ابن تومرت محمد بن عبد الله البربري الهرغي

بواسطة | د.محمد إسماعيل المقدم
2005/05/17
في أواخر سنة 514 هـ ( 1120م ) وقعت بمدينة مرّاكش أول بادرة مؤذنة ببداية الثورة الدينية التي اضطلع بها محمد تومرت ضد الدولة المرابطية .
ففي ذات يوم جمعة ، من هذه السنة ، دخل إلى المسجد الجامع رجل صغير القد ، متواضع الهيئة ، وجلس على مقربة من المحراب بإزاء الموضع المخصص لجلوس أمير المسلمين ، فلما اعترض على ذلك بعض سدنة الجامع ، تلا الآية { وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } [الجن : 18] ، ولما حضر أمير المسلمين علي بن يوسف ، نهض سائر الحضور ، إلا ذلك الرجل ، فلما انتهت الصلاة بادر الرجل بالسلام على علي ، وقال له فيما قال (( غيّر المنكر في بلدك ، فأنت المسئول عن رعيتك )) ، وبكى ، فلم يجبه أمير المسلمين بشيء ، ولما عاد إلى القصر سأل عنه ، فقيل له : (( إنه قريب العهد بالوصول ، وهو يؤلف الناس ، ويقول لهم : إن السنة قد ذهبت )) ، فأمر علي بن يوسف وزيره عمر بن ين ينتان أن يكشف عن أمره ومقصده ، فإن كانت له حاجة ينظر في قضائها ، فقال الرجل : (( ليس لي حاجة ، وما قصدي إلا تغيير المنكرات )) .
كان هذا الرجل هو محمد بن تومرت ، وكان قد آب من رحلته إلى المشرق ، ونزل بمراكش ، بعد أن طاف ببعض مدن المغرب الشمالية ، وهو يدعو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وأصل هذا الرجل من قبيلة هرغة إحدى بطون مصمودة الكبرى ، وقد اختلف في تاريخ مولده فيما بين 471 ، 491 ، واسمه محمد بن عبد الله ، ووالده من أهل السوس ، وكان يقال لوالده (( تومرت )) أي الضياء الذي يوقد في المسجد ، وقيل : إنه لما ولد فرحت بن أمه وسرّت ، فقالت بلسانها : (( آتومرت آينو أيسك آيبوي )) ، ومعناه : يا فرحتي بك يا بني ، وكانت إذا سئلت عن ابنها وهو صغير ، تقول : (( يك تومرت )) ، معناه : صار فرحاً مسروراً ، فغلب عليه اسم تومرت ، وتُرك دعاؤه باسمه الأول عبد الله(1) .
* قال الحافظ الذهبي في التعريف به :
(( الخارج بالمغرب ، المدّعي أنه علوي حسني ، وأنه الإمام المهدي ، وأنه معصوم ، وهو بالإجماع مخصور . رحل من السوس الأقصى شاباً إلى المشرق ، فحج ، وتفقّه ، وحصّل أطرافاً من العلم ، وكان لهجاً بعلم الكلام ، خائضاً في مزال الأقدام ، ألف عقيدة لقّبها بالمرشدة ، وحمل عليها أتباعه ، وسمّاهم الموحّدين ، ونبز من خالف (( المرشدة )) بالتجسيم ، وأباح دمه ، نعوذ بالله من الغيّ والهوى !
وكان خشن العيش ، فقيراً ، قانعاُ باليسير ، مقتصراً على زي الفقر ، لا لذّة له في مأكلٍ ، ولا منكح ، ولا مال ، ولا في شيء غير رياسة الأمر ، حتى لقي الله – تعالى – . لكنه دخل – والله – في الدماء ، لنيل الرياسة المردية .
وله فصاحةٌ في العربية ، والبربرية ، وكان يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويؤذى ، ويُضرب ، ويصبر .
أوذي بمكة ، فراح إلى مصر ، وبالغ في الإنكار ، فطردوه ، وآذوه ، وكان إذا خاف من البطش به خلّط وتباله ))(1) .
ثم سكن الثّغر(1) مدّة ، ثم ركب البحر إلى المغرب من الإسكندرية في أواخر سنة 511 هـ (1117 م ) ، ويقال إنه خرج منفياً من الإسنكندرية ، لما ترتب من شغب على نشاطه في مطاردة المنكر ، بيد أنه استمر في دعوته إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو على ظهر السفينة التي أقلته ، فألزم ركابها بإقامة الصلاة وقراءة القرآن ، واشتد في ذلك حتى قيل إن ركاب السفينة ألقوه إلى البحر ، فلبث أكثر من نصف يوم يسبح إلى جانبها دون أن يصيبه شيء ، فلما رأوا ذلك أنزلوا إليه من رفعه من الماء ، وقد عظم في نفوسهم ، وبالغوا في إكرامه . ولما وصل إلى المهدية ، نزل بمسجد من مساجدها ، وليس معه سوى ركوة ماء وعصا ، فتسامع به الناس ، وأقبل الطلاب يقرأون عليه مختلف العلوم وكان إذا شاهد منكراً من آلات الملاهي ، أو أواني الخمر ، بادر إلى إزالته وكسرها ، وأصابه بسبب ذلك بعض الأذى ، ووصل خبره إلى الأمير يحيى ابن تميم بن المعز بن باديس ملك أفريقية ، فاستدعاه مع جماعة من الفقهاء ، فلما رأى سمته ، واستمع إلى مناقشاته أعجب به وأكرمه وسأله الدعاء(1) فقال : (( أصلحك الله لرعيتك ! )) ، قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى : ( وسار إلى بجاية ، فبقي يُنكر كعادته ، فنُفي ، فذهب إلى قرية ملاّلة ، فوقع بها بعبد المؤمن(1) الذي, وكان أمردا عاقلا فقال: يا شاب ما اسمك قال: عبد المؤمن ، قال : (( الله أكبر ، أنت طلبتني فأين مقصدك ؟ )) ، قال : طلب العلم ، قال : (( قد وجدت العلم والشرف ، اصحبني )) ونظر في حليته ، فوافقت ما عنده مما ادعى أنه اطلع عليه من كتاب الجَفْر ، فقال : (( ممن أنت ؟ )) ، قال : (( من كومية )) (1) ، فربط الشاب ، وشوّقه إلى أمور عشقها ، وأفضى إليه بسره، وكان في صحبته الفقيه عبد الله اونشريسي ، وكان جميلاً نحوياً ، فاتفقا على أن يخفي علمه ، وفصاحته ، ويتظاهر بالجهل واللّكن مدةً ، ثم يجعل إظهار نفسه معجزةً ، ففعل ذلك ، ثم عمد إلى ستة من أجلاد أتباعه ، وسار بهم إلى مراكش(1) ، وهي لابن تاشفين ، فأخذوا في الإنكار(1) ن فخوّفوا الملك منهم ، وكانوا بمسجد خراب ، فأحضرهم الملكُ فكلموه فيما وقع فيه من سبّ الملك ، فقال : (( ما نقل من الوقعية فيه فقد قلته ، ولي من ورائه أقوال ، وأنتم تطرونه ، وهو مغرور بكم ، فيا قاضي ، هل بلغك أنّ الخمر تباع جهاراً ، وتمشي الخنازير في الأسواق ، وتؤخذ أموال اليتامى ؟ )) ، فذرفت عينا الملك ، وأطرق ، وفهم الدّهاة طمع ابن تومرت في الملك ، فنصح مالك بن وهيب – وكان عالماً صالحاً – سلطانه ، وقال : (( إني خائفٌ عليك من هذا ، فاسجنْه ، وأصحابه ، وأنفق عليهم مؤنتهم ، وإلا أنفقت عليهم خزائنك )) (1) ، فوافقه فقال الوزير : (( يقبح بالملك أن يبكي من وعظه ، ثم يُسيء إليه في مجلس ، وأن يظهر خوفك – وأنت سلطان – من رجل فقير )) ، فأخذته نخوةٌ ، وصرفه ، وسأله الدّعاء ) (1) . اهـ .
(( لقد تنبه الفقيه مالك بن وهيب الأندلسي إلى أن ابن تومرت ليس طالب آخره ، وإنما هو طالب سلطان ، وأشار على الأمير علي بن يوسف بقتله ليكتفي شره لأنه إذا وقع في بلاد المصامدة ألّبهم على المرابطين ، ولكن وزير علي بن يوسف ينتان بن عمر ، وسير بن وربيل ، أقنعا أمير المسلمين علي بن يوسف بعدم الأخذ برأي مالك بن وهيب .
وألحّ مالك بن وهيب على أمير المسمين(1) بتخليده في السجن إذا لم يقْتله ، وقال له : (( اجعل عليه كبلاً ، كي لا تسمع له طبلاً )) ، فوافقه على ذلك ، وحال ينتان مرة ثانية دون الأخذ برأي مالك بن وهيب ، والذي خاطب أمير المسلين قائلا : (( يا أمير المسلمين ، هذا وهنٌ في حق الملك أن تلتفت لهذا الرجل الضعيف ، فخلّ سبيله ، إنه رجل لا يملك سد جوعه )) . لقد أصابت كلمات الوزير ينتان عزة نفس أمير المسلمين ، فاستصغر شأنه ، وأمر بإطلاق سراحه ، على شرط أن يخرج من بلاد أمير المسلمين(1) .
لقد صدقت فراسة مالك بن وهيب في ابن تومرت ، وندم ابن تاشفين ، بعد فوات الأوان لأنه لم يأخذ برأيه(1) ، لقد كان ابن تومرت مولعاً بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وكان ينطوي قلبه – والله تعالى أعلم – على أغراض أخر يشي بها قوله لبعض أصحابه ، قبل خروجه بالمغرب :
دعني ففي النفس أشياء مخبأةٌ لألبسنّ لها درعاً وجلبابا
كيما أطهر دين الله من دنس وأوجب الفضل للسادات إيجاباً
تالله لو ظفرت كفي بمطلبها ما كنت عن ضرب أعناق الورى آبى(1).
وكان يتمثل بقول المتنبي :
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس روّى رُمحهُ غير راحم
فليس بمرحوم إذا ظفروا به ولا في الردى الجاري عليهم بآثم(1)
( وسار ابن تومرت إلى أغمات ، فنزلوا على الفقيه عبد الحق المصمودي ، فأكرمهم ، فاستشاروه ، فقال : (( هنا لا يحميكم هذا الموضع ، فعليكم بتينمل ، فهي يومٌ عنا ، وهو أحصن الأماكن ، فأقيموا به برهة كي ينسى ذكركم )) ، فتجدد لابن تومرت بهذا الاسم ذكرٌ لما عنده(1) ، فلما رآهم أهل الجبل على تلك الصورة ، علم أنهم طلبة علم فانزلوهم وأقبلوا عليهم ثم تسامع به أهل الجبل فتسارعوا إليهم ، فكان ابن تومرت من رأى فيه جلادة ، عرض عليه ما في نفسه ، فإن أسرع إليه ، أضافه إلى خواصه ، وإن سكت ، أعرض عنه . وكان كهولهم ينهون شُبّانهم ، ويحذرونهم(1) ، وطالت المدة ، ثم كثُر أتباعُه من جبال درن ، وهو جبل الثلج ، وطريقُه وعرٌ ضيق .
قال اليسع في (( تاريخه )) : (( لا أعلم مكاناً أحصن من تينملل ، لأنها بين جبلين ، ولا يصل إليهما إلى الفارس ، وربما نزل عن فرسه في أماكن صعبة ، وفي مواضع يعبر على خشبة ، فإذا أزيلت الخشبة ، انقطع الدرب ، وهي مسافة يوم ، فشرع أتباعه يغيرون ، ويقتلون ، وكثُروا ، قووا ، ثم غدر بأهل تينملل الذين آووه ، وأمر خواصه ، فوضعوا فيهم السيف(1) ، فقال له الفقيه الإفريقي أحد العشرة من خواصه : (( ما هذا ؟! قومٌ أكرمونا وأنزلونا ، نقتلهم ؟!! )) فقال لأصحابه : (( هذا شك في عصمتي ، فاقتلوه ، فقُتل )) .
قال اليسع : (( وكل ما أذكره من حال المصامدة ، فقد شاهدته ، أو أخذته متواتراً ، وكان في وصيته إلى قومه إذا ظفوا بمرابط ، أو تلمساني ، أن يحرقوه ) (1) .
( وقبل أن يعطي ابن تومرت الأمر لجيوشه بالانقضاض على المرابطين ، للاستيلاء على عاصمتهم مراكش ، أراد أن يُطهّر صفوفه من بعض الأشخاص الذين يشك في ولائهم له ، فأوعز في عام 519 هـ / 1129 م لصديقه الحميم الونشريسي ، الذي كان يُظهر البلاهة ، بينما هو عالم ، أن يُظهر ما لديه من علم دفعة ًواحدة ، ليكون ذلك بمثابة المعجزة لابن تومرت ، وكان الونشريسي ، باتفاق مع ابن تومرت ، قد حفظ أسماء من شعر أنهم يشكون في مهدية ابن تومرت ، وكان – أيضاً – ابن تومرت قد طلب من القبائل تزويده بأسماء المشاغبين ، فدفعها إلى الونشريسي ، فحفظها ، وبعد صلاة الفجر تقدم الونشريسي ( الكاذب ) ، وأعلن أنه جاءه البارحة ملكان ، وشقا قلبه ، وغسلاه ، وحشواه علماً ، وحكمة ، فاختبره القوم ، فعجبوا من شدة حفظه ، ثم شهد لابن تومرت بالمهدية . ثم قال : (( اعرض عليّ أصحابك ، حتى أميز أهل الجنة من أهل النار ، وقد أنزل الله تعالى ملائكته إلى البئر التي في المكان الفلاني ، يشهدون بصدقي ، وكان المهدي قد وضع فيها رجالاً لهذا الغرض ، فسار المهدي وأتباعه إلى ذلك البئر ، وبعد أن وقف على رأسها ، قال : (( يا ملائكة الله ، إن عبد الله الونشريسي قد زعم كيت ، وكيت )) ، فقال من فيها : (( صدق )) ، فصدّقه الناس ، ثم أمر بطمر البئر بحجة أنها مقدّسة ، وواضح أن طمره للبئر كان بسبب خوفه من أن يفضحوا أمره ، مما سيكون له أسوأ الأثر على دعوته ، وكشف زيفها ) (1) .
* قال الإمام الذهبي – رحمه الله – يصف هذه المذبحة المروعة :
(فلما كان عام تسعة عشر وخمس مئة ، خرج يوماً ، فقال : (( تعلمون أن البشير – يريد الونشريسي – رجلٌ أمي ، ولا يثبتُ على دابّة ، فقد جعله الله مُبشراً لكم ، مطّلعاً على أسراركم ، وهو آيةٌ لكم ، قد حفظ القرآن وتعلّم الركوب )) وقال : (( اقرأ )) ، فقرأ الختمة في أربعة أيام ، وركب حصاناً ، وساقه ، فبُهتوا ، وعدّوها آيةٌ ، لغباوتهم ، فقام خطيباً ، وتلا : { ليميز الله الخبيث من الطيب } [ الأنفال : 37 ] ، وتلا : { منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] ، فهذا البشير مطلع على الأنفس ، مُلهم ، ونبيّكم صلى الله عليه وسلم يقول : (( إنّ في هذه الأمة محدثين ، وإنّ عمر منهم )) (1) ، وقد صحبنا أقوامٌ أطلعه الله علي سرهم ، ولا بد من النظر في أرمهم ، وتيمم العدل فيهم ، ثم نودي في جبال المصامدة : (( من كان مطيعاً للإمام ، فليأت )) ، فأقبلوا يهرعون ، فكانوا يعرضون على البشير ، فيُخرج قوماً على يمينه ، ويعُدّهم من أهل الجنة ، وقوماً على يساره ، فيقول : (( هؤلاء شاكّون في الأمر )) ، وكان يُؤتى بالرجل منهم ، فيقول (( هذا تائب ، ردّوه على اليمين ، تاب البارحة )) فيعترف بما قال ، واتفقت له فيهم عجائب ، حتى كان يُطلق أهل اليسار ، وهم يعلمون أن مآلهم إلى القتل ، فلا يفرّ منهم أحد ، وإذا تجمّع منهم عدة ، قتلهم قراباتُهم ، حتى يقتل الأب ابنه ، والابن أباه ، والأخ أخاه .
قال : (( فالذي صحّ عندي أنهم قتل منهم سبعون ألفاً على هذه الصفة ، ويُسمّونه التمييز )) (1) .
ويبدو أن الذي دفع ابن تومرت للقيام بعمليات التمييز هو تراجع عدد كبير من الداخلين في دعوته عنها ،وذلك بسبب ما تحمله من غلو ، وشطط ، فقام بهذه العملية للتخلص من الذين يشك في إخلاصهم ، خشية أن يقوى رد الفعل المضاد لدعوته(1) .
( لقد علم ابن تومرت أن الباقين من أهل وأقارب المقتولين لا تطيب قلوبهم بذلك ، فجمعهم ، وبشرهم بانتقال مراكش إليهم ، واغتنام أموال المرابطين ، فسرهم ذلك وسلّاهم عن أهلهم ، ثم ندبهم إلى قتال المرابطين ، وتحول موقف الموحدين من الدفاع إلى الهجوم ، وبعد سلسلة من الحملات الناجحة التي قام بها ابن تومرت على معاقل المرابطين أراد أن يحسم الأمر بإسقاط عاصمة المرابطين مراكش ) (1) .

بحث سريع