التي بدأت في عام 1831 م . فتواكب العاملان على بناء جيش من أبناء القبائل لحماية المدينتين في الحظر كما سموه الوهابي القائم ([28]) . وأخذ علماء الشيعة يعمقون قوة ربط أبناء القبائل بحب المدينتين وتنظيم الزيارات المستمرة على مدار العام . إما أن يكون تاريخ ولادة النبي أو وفاة إمام أو زيارة أحد الأئمة وهذه أهمها : ( يزار قبر الحسين رضي الله عنه يوم عاشوراء ، وفي العشرون من صفر ، وفي غرة رجب ومنتصفه ، وفي منتصف شعبان ، وأول أيام عيد الفطر ، ويوم عرفة ، وأول أيام عيد الأضحى . كما يزار قبر الإمام علي رضي الله عنه في ذكرى المولد النبوي في الـ17 من ربيع الأول ، وفي الـ17 من رجب ( ذكرى الإسراء والمعراج ) ، وفي الـ18 من ذي الحجة ) ([29]) .
سياسة الاستعمار البريطاني واعتماده على مبدأ ( فرق تسد ) :
اعتمدت بريطانيا في استعمارها للعراق على كم كبير من التقارير التي كتبها فريق من السواح منذ أكثر من خمسة قرون وكانوا يتلقون الدعم المادي وغيره من عدة مؤسسات منها : الجمعية الملكية الجغرافية ، شركة الهند الشرقية ، المتحف الوطني ، مصلحة الاستخبارات العسكرية . ومن أشهر هذه الرحلات الخاصة بالعراق وأقدمها رحلة الهولندي د. ليونهارت راوسلف عام ( 1573م ) ، وجاكسون زار العراق سنة 1767م وهو من موظفي ( شركة الهند الشرقية ) ، رحلة كلوديوس جيمس ريج ( 1787 – 1820م ) وما دوّنه عن العشائر الكردية والعربية وعن اليزيدية على جانب كبير من النفاسة ([30]) ، رحلة جيمس بيلي فريزر
( 1783 – 1856م ) كثير الاهتمام بوصف الحالة الاجتماعية ولاسيّما في ذكر عادات وطباع العشائر العربية والكردية التي مر بها ([31]) . ورحلة الليدي دراور حيث وصفت في رحلتها النجف والكوفة وكربلاء والكاظمَين وسامراء وبغداد والموصل والبصرة ، والمرأة ، والعشائر ، واليهود ، واليزيدية ، والصابئة ، والأهوار ، والعادات والتقاليد ([32]) ، وتسيكر زار منطقة الأهوار ودرس أحوالها الاجتماعية والاقتصادية ([33]) . وقبائل بدو الفرات عام 1878م لـ( اللّيدي آن بلنت ) ([34]) ، وهنري ليارد زار بدو دجلة والفرات عام 1841م وعاش بين الجبور فترة من الزمن ([35]) . ومذكرات عن القبائل العربية البدوية للميجر ف.ل ايدي عام 1919م ([36]) ، ومذكرات عن عشائر وشيوخ عانه ومنطقة البو كمال ومذكرة عن مدينة عنه للكابتن سي. سي. مايللز عام
1919م ([37]) ، ومذكرات عن عشائر وشيوخ الشطرة للكابتن س. أس. أف. بركلي عام 1919م ([38]) . حتى أن بعض المسؤولين المعتمدين كان يطلب من العارفين بأصول العرب وقبائلهم أن يكتب له ما يعرفه عنهم فهذا كلوديس جيمز ريتش ( ريك ) المقيم البريطاني بالبصرة وفي بغداد عام 1808م ، الذي كان داود باشا يعتقد بأنه متآمر مع الأكراد والإيرانيين ([39]) .
طلب من أشهر شيوخ القبائل – وهو الشيخ محمد البسام التميمي ( ت 1246ﻫ ) – أن يكتب له كتاباً في قبائل العراق فصنف له ( الدرر المفاضر في أخبار العرب الأواخر ) وقد ركز فيه على إحصاء عدد المقاتلين في كل قبيلة من الفرسان وكذا المشاة ( السقماني ) وانتماءاتهم المذهبية وتناول فيه قبائل اليمن والحجاز وحلب وخاصة قبائل العراق ([40]) .
وبناء على تلك المعلومات والتقارير والرحلات السابقة استطاعوا معرفة أغلب ما يتعلق بالقبائل وشيوخهم وتفرعاتهم وولائهم للدولة العثمانية وتسلحهم بل وحتى نوع السلاح ومصدره ، وتمكنوا شيئاً فشيئاً بالترغيب بالأموال والأراضي والمناصب الإدارية ، والترهيب بالحرمان والسجن والإبعاد عن البلد ، وفي نهاية المطاف تم لهم السيطرة على البلاد والتمكن في نهاية سنة 1917م ، أن يؤسسوا قوات عسكرية قوامها أفراد العشائر سموها ( شَبَانة ) وتذكر ( المس بيل ) في مذكراتها سنة 1919م أن ما يقرب من ( 400 شيخ ورئيس ) من العشائر الفراتية في الحلة والهندية والناصرية والديوانية قد نظموا عرائض ومضابط يطلبون فيها استمرار الإدارة البريطانية المحتلة ([41]) . وهكذا انخرط الكثير من رؤساء القبائل والعشائر ذات الأصول الرفيعة في خدمة
المستعمر .
كذلك تمكنوا من الهيمنة على كثير من شيوخ النجف وكربلاء ووجهائهم ، فقد تمكن السيد هادي الرُّفيعي – وهو سادن الروضة العَلَوية – من تنظيم مذكرة تحمل تواقيع 21 شخصية من وجهاء المدينة وتجارها يطلبون الحكم البريطاني المباشر ([42]) .
ومع هؤلاء ستة من المجتهدين في النجف كانوا على استعداد لتأييد إدارة بريطانيا حتى يتمكن أهل البلد من الحكم بأنفسهم ، وإذا ما بحثنا عن هؤلاء نجدهم : ثلاثة هنود كانوا رعايا بريطانيين : السيد ( هاشم ) الهندي النجفي ، ( محمود ) الهندي النجفي ، ومحمد مهدي الكشميري ، ومجتهد واحد من أصل فارسي هو جعفر بحر العلوم ، وحسن بن صاحب الجواهري يحمل الجنسية الإيرانية ، وعلي بن محمد رضا كاشف الغطاء ، وكان على صلة وثيقة بكاظم اليزدي الإيراني أكبر المجتهدين علماً وصاحب النفوذ الكبير بين العشائر العربية الشيعية ([43]) .
وكان الغالبية والحمد لله يطالبون بحاكم عربي منتخب من أهل العراق ([44]) .
ومن المعلوم في الفقه الشيعي المتأخر وجود عدة موارد مالية تدفع للحوزة الدينية فإضافة إلى الخمس الذي يدفع خلال غيبة ( الإمام المهدي ) ابتداء من 329ﻫ إلى المجتهد الفقيه وممثل الإمام الغائب .
" ويقوم بتقسيمه إلى قسمين ( سهم الإمام ) ويستخدم للأنشطة الدينية ، و( سهم السادات ) ويخصص للسادة و( رد المظالم ) ، و( حق الوصية ) ، و( النذر ) " . هذا ما صرّحت به مؤلفات
مجتهدي الشيعة في القرن العشرين ([45]) .
كانت هنالك خيرية دولة أوذه الشيعية في شمال الهند ( 1720 – 1856م ) حيث حوَّل حكام أوذة ووزراؤها ووجهاؤها أكثر من مليون روبية للأغراض الخيرية والمشاريع الاقتصادية والوظائف الدينية ، فساهمت كثيراً في دعم المجتهدين الفرس في النجف وكربلاء الذين كانت لهم صلة بدولة أوذة ، وابتداءً من تشرين أولى 1852م أصبحت خيرية أوذة تدفع عن طريق الوكيل السياسي البريطاني في العراق ، الذي منحت له سلطة قانونية للإشراف على إنفاق المال ، وكان يقوم باختيار المجتهدين الذين يتولون التصرف والتقسيم لهذه الأموال ، منهم خمسة هنود معادلة للهيمنة الإيرانية وبحلول عام 1908م أشيع أن القسم الأعظم في هذه الأموال يدفع للمجتهدين الإيرانيين لأن البريطانيين يفكرون بالاستيلاء على إيران ([46]) . حتى عبّرت الدولة العثمانية عن ذلك بقولها " الدفعات السرية للأماكن المقدسة من السلطات الهندية البريطانية " ([47]) .


([1]) انظر : تفصيل ذلك ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) للسيد الآلوسي ت 1342ﻫ ، 1/188 .
([2]) انظر : ( الكامل ) 1/271 ، و(معجم البلدان) 2 / 329 مادة ( حيرة ) ، و(عشائر العراق) 1/38 ، 62 .
([3]) انظر : (عشائر العراق) 1/67 .
([4]) انظر : المصدر السابق 1/ 98 – 99 .
([5]) انظر تفصيل ذلك في : المصدر السابق 1/99 – 108 .
([6]) انظر : ( طبقات ابن سعد ) 6/9 .
([7]) انظر : ( طبقات خليفة بن خياط ) ق1/409-547 ، ق2/571-578 ط دمشق ، ( طبقات ابن سعد ) 7/5-89 ، و( موسوعة تاريخ البصرة ) 1/51-81 .
([8]) انظر : ( القضاء العشائري ) لفريق المزهر آل فرعون ط 1360ﻫ ، ( بغداد والبدو والعشائر في البلاد العربية ) لعبد الجليل الطاهر ط 1955م ، و( موجز تاريخ عشائر العمارة ) لمحمد الباقر الجلالي ط بغداد 94-134 .
([9]) كتب الكثير عنهم مثل : ( ذكرى السعدون ) للشيخ علي الشرقي ط 1929م ، ( مباحث عراقية ) في مجلدين ليعقوب سركيس ط 1948 ، 1955م ، ( شجرة الزيتون في نسب آل سعدون ) أ.عبد الحميد عبادة كتبها 1343ﻫ ،
و( تاريخ السعدون السياسي ) أ. عبد الكريم السعدون 1991م .
([10]) انظر : ( قلب الفرات الأوسط ) للتميمي ج2 ، و( عامان في الفرات ) صـ90 ،
و( عشائر العراق ) 4/15-23 ، 246-249 ، وأسماء القبائل للقزويني ت 1300ﻫ ، المقدمة .
([11]) انظر : ( دراسات عن عشائر العراق ) صـ143 .
([12]) انظر : ( مسيرة إلى قبائل الأحواز ) صـ43 ، والقبائل والعشائر العراقية في عربستان صـ74 .
([13]) انظر : ( عامان في الفرات ) صـ88 .
([14]) انظر : المصدر السابق .
([15]) انظر : ( مسيرة إلى قبائل الأهواز ) صـ118 .
([16]) انظر : المصدر السابق صـ58 .
([17]) المصدر السابق صـ98 ، و ( لمحات اجتماعية ) د. علي الوردي جـ5/ق1/صـ115 .
([18]) انظر : ( البدو والعشائر في البلاد العربية ) د. عبد الجليل الطاهر صـ5487 ط 1982 م ،
و ( تاريخ ميسان ) صـ339 .
([19]) انظر : المصدر السابق ، حيث تزرع وتحصد من قبل أبناء العشائر .
([20]) انظر : ( البدو والعشائر ) للطاهر صـ17 ، و (عامان في الفرات الأوسط ) صـ98-99 .
([21]) انظر : ( عشائر العراق ) 4/229 .
([22]) دراسة انثروبولوجية اجتماعية لعلاء الدين البياتي مجلة الراشدية العدد 122 ، النجف 1971م .
([23]) انظر : ( الفوائد الرجالية ) 1/157-158 ، ط النجف عام 1965م .
([24]) انظر : ( البدو ) مكّي جميل صـ41 ، ( البدو والعشائر في البلاد العربية ) 15-16 ،
( البدو والبادية ) جبرائيل سليمان 241-242 ، ( عشائر الشام ) لأحمد وصفي 1/185-192 ،
( عامان في الفرات الأوسط ) 95-96 وغيرها .
([25]) انظر : ( العراق ) للسيد الحسني ط7 عام 1402ﻫ / 1982م ، بغداد .
([26]) انظر : ( دليل الخليج ) لورمر صـ1724 ، صـ1208 .
([27]) انظر : ( العراق ) صـ91 .
([28]) انظر : ( دوحة الوزراء ) لرسول الكركوكلي ت 1240ﻫ صـ212 ( حوادث عام 1215ﻫ ) ، و ( عشائر العراق ) للعزاوي 1/137،144،145،165،231 ، و ( ماضِ النجف وحاضرها ) لجعفر محبوبة 1/324-326 ،
و ( قلب الفرات الأوسط ) 2/194 .
([29]) انظر : ( عامان في الفرات الأوسط ) ط 1353ﻫ النجف صـ58 .
([30]) انظر : ( الذخائر الشرقية ) لكوركيس عوّاد 1/496 .
([31]) انظر : المصدر السابق 1/498 .
([32]) انظر : المصدر السابق 1/503 ، وطبعت في لندن عام 1823م .
([33]) انظر : المصدر السابق 1/504 .
([34]) ط دار الملاح – سوريا عام 1991م .
([35]) انظر : المصدر السابق صـ24 .
([36]) تقرير سري لدائرة الاستخبارات البريطانية عن العشائر والسياسة صـ4 .
([37]) نفس المصدر السابق .
([38]) نفس المصدر السابق .
([39]) انظر : ( دليل الخليج ) 4/1953 .
([40]) انظر : ( الدرر المفاخر ) صـ9 ، المقدمة .
([41]) انظر : مقدمة ( تقرير سري لدائرة الاستخبارات البريطانية عن العشائر والسياسة ) ترجمة د. عبد الجليل الطاهر صـ10،
و ( الحقائق الناصعة ) لفريق المزهر الفرعون صـ78 ، ط 1952 م .
([42]) انظر ( لمحات اجتماعية ) د.علي الوردي جـ5/ق1/72 .
([43]) انظر ( شيعة العراق ) لإسحاق النقاش صـ115 .
([44]) انظر : ( كربلاء في التاريخ ) لعبد الرزاق الوهاب ط بغداد 1935 م صـ48-51 ، والمصدر السابق صـ117 .
([45]) انظر : ( أصل الشيعة وأصولها ) لمحمد الحسين كاشف الغطاء ط بيروت صـ129 ،
و ( مستمسك العروة الوثقى ) لمحسن مهدي الطباطبائي الحكيم 9/504-505 ، ورَدّ د.موسى الموسوي – سبط أبي الحسن الأصفهاني ت 1946م – على ذلك بقوله : " إن بدعة الخمس بالمفهوم الشيعي إنما هو مفهوم مخالف لسنة الرسول والخلفاء الراشدين وأئمة الشيعة لأن الخمس في الإسلام هو الخمس في الغنائم وليس في أرباح التجارة والمكاسب قط " انظر : ( الشيعة والتصحيح ) صـ77 .
([46]) انظر : ( دليل الخليج ) للوريمر 4/1963 لمزيد من التفاصيل .
([47]) المصدر السابق : 2048 ، 2075 ، 2081 .
{moscomment}

بحث سريع