منهج دراسة التصوف

بواسطة |  لطف الله بن عبد العظيم خوجه *
2005/06/20
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن للإسلام أصولا وأحكاما معلومة متميزة، من التزم بها فهو كامل الإسلام، فإن أخل بشيء من أحكامه نقص من إسلامه بقدر ذلك، من غير أن ينتفي عنه وصف الإسلام، وإن أخل بأصله قاصدا عن علم ورضى، وأظهر ذلك، انتفى عنه الوصف كليا، فإن لم يُظهر فله اسم الإسلام الظاهر.
ومنه يتبين أن الإسلام في أصوله وأحكامه وخصائصه ثابت لا يتغير، والمنتسبون إليه يتغيرون ويختلفون، فمنهم الكامل، ومنهم دون ذلك، ومنهم المفرط، ومنهم من ليس له من الإسلام إلا الاسم.
وهكذا كل ملة ونحلة قد ثبتت أصولها واستقرت: لا تتغير. وأهلها يتغيرون ويتفاوتون بحسب تطبيقهم لأصولها وفروعها.
والتصوف فكرة ونحلة وملة قديمة، موجودة قبل الإسلام، أصولها وأحكامها معروفة مستقرة ثابتة، بإقرار كافة الباحثين، من متصوفة وغير متصوفة ومستشرقين، والمنتسبون إليه منهم المتحقق بالتصوف، ومنهم دون ذلك، ومنهم من ليس له إلا الاسم دون الحقيقة.
وبناء على هذا: إن أردنا التعرف على دين أو نحلة أو فكرة ما، فعلينا أن نعتمد مصادرها التي منها نبعت وظهرت واستقرت، منها نفهم حقيقة الفكرة كما هي، ولا يصح أن نلجأ إلى المنتسبين فنعتمدهم مصدرا، إذ يتفاوتون في الالتزام والتحقق، كما يندر أن تكون جميع حركاتهم مردها اتباع قواعد الفكرة:
- فالإسلام مثلا: لا تعرف حقيقته كما هي إلا من خلال القرآن والسنة، أما محاولة معرفة ذلك من خلال ما يصدر من المسلمين فهو محض الخطأ، فليسوا كلهم يطبقون الإسلام كما هو، وليس كل ما يصدر منهم فبالضرورة يكون عن تطبيق لتعاليم الإسلام، إذ الإنسان في طبعه اقتراف الحسنة والسيئة.
- وكذلك التصوف لا يمكن معرفة حقيقته كما هي إلا بالوقوف على مصادره الأصلية، وهو الذي نشأ وتأسس واستقر في الثقافات القديمة، بشهادة كافة الباحثين، أما الاعتماد على المنتسبين المقلدين من المسلمين فخطأ منهجي، فليسوا كلهم يطبقون التعاليم كما هي، وليس كل ما يصدر منهم فبالضرورة يكون عن التزام بالتصوف.
إن أكبر خطأ في دراسة التصوف: أن ينظر إلى الإمام الصوفي في الإسلام على أنه فكرة صوفية في كل ما يصدر عنه!!.. إن معنى ذلك أن يلصق بالتصوف ما ليس منه، مما قد يناقضه، كقولهم: "علمنا مقيد بالكتاب والسنة"[1]، فهذه المقولة توافق الإسلام، لأن المعرفة في الإسلام مصدرها من خارج النفس، من الوحي، لكن لا توافق التصوف، لأن المعرفة في التصوف مصدرها من داخل النفس، من الذوق والكشف والمنام، فعندما يطلق أحد الصوفية هذه المقولة، فمن الجناية نسبة هذا الأصل في التلقي إلى التصوف، لأنه يتناقض معه كليا، والواجب هنا: وضع كل تصرف يصدر من الصوفية في سياقه الخاص به الموافق لأصوله، بدون أن تحشر جميعها في سياق واحد ولو تشتت أصولها، فالقائل: "علمنا مقيد بالكتاب والسنة" إنما يتمثل الإسلام بقوله هذا، فلا تجوز إذن تزكية التصوف به، نعم قد يكون بابا لتزكيته قائله، أو دفع تهمة عنه، أو إحسان ظن به، أو الاعتذار له، لكن دون زيادة.. ولذا فإن المنهج الصحيح هو التفريق بين الفكرة والمنتسبين إليها، فالفكرة الصوفية باطنا وظاهرا مخالفة للإسلام، أما المنتسبون فمنهم كذلك، ومنهم دون ذلك، ومنهم ليس كذلك، معذور بجهل، أو قلة بصيرة وإدراك، أو شبهة، ونحو ذلك.
