قراءةٌ نقديّةٌ في حِجازيّاتِ الشريف الرضي ( ليلةُ السَّفْحِ نموذجاً ) -2

بواسطة | نادر عبدالكريم حقاني
2005/05/11
"المستوى الإجرائيّ"
1-عرض النص:‏
يُخاطِب الشريف الزمن طالباً منه عودة تلك الليلة التي بَعُدَت على الرّغم من بذله العطايا بغية بقائها لكنّها أبَت رغم دوام الظمأ الملازم للندم بدوامها، وبدافعٍ من الحرقة والندم يتمنّى الشريف زوال المرض والسقم بزوال عهد تلك الليلة.‏
وإنْ نَظَرَ أبناء المجتمع إليه نظرة استغراب، لتمنّيه دوام عهد تلك الليلة على الرغم من الآلام الناتجة عنها، فلأنّهم لم تعركهم التجربة كما عركَت الشريف، ولأنّهم جَهِلوا حقيقة الألم، وغابتَ عنهم حقيقة تعدُّد أنواعه، وأنَّ من الألم نوعاً أحبّ إلى النفس من الشقاء المُقيم، وبما أنّهم استغربوا حالة الشريف فإنه يُطالب عودة تلك الليلة ليشهدوا بأنفسهم ما فيها من ذكريات.‏
وينطلق الشريف مسترجعاً متخيّلاً تلك الليلة مدقّقاً بالأحداث التي كانت فيها، ويستحضر الظبية رمزاً للمحبوبة التي استوقفَت بصره وفؤاده، ودفعته لابتداع فكرة الصيد في الحرم لأجلها، وللالتقاء بها ليلاً على حشمةٍ وتُقى فقد نزعَ به الحبّ إليها. فباتا ضجيعَيْن تلفّهما أثوابٌ من الهوى والتُقى، ومن حولهما الريح الحنون التي ما فَتِئَت وبدافعٍ من الغيرة والحنان تجاذبهما وتداعب ثيابهما وشعرهما، لِترقُّب ما يحدث في هذه الموقعة المتخيّلة المثيرة.‏
وتفوح رائحة الطيب من كيان الحبيبة، ويَضيء البرق وجنتها الوضّاءة المشرقة، والشريف يتفاعل مع محبوبته يُقبّلها في حلكة الظلام قاطعاً معها عهداً على الوفاء والعِفّة، وهو يحاول كتمان الصبح ليتمكَّنَ من قضاء أطول وقتٍ معها.‏
أجل! لا يزال كذلك حتّى يصدح العصفور مُؤذِناً بولادة صبحٍ جديد، وبنهاية ليلةٍ من ليالي العاشقين، وهنا ينفض الحبيبان برديهما من أثر العفاف العالِق بهما، وتمدّ الحبيبة بنانها المخضوب مودّعةً حبيبها العفيف، ولكن ليس قبل أن تقبّله قبلة الوداع المفعمة بالحلاوة، ومن ثمّ تعانقه عناق الوداع الذي يدعو إلى الريبة والشكّ في ظاهره، ولكنّه بعيدٌ كلّ البعد عن ذلك في باطنه.‏
والشريف يحنّ إلى تلك الليلة، ويرغب بتجدّدها ودوامها، لأنه مُتيَّمٌ بتلك المحبوبة وبقبُلاتها التي أطفأَت نيران حبّه المضطرمة، والتي هي دَينٌ على الحبيبة الوفاء به بعد أن بذلَ لها دمه دون جميع الخلق، وبعدها يؤكّد ما أصابه من فراق تلك المحبوبة التي لا يرضى بديلاً عنها وفاءً لعهده لها.‏
2-النصّ بين الخيال والواقع‏
وميميّة الشريف هذه جاءَت على شكل قصّةٍ شعريّةٍ حدّد فيها الشاعر المكان "سفح جبل عرفات"، كما حدَّدَ الزمان وهو ليلة عرفة، وسرد الأحداث التي بدأَت بتوقُّف بصره على تلك الظبية التي تمنّى وجودها "في فناء البيت" هذا التمنّي "لو أنّها بفناء البيت سانحةٌ" يدلّ على أنّ الشريف يتخيّل، لأنّ أداة الشرط "لو" يأتي بعدها فعلٌ مشكوك في حدوثه.‏
وفي لجوء الشريف إلى الاحتراس والتأدُّب في بداية النص دلالةٌ على التخيُّل لأنه ينفي نيله ممّن التقى بها في الواقع "لم أقضِ منكِ لباناتٍ ظفرتُ بها".‏
والذي يظهر تخيّله استخدامه لأسلوب "ربّ" في قوله "وظبيةٍ"، هذا الأسلوب يأتي للمصادفة أو التوقُّع، والذي يظهر التخيّل هو الثنائية الضديّة التي طغَت على النص، وجعلَت العفّة السمة المسيطرة على القصّة الشعريّة، فالهوى يمتزج بالتقى، والذي لفَّ الحبيبين هو الشوق بدلاً من الثوب دلالةً على التخيّل.‏
وفي مجيء الشاعر بصيغة الجمع "بتنا، تجاذَبنا، بنا" دليلٌ على العفّة الناتجة عن التعميم، والتي تنطلق من شخصيّة الشاعر الواقعيّة.‏
وفي وشاية الطيب بدلاً من وشاية العاذل تأكيدٌ على العفّة، وفي امتزاج محبوبته بالطبيعة إصرارٌ على الخيال. والعفّة هي واقع الشاعر.‏
فالهوى، والريح الغيرى، والثغر البارق هي أشياءٌ متخيّلةٌ أمّا الحقيقة فهي العفّة والتُقى، وعدم قضاء الحاجة التي أشار إليها الشريف لأنّه يتمتّع بمكانةٍ هامةٍ في مجتمعه "وفي ذِكر العفّة عند الرضي أمرٌ طبيعيٌّ حين يتغزَّل لأنَّ مركزه الديني والاجتماعي يُعطي شعرَهُ طابعاً أخلاقياً فيجتمع في غَزَلِهِ الهوى والتُقى اجتماع توافق وتآلُف، وتغدو سيرة ممارساته العاطفية محاطةً بمشاعر العفّة والوفاء والوَرع بعيدةً عن المجون والعَبث والافتخار باللذّة(1).‏
3-جماليّات الأسلوب:‏
يبدأ الشريف نصّه بحوارٍ مقترنٍ بالزمان والمكان "يا ليلة السفح"؛ هذا الحوار كان عبر أسلوب النداء الذي يحمل في طيّاته الحسرة والألم لِبُعد تلك الليلة، هذا البعد أوحَت به الأداة "يا" والتي تُشير إلى ألم الشاعر المرتبط بالمكان الذي عبّر عنه بأسلوب الإضافة، الذي يؤكّد أنّ الليلة لا أهميّة لها إن لم تكن هي "ليلة السفح" فالإضافة كانت للتخصيص، ويتبع أسلوب الإضافة بأسلوب التوكيد مستخدماً أداة التحضيض "ألاّ" التي هي بمعنى "هلاّ"، وفيها معنى: التمنّي والالتماس التماس عودة تلك الليلة، وتأتي مفردة "عدت" لتوضيح الالتماس وتأكيده، ولإظهار حالة الألم التي تعتري نفسه، وتأتي مفردة "ثانية" نكرة تذلّلاً لِتلك الليلة، وتوضيحاً لأهميتها لأنّها تتمتّع بمكانةٍ عظيمةٍ لديه.‏
وبعد التماس الشاعر وتذلّله لِعودة تلك الليلة، يأتي الأسلوب الخبَري "سقى زمانك هطّال من الديم" ليخرج إلى معنى الدعاء لكي تبقى أيّام المحبوبة خصبة، وتتجدَّد علاقة الشاعر بها، ويقدّم المفعول به على الفاعل للعناية بشأنه لأنّه متعلِّق بالليلة ومَن كان فيها، ولكي تكتمل اللوحة يذكر المسند إليه "هطّال" الذي جاءَ بصيغة مبالغة اسم الفاعل الدالّة على الظّمأ الروحي اللا محدود إلى تلك الليلة لأهميتها ولأنّها تُشكّل حيّزاً هاماً في نفس الشاعر، ويتبع المسند إليه بالجار والمجرور (من الديم) وكأنّ الشاعر يريد أن تكون سُقيا الحبيبة من كلّ ديمةٍ على سطح البسيطة.‏
ولِعَظَمة تلك الليلة على الرغم من قِصَرِها تأتي مفردة "ماضٍ" نكرةً لأنَّ هذه الليلة تمثّل ماضي الشاعر فهي الخير الأكبر في حياته، لذلك كان يبذل لها العطايا والتضحيات، وبما أنَّ الماضي لا يعود، ولا يُفدى، تأتي أداة الشرط "لو" لتظهر بلاغة الشاعر وإدراكه لمعاني الحروف (لو يفدى بذلت له)، هذه الأداة التي يلحقها فعلٌ مشكوكٌ في حدوثه وللزيادة في الشكّ يأتي الفعل مبنيّاً للمجهول "يفدى" للاستحالة التي تُظهر يأس الشاعِر وقلقه، ويتبع هذا الفعل بصيغة الماضي "بذلتُ" للدلالة على المستقبل الذي سيقدم عليه الشاعر لحظة فداء الماضي، ويأتي أسلوب الإضافة "كرائم المال" للتأكيد على أنَّ هذه الكرائم هي نوع من المال المتعدّد الأنواع، ويطنب الشاعر في أسلوب الإضافة الذي جاء بصورة مبهمة احتاجَت إلى التوضيح "من خيلٍ ومن نعم، هذا الإطناب يجعل المتلقّي ويتساءل ما هي كرائم المال؟ تأتي إجابة الشاعر "من خيلٍ، ومن نعمٍ" ولِكثرة تضحيات الشريف تأتي مفردتَا "خيل، نعم" نكرة للدلالة على كثرة هذه العطايا التي سيقدّمها الشاعر.‏
وتزداد حرقة الشاعر وتظهر شخصيّته المبنيّة على الجلال والوقار الناتج عن تقلّده إمارة الحجّ هذه الشخصية المتّزنة يوضّحها أسلوب النفي "لم أقضِ" الذي يدلّ على الحسرة حسرة الشاعر على ما فاته، لأنّه لم ينل من تلك المرأة على الرغم من اللقاء بها، وتأتي مفردة "لبانات" نكرةً للدلالة على الإمكانية والظرف الذي توفّر له، ولكنّ اتّزانه لا يسمح له، وتأتي صيغة الماضي "ظفرت بها" لتؤكّد قوّة إرادته تجاه المواقِف العاطفية، ويتبع الأسلوب الخبري بأسلوب الاستفهام "فهل لي اليوم إلاّ زفرة الندم" هذا الاستفهام الذي يدلّ على استنكار الشاعر النابع من الحسرة الناتجة عن عدم الإقدام على الفعل، ويقدّم الشاعر الجار والمجرور (لي) على المسند إليه لبيان حاله، وتقترن اللام الجارّة بياء المتكلّم لتؤكّد الألم وإلحاح الشاعر على ذاته، ويأتي أسلوب القصر "إلاّ" لتوضيح الحالة النابعة من القلب ولِحصر المعاناة عبر أسلوب الإضافة "زفرة الندم"، لأنّ الزفرة متعددة الأنواع فمنها زفرة الحياة، وزفرة الموت وزفرة الشوق أمّا زفرة الندم فهي تحديدٌ للحالة النفسيّة المسيطرة على الشاعر فهو منفعل ثائِر.‏
والشاعر متمسّك بتلك الليلة، وهو مصرٌّ على المطالبة بها عبر التمنّي الناتج عن الأسلوب الإنشائي "ليت عهدك" والذي يؤكّد مدى تعلّقه بالليلة لأنّ عودتها تشكّل حالةً من الأمن والتوازُن النفسي الناتج عن أسلوب النفي "لم يبقَ" الذي فيه معنى الالتماس لأنّ الشاعر يلتمس من تلك الليلة كي تعود لتخفّف من آلامه، ويكرر الشاعر صيغة النفي "لم يبقَ" للتأكيد على الالتماس الذي يجعله في توازُنٍ واستقرار يزيح الألم الكبير الذي دلَّت عليه مفردة "عقابيلاً" وقد جاءَت بصيغة الجمع نكرةً لِتكثيف مشاعر الألم المسيطرة على الشاعر، ولاستغراق أنواع السقَم وكثرتها تأتي مفردة "السقم" معرّفةً بأل لِتعدُّد العلل المسيطرة على الشاعر.‏
وفي مجيء الشاعر بالأسلوب الخبري "تعجّبوا" بصيغة الماضي التفاتٌ إلى الحاضر الذي يعيشه الشاعر ضمن الوسط الاجتماعي، ولكي يعايش أبناء المجتمع من خلال نقل انفعالاته لهم عبر استجماع إدراكاتهم، ويتبع صيغة الماضي بالإضافة "تمنّي القلب" مغيبّاً شخصيّته ليعيش الآخرون معه حالته، والشاعر ينفي عنهم علمهم "وما دروا" هذا النفي فيه معنى السخرية منهم لأنَّهم بعيدون عمّا يشعر به، ولأنّهم لم يدخلوا التجربة التي دخلها الشاعر، وهي دعوةٌ من الشاعر إلى إعادة النظر في المسائل الحياتيّة قبل إطلاق الحكم عليها.‏
ويصرّ الشاعر على الليلة فيلتمس عودتها منهم عبر صيغة الأمر "ردّوا" هذا الأمر يحمل معنى الالتماس والرجاء من المجتمع، وفي ذلك تأكيدٌ على أنّه فردٌ من أفراد المجتمع؛ هذا التأكيد يدفعه للالتماس منهم كي ينظروا في أمره وللزيادة في التأكيد على آلامه تأتي المفردات المقترنة بياء المتكلّم المرتبطة بالشاعر "لياليّ، عليّ"، وتأتي مفردة "لياليّ" بصيغة الجمع لتدلّ على الأرق والضغط النفسي المسيطر على الشاعر، ويتبع مفردة "ليالي" بالاسم الموصول "التي" لبيان أهميّة تلك الليالي ولتحديدها عبر مفردة "سلفت" هذا الفعل يدلّ على اشتعال الأحداث في ذاكرة الشريف ورسوخها في ذهنه الوقّاد، ويأتي أسلوب النفي "لم أنسهنّ" للتأكيد على الإخلاص لهذا الماضي، ويتبع هذا الأسلوب بالنفي للتأكيد على الالتصاق بهذا الماضي لأنّه يُشكِّل حيزاً هاماً في شخصية الشريف.‏
وبما أنَّ ألم الشاعر ملازمٌ له لذلك فهو يوجّه خطابه لأفراد المجتمع الذين لا يدركون خفايا الأمور، وعدم إدراكهم لها يجعلهم يظلمون الآخرين. هذا الخطاب جاء عبر صيغة الحاضر "أقول" الدالّ على حالة من الدوام واستمرار الفعل الذي يتحدّى من خلاله الشاعر المجتمع، والقول في هذا السياق بمنزلة التذكير المستمر لِمن غفل أو تجاهل، وتأتي مفرَدَتا "اللائِم" و "المهدي" مُعرّفتين بأل للشمول، فالشاعر جاء بأل التعريف ولم يأتِ بمفردة "كلّ" إيجازاً غايته الاختصار بغية المحافظة على النغمة الموسيقية للسياق الشعري من جهة، ولأنّ أل التعريف هذه تستغرق كلّ لائم يوجّه هدية الملامة، والشاعر يطنب مستخدماً صفاتٍ لمن يوجّه الخطاب للشاعر "اللائم المهدي ملامته" لتحسين صفاته وتوضيحها، ولكي يتشوّق المتلقّي لمعرفة مضمون هذا القول وهذا المضمون جاء بصيغة الأمر "ذُق الهوى" الذي يحمل معنى الحثّ على خوض مضمار الحبّ لكي يكون اللائم عارِفاً بأبعاده وخفاياه، وينتقل الشاعر من الأمر إلى أسلوب الشرط "إن اسطَعْتَ الملامَ لُمِ" هذه الأداة "إن"(2) التي يأتي بعدها فعلٌ مشكوكٌ بحدوثه، والشاعر عندما يأتي بأسلوب الشرط يأتي به لثقته بأنَّ مَنْ يدخل مضمار الحبّ لن يستطيع اللوم، والشاعر يتحدّى بخطابه هذا المجتمع ويخفّف "اسطعتَ" محافظة على النغمة الموسيقية، وتأتي مفردة "الملام" معرّفةً بأل الجنسية لتعريف الماهية، وعلى أنَّ الإنسان عندما يخوض حبّاً لن يستطيع اللوم، وتأتي صيغة الأمر "لُم" حاملةً معنى السخرية من ذلك الشخص الذي يُهدي ملامته.‏
وبعد تلويح الشاعر إلى ليلة السفح المباركة ينتقل للحديث عن الموقعة الغراميّة المتخيّلة على جبل عرفات، وهنا يعمد إلى الدقّة في الوصف، وإلى الذكر ودلائله المختلفة، وإلى الانتقال إلى العالمَ الآخر، والولوج في أعماقه السحيقة. إذْ يجعَل بداية تلك الموقعة بواو "رُبَّ" "وظبيةٍ"؛ هذه الواو تأتي للدلالة على طموح الشاعر وخياله لمصادفة تلك الظبية التي جاءَ بها نكرة "ظبيةٍ" لِتعظيم قيمتها، ويمضي لتعريفها موضّحاً الفصيلة التي تنتمي إليها "من ظباء الإنس" هذا الأسلوب يرسم تخيُّلاً ذهنيَّاً عن أبعاد أنوثتها وبراءتها وجمالها، ويفصل بين مفرَدتيْ "ظبيةٍ.. عاطلةٍ" بالجار والمجرور لِبيان حال تلك الظبية والنوع الذي تنتمي إليه، وتأتي مفردة "عاطلةٍ" نكرة لبيانِ قيمتها في انتسابها إلى البيت الحرام وتمثلها لآداب الحج، ويتبع هذا التخيُّل بصيغة الحاضر "تستوقف" التي فيها معنى التفاؤُل بها والتأمُّل لها، ويحذف المسند إليه، ويعوّض عنه بالضمير المستتر "تستوقف" لدلالة ذكره السابق، وتأتي مفردة "بين" لتحديد مواضع التوقُّف على دقّة الكشح وضمور البطن.‏
وينتقل الشاعر من الأسلوب الخبري الناتج عن صيغة الحاضر إلى صيغة الشرط "لو أنّها" هذا الشرط الذي يتبعه فعلٌ مشكوكٌ في حدوثه، والأداة "لو" فيها معنى التمنّي المُلازِم لنفسيّة الشاعر، والذي يؤكِّد تمنّيه إتيانه بأداة التوكيد "أنّها"، وإتباعها بـ "ها" الغائب الدالّة عليها لإعمال ذهن المتلّقي في تصوّرها، ويأتي الفصل بين المسند والمسند إليه بالجار والمجرور "بفناء البيت" لِرسم معالم الجو الذي توجد فيه هذه الظبية، وتأتي مفردة "سانحة" نكرةً للتشويق لها والتفاؤُل بها، والشاعِر يوجِزُ بحذف فعل القَسم لِضيق المقام، ويؤكّد عبر لام القسَم "لصدتُها" المقترنة بصيغة الماضي الدالّة على قدرته ومدى تعلّقه بها، والشاعر يدرك بأنَّ صيدها غير مسموحٍ به لحرمة المكان، ومن هنا فهو يُشير إلى آداب الحجّ التي تُطالِبُ بضبط انفعالات النفس وأهوائِها، ويصل بين الجملتين بالواو لِوجودِ تناسُقٍ بينهما لفظاً ومعنىً.‏
ويمضي الشاعر بتخيُّلِهِ لِمجريات العلاقة الغراميّة على طريقة العذريين، وتأتي صيغة الماضي "قدرت" للدلالة على الحاضر الذي يتنبأ به الشاعر عندما يصطاد تلك الظبية، والتنبُّؤ ما هو إلاّ تأكيدٌ على التخيُّل المُسيطِر على هذه القصة.‏
ويتابع الشريف تخيّله مستخدماً صيغة الماضي "بتنا" هذه الصيغة الدالّة على حدثٍ مُستَقبَليٌ تابعٍ للأحداث السابقة، هذا الحَدث مقترنٌ بالشخصية التي ترويه، وتأتي مفردة "يلفنا" للتشويق، ويذكر المسند إليه "الشوق" للعناية بشأنه وذِكره مقترنٌ بأل التعريف الدالّة على تعريف الماهية ولكثرة اشتياق الشاعر لهذه اللحظة يأتي بمفردات نكرة "هوى، وتُقى، وفرعٍ، وقدم" لِتعظيم قدر المحبوبة، وعلاقته بها هذه العلاقة القائمة على الإخلاص.‏
وهو يرسم ملامح الجو المتخيّل فتأتي الريح متمّمةً للمشهد الغرامي المشوّق للقارِئ، والشاعر يذكر المسند إليه "الريح" ليؤكّد عمق الصِلة بينه وبين محبوبته، وبين العاشقين وجوّ القصّة، والصورة هنا حركيّة والحركة ناتجة عن فعلَي "أمسَت، تجاذَبْنا".‏
والشاعر يُصِرُّ على تفاؤله من خلال استخدامه لصيغة الحاضر بكثرة في الأبيات التي تُصَوِّر العلاقة الغرامية المُتخيَّلة للزيادة في التشويق "يشي، يضيئا، يوضح، يولّع، أكتم" هذا الاستخدام لصيغة الحاضر يعكسُ إضافةً إلى القيمة الحديثة الرغبةَ بالاستمرار والتجدُّد والانبعاث مثلما يعكسها استخدامُه لِصيغة الأمر في بعض المواضع "ردّوا، ذق الهوى، لُمِ، لا تطلبن" هذا التنوُّع بين صيغِ الأفعال في النص ما هو إلاّ صورةٌ مُطابقةٌ للأمواج المتتالية التي تُسيطِرُ على الشاعر، وهو دليلٌ على أن الشاعر يعيش حالةً من ثائرة قوامها الانفعال والحركة.‏
وعندما يذكر المسند إليه "سقى زمانك هطّالٌ، يشي بنا الطيبُ، يضيئنا البرقُ، تكلّم عصفورٌ، رابت ظواهرنا، ما ساعفتني الليالي" يذكره لتأكيد عمق الصلة بينه وبينها، وبينه وبين تلك الليلة، هذا التأكيد يُضفي على النص لمساتٍ شاعريةٍ رائعة تكشف غشاوة الواقع أمام الجميع، وتجعل من النص عالماً آخر ينبض بالحيويّة والحركة حيث أصبح الشاعر مسكوناً فيه، وأصبح هو مسكوناً في الشاعر.‏
والشاعر عندما يلجأ إلى الحذف، فإنه يريد إظهار جماليّة الذكر لكن بواسطة شكلٍ نفسيٍّ آخر يجعل منه مداراً للتفكير والانفعال ويربط بين جزيئات العمل الأدبي كافة.‏
ومن إصرار الشاعر على تفاؤله يمضي لإنهاء علاقته الغراميّة على الرغم من كتمانه للصبح ليطول اللقاء ولكن تأتي الأداة "حتى" للدلالة على عمق شعور الشريف، ومدى تعلّقه بتلك الليلة من جهة ولتؤكد حالة التحوّل في الزمن لإنهاء تلك الليلة بصداح ذلك العصفور من جهة أخرى.‏
والشاعر يصرّ على التفاعُلِ النفسيّ بينه وبينها باستخدامه لمفرداتٍ تؤكّدُ هذا التفاعل (ألمستني، ألثمتني، انثنينا) هذا التفاعل يترك آلاماً في نفسيّة المتلقّي لِبُعد المحبّين عن بعضهم، هذه الآلام مرتبطةٌ "بياء التكلّم" الدالّة على الألم الناتج عن الكسر الموجود فيها.‏
وينتقل الشاعر إلى أسلوب المدح (يا حبّذا) الذي يخرج إلى معنى التمنّي والتحسُّر؛ التحسُّر لِبُعْد الليلة؛ والتمنّي لعودتها لِعودة تلك اللحظات التي انتهَت بوداع الأحبّة، وتأتي مفردة "لمّةٌ" نكرةً لتأكيد الحسرة الناتجة عن حرقة كبد الشاعر، وتأتي مفردة "الرمل" لتؤكّد أصالة الانتماء، ويصل الشاعر بين اسمين جاءا بصيغة التنكير "لمّةٌ" و "وقفة" للدلالة على عَظَمة ذلك الموقف.‏
ويصل الشاعر بين بيتين بالواو لوجود تناسق أسلوبي ومعنوي بينهما؛ هذا التناسق كان من خلال التكرار لصيغة المدح "حبّذا"، وهذا التكرار فيه إصرارٌ على العلاقة بين الشاعر ومحبوبته والمكان الذي التقى بها فيه.‏
وتأتي مفردة "نهلةٌ" نكرةً للتفخيم، وكذلك مفردة "باردةٌ"، وتعود حالة التفاؤُل من خلال صيغة الحاضر "يعدي" ويذكر الشاعر المسند إليه "بردها" لأهميّته في توثيق العلاقة بينهما، ويأتي بمفردتين مقترنتين بياء المتكلّم "قلبي، فمي" وياء المتكلّم تدلّ على ألم الشاعر وشوقه لِعودة تلك اللحظات.‏
والشاعر في واقعه يتألّم، وهذا التألُّم يؤكِّد تخيّله عندما استرجعَ لحظاتٍ ماضيةٍ تمنّى عودتها، ولكن هيهات! لأنَّ الواقع ليس كالخيال، وقد دلّ عليه بصيغة الماضي "عجِبْتُ" التي تشير إلى الحاضر الواقع الذي يُلازِمُ شخصيّة الشاعر والذي يخرج إلى معنى الاستفهام الإنكاري الناتج عن مفردة "عجِبْتُ" إنّها حالةٌ من الاستغراب تعتري نفسيّة الشاعر على الرغم من العطايا التي قدّمها له، ويأتي أسلوب الإضافة "دون الأنام" لتأكيد الصِلة بين المضاف والمضاف إليه في تقديم الصورة، وقد اقترنَت مفردة "الأنام" بأل التعريف الدالّة على استغراق البشر، ويبدو ألم الشاعر الناتج عن جرحه المعبّر عنه بمفردة "دمي" الدالّة على مدى تعلُّق الشاعر بتلك المحبوبة وإخلاصه لها.‏
وينتقل الشاعر إلى أسلوب النفي "ما ساعفتني" ليؤكّد مدى صبره وتجلّده، ومفردة "ساعفتني" تعطي تصوّراً ذهنياً عن ذلك الشخص الذي يتحرّق على جمر الألم، وهو يشعر بآهات الغربة الناتجة عن فراق المحبوبة، وتأتي مفردة "الليالي" معرفة بأل الدالة على الكلية والشمول التي تجعلنا نتخيّل الشاعر في ليله يعاني أرق البعاد، وفي مجيئه بمفردة "بينهم" دلالة على أنّ الشريف يستجمع إدراك الآخرين ليعيشوا معه معاناته التي عبّرَ عنها بأداة القصر "إلاّ" وليؤكّد قناعته من خلال الانفعال الموغل في الحدث بعد أن آمَنَ، وبكلّ حواسه بأنْ لا سبيل له سوى تلك الظبية الشاردة في البيت العتيق، وتأتي صيغة الماضي "بكيت" للدلالة على الحاضر ومن خلالها يفرّغ الشاعر انفعالاته وشحناته العاطفية المقرونة بالشوق لليلة ومن فيها، في تلك الأماكن الطاهرة.‏
ويصل بين البيتين بواو الوصل لوجود تناسقٍ بينهما أسلوباً ومعنى؛ أسلوباً لأنهما جاءا بصيغة النفي؛ ومعنىً لأنّهما يدلاّن على معاناة الشاعر التي يريد نقلها إلى الآخرين لكي يشعروا بما يشعر، لذلك يلجأ إلى أسلوب التوكيد "إنّ قلبي لا يرضى بغيرهم" ليقرّ حقيقةً في أذهان أبناء المجتمع عن حبّه للمحبوبة وإخلاصه لها، ولكي لا يُلام من قِبَلهِم لأنّه ثابت على موقفه مخلصٌ لمبدئه.‏
4-الصورة الشعريّة:‏
والنصّ لا يقتصر جماله على أسلوبه فحسب، بل على جماليّة الصورة الشعرية التي فيها ابتعادٌ عن التفصيلات الدقيقة لجسد المرأة وامتزاج الحسيّة بالمعنويّة، والسبب عائِدٌ لتأثير الثقافة الإسلاميّة.‏
والصورة الشعريّة مستمدّةٌ من البيئة الجغرافية والاجتماعيّة والعقائدية، وهي تحمل إرثاً ثقافيّاً يُشكِّل المخزون الفكري عند الشريف الرضي.‏
وجماليّة الصورة الشعرية تتجلّى في مكوناتها الموجودة في النص من الحركة والملمس والذوق واللون والشم(3) تلك المكونات التي تجعل من العمل الفنّي أداةً لإثارة الجمال في النفس.‏
فالشاعر باستعادته للماضي في بداية النص يتألّم، وتتحرّك مشاعره، وتضطرم داخل نفسه، هذا الاضطرام يوحي باللون الأحمر المُعبِّر عن ألمه لبعد المحبوبة.‏
وفي استحضار مشهد الظبية يتجلّى اللون الأبيض(4) المُعبِّر عن الطمأنينة والهدوء الرقّة، هذا اللون يجعل حاسة البصر تتوقَّف قليلاً لتتأمَّل ذلك الجمال الذي يُحدِثُهُ هذا اللون، ويتوقَّف النظر على ضمور البطن، ودقّة الكشح، هذا التأثير الذي أحدثَهُ اللون يُحرّك المشاعر(5)، فيتمنّى الشاعر قربها منه، فيأتي بالحركة المناسبة للموقف، وهي الصيد لذلك يبقى ساهراً يتحيّن الفرصة للإيقاع بها، وهو في هذه الصورة "يستمد من البيئة الدينية بعض صورها، على أنّ تلك البيئة تأتي أحياناً أُخَر بيئةً فكريّةً متمثّلةً بعفّة الحج، وما إليه ومن الضرب الثاني يُشير إلى تحريم الصيد في الحج وقد راحَ يُعلن رغبته في لقاء ظباه المحبّبة، ولو كلّفه الأمر خروجاً عن المألوف في أحكام الحج(6).‏
وينتقل الشاعر ليمزج الماديّة المتمثّلة بالجسد والتُقى المتمثّل بالرّوح، هذا المزج يوحي باللون الأحمر(7) المعبّر عن الحميميّة في هذا السياق، وتلعب الريح الدورَ في تحريك الصورة، فتفوح رائحة الطيب الزكيّة التي تحرّك حاسة الشم التي تشعر بالأمان في الليل المظلم، ويكون برق الثغر الأبيض دلالةً على هداية الشاعر للوصول إلى مواقع اللثم.‏
هذه الانسيابية الموجودة في الصورة تشدّ النفس للمتابعة بشغف، وحتّى يبقى الجوّ طاهراً يكون العفاف العهد المقطوع بينهما.‏
ولكي تزداد الصورة جمالاً يأتي بالشيء وضدّه مقابلاً بين سواد الليل وإضاءة البرق، وتنساب الصورة بتنفُّسِ الفجر التابع للصورة السابقة لتصبح مشهداً حياً من مشاهد الطبيعة بين الشجر الأخضر(8) المعبّر عن زهو الحياة وشبابها وعندما يأتي الشاعر بهذه الصورة يأتي بها ليؤكِّدَ أنَّهما من تراب؛ والتراب طاهر، والبردان هما ثوب الأرض الأخضر بما يحويه من أزهار وأشجار، هذا المزج بين الطبيعة والإنسان فيه من العفّة الشيء الكثير، وهو يدلّ على تطوُّر الذوق الجمالي عند الشاعر لأنَّ الطبيعة تمثّل الصفاء والنقاء، وعلاقة الشاعر بمحبوبته هي كذلك أيضاً، وتأتي الصورة السمعيّة الناتجة عن صداح العصفور الذي يفكّ السحر، ويكمل الأثر السابق، وتكتمل اللوحة الفنيّة المكوّنة لهذا المشهد بألوانها وخطوطها وحركاتها(9) بصداح العصفور الذي يحمل من الشاعريّة ما يطمئن النفس ويطربها.‏
ويأتي مشهدٌ آخر هو مشهد الفراق بعد تلك الليلة، والصورة اللمسيّة لحظة الوداع تُثير الرِقّة في أصابع المحبوبة ورِقّة الأصابع توحي بنعومتها التي تحرّك المشاعر، واللون الأحمر(10) الموجود في أصابع المحبوبة يوحي بالألم الذي يراود الشاعر لحظة الفراق.‏
وتتحرّك الصورة لينهل من محبوبته قبلة الوداع التي تحرّك حاسّة الذوق، فإذا طعم القبلة كالرحيق العذب والنهلة الباردة تطفئ نار القلب الحمراء المتعطّشة لِنهل الثغر، وهنا تكمن المقدرة العجيبة عند الشريف في جماليّة الصورة الشعريّة التي تُثير النفس وتشوّقها، والشريف بذلك يخلق(11)توازُناً في الوسط الاجتماعي، هذا التوازُن ناتجٌ عن المعاني المنبثقة عن الصورة الشعريّة بمكوّناتها الموجودة في النص، وهنا لا بُدَّ من القول: إنّه لا قيمة للعمل الفنّي إذا لم يترك أثراً في النفس.‏


(1) (أعيان الشيعة) حـ9، ص 220. (الشريف الرضي- دراسة في عصره وأدبه) حسن محمود أبو عليوي ص 513، و (الشريف الرضي- عصره- حياته- شعره- منتخبات) طارق الكيلاني ص19 و 20. و (شعر الشريف الرضي ومنطلقاته الفكرية) ص 187.‏
(2) (البلاغة العالية) عبد المتعال الصعيدي- ص95- مقامات إن وإذا- المطبعة السلفيّة- 1355هـ.‏
(3) (الصورة الفنية في الحديث النبوي الشريف) أحمد الياسوف- حيث قسّم الصورة الفنيّة إلى أنواع وقام بتحليلات عن كلّ نوع 362. وما بعدها.‏
(4) (الألوان نظرياً وعملياً) إبراهيم الدملخي- ص 85 و 86 و (الصورة الفنية في الحديث النبوي الشريف) ص 416.‏
(5) (النقد الجمالي) –أندريه ريشار- تر. هنري زغيب ص 37.‏
(6) (تطوُّر فن الحجازيات إلى نهاية القرن السابع الهجري) ص85.‏
(7) (الألوان نظرياً وعملياً) ص 58 و (الرؤيا الجماليّة في شعر الجاهلية وصدر الإسلام) ص 240.‏
(8) (الألوان نظرياً وعملياً) ص 58. والأخضر مهدّئ مريح للأعصاب ممّا يجعل شعور المرء بمرور الوقت ضعيفاً، ويظهر الأخضر في تصوير الخمائل والرياض.‏
(9) (مسائل فلسفة الفن المعاصرة) جان ماري جويو- تر: سامي الدروبي. ص 55.‏
(10) (الصورة الفنية في الحديث النبوي الشريف) ص 410 و 411- وفيه أن اللون تكون دلالته حسب السياق الذي يُكسِب اللون دلالته.‏
(11) (الموقف الأدبي) ص 13. كل نص لا يقدّم رؤية جديدة تدعو إلى التغيير والتقدُّم نحو الأفضل من أجل المجتمع والإنسان يُعَدُّ نصّاً متخلّفاً ورديئاً.‏

بحث سريع