وعلى ذلك فلا يصح الاحتجاج بأحوال المتصوفة لتزكية التصوف، كأن يقال: هذا إمام صوفي كان مجاهدا، وهذا كان محدثا، وهذا نصر الله به الإسلام، وهذا قال كذا من الحق.. إلخ. فكيف تذمون التصوف؟!.
فكل هذه الأخبار صحيحة، وفي الطوائف الأخرى أمثلة مثلها، لكن ليس هذا هو محل النزاع، إنما النزاع في الفكرة ذاتها، فهل الإسلام يقبل أن يضم إلى أصوله القول بالحلول والاتحاد والوحدة، تحت أي ظرف كان؟.
فما يكون من متصوفة الإسلام من أعمال صادقة فمردها إلى تعاليم الإسلام، لا التصوف، وهم في ذلك مسلمون مستنون بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ليسوا متصوفة، فالتصوف لا يأمر بجهاد، ولا بطلب علم، ولا يجادل في هذا إلا من لا يعرف حقيقة التصوف كما هي، ولذا كان من الخطأ الفاحش نسبة هذه الأعمال ذات المقامات العالية إلى التصوف.
هذا هو المنهج العلمي: (معرفة حقيقة الفكرة من المصدر، لا من المنتسبين).
غير أن طائفة من الباحثين في التصوف لم تراع هذا المنهج، فاختل تقويمها وتحقيقها، ذلك أنها عمدت إلى أئمة التصوف في الإسلام فجعلتهم مصدرا لمعرفة صورة الفكرة الصوفية، فنسبت إلى التصوف كل ما صدر منهم، ولما كان أئمة التصوف يمزجون، في أقوالهم وأفعالهم، بين تعاليم التصوف الذي استمدوه من الثقافات القديمة، وتعاليم الإسلام الذي استمدوه من محيطهم، اختلط الأمر على هؤلاء الباحثين فظنوا ذلك المزيج هو الصورة الحقيقية للتصوف[2]، وقد كان هذا خطأ فاحشا، إذ بذلك جمعوا بين النقيضين، حيث إن أصل الإسلام التوحيد، وأصل التصوف الوحدة، وتوحيد الله تعالى ووحدة الوجود لا يجتمعان، وهذا مما حمل المستشرق نيكلسون عن إظهار تعجبه من تقبل المسلمين للمتصوفة وهذه عقيدتهم ؟!.[3]
وقد ترتب على ذلك: الخطأ في تصوير الإسلام نفسه، حيث ألحق به ما ليس منه، مما يناقضه، وكذلك الخطأ في تصوير التصوف كما هو، حيث أدرجت أصوله قسرا تحت معاني النصوص الشرعية المخالفة لها، ولما كان مناقضة التصوف للإسلام واضحا لا يخفى، فقد اضطر طائفة من الباحثين كانوا أمثل طريقة من غيرهم، محاولة للتوفيق والجمع، أن يجعلوا التصوف على قسمين: إسلامي، وفلسفي.
فنسبوا إلى الفلسفي كل ما يناقض الإسلام، من الحلول والاتحاد والوحدة، وما عدا ذلك من الزهد والذكر والمجاهدة جعلوه من الإسلام، وهكذا قسموا الفكرة الواحدة إلى نقيضين، مخالفين بذلك العقل والواقع. [4]
وعلى ذلك: فالمنهج الصحيح لدراسة التصوف يكون وفق الطريقة التالية:
1- حصر المنتسبين لهذه الطريقة، ممن عرف بالتصوف وأقر على نفسه بالانتساب، دون من لم يقر بذلك، إذ قد ألحق بالتصوف من لم يعرفه أصلا، وكان قبله.
2- جمع ما نسب إليهم من أقوال وأفعال، سواء في كتبهم أو مما نقل على ألسنتهم، لأجل فحصها وتحليلها ومعرفة ما تدور عليه من معنى أو معاني.
3- بعد تحديد المعاني واتجاهات كل إمام صوفي، تعقد مقارنة بينها وبين أصول الإسلام وأحكامه، فما وافق الإسلام فيلحق به، وما خالفه في شيء عزل جانبا.
4- ينظر في هذا المعزول، للدراسة والتحليل، لمعرفة حقيقته أو حقائقه، ووسائله وغاياته، ولا بد في هذه العملية من الدقة والتمهل، لتمييز الأفكار والأصول منها خاصة، حتى لا تختلط بغيرها لمجرد شبه جزئي أو عارض.
5- إذا عرفت حقيقة الفكرة ومعانيها، حينذاك تعرض على أدلة الشريعة، لمعرفة موقفها، وحكمها، ودرجة قبولها أو ردها، وهل هي من المكروهات؟، أو من الكبائر؟، أو من الكفر؟.
6- هنا نصل إلى الحكم على الفكرة، فبعد معرفة حقيقتها، وعرضها على الأدلة الشرعية نخلص إلى الحكم النهائي على الفكرة، أما المنتسبين إليها فيؤجل إصدار الأحكام عليهم بالتعيين، للحاجة إلى معرفة تحقق الشروط وانتفاء الموانع.
7- بعد ثبوت أجنبية الفكرة عن الإسلام، تأتي المرحلة الأخيرة في الدراسة وهي: البحث عن مصادر هذه الفكرة الدخيلة، فينظر في كتب المقالات، المتعلقة منها بمقالات أهل الأديان والملل القديمة قبل الإسلام تحديدا، لمعرفة موضوعها وأصولها.
8- حين تتردد في تلك الثقافات كلمة "صوفية" أو اشتقاقاتها، فالبحث يقتضي تتبع هذه الكلمة ومعرفة كل ما ورد فيها من معان، فهي المقصودة بالبحث أصالة.
9- بعد حصر تلك المعاني والأصول، تعقد المقارنة بينها وبين الأفكار التي وردت عن أئمة التصوف في هذا المعنى، لمعرفة مدى موافقتهم لأصول وفروع الفكرة في القديم، وما زادوا فيه وما نقصوا.
10- بهذا تتم الدراسة من جميع جوانبها: عرضا، ونقدا، وردا إلى المصادر والجذور.
* * *
تلك مسألة، وأخرى تتعلق بنسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف..
فقد كان لثناء الإمام ابن تيمية على بعض أئمة التصوف: أثرا في المعظمين لعلمه وجهاده، حملهم على التشكيك في صحة نسبة الأقوال المنحرفة إلى أولئك الأئمة!!. وترجيح عدالتهم وصحة طريقتهم، وبنوا على ذلك صحة تقسيم التصوف إلى:
- معتدلٍ، وهم رجال القشيري والغزالي ونحوهم، على حد قول أبي الوفا التفتازاني[5].
- وغالٍ، يمثله الذين ثبت عنهم القول بالحلول.
وقد استفاد المتصوفة من موقف الإمام، لتخفيف حدة النقد، وبعضهم جعل الإمام من المتصوفة لأجل موقفه هذا، وبالغ آخرون فزعموا أنه لا خلاف بين التصوف والسلفية!!.. فهنا مسألتان جديرتان بالبحث:
- المسألة الأولى: التحقيق في نسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف.
- المسألة الثانية: تحليل موقف الإمام ابن تيمية من التصوف.
* * *
- المسألة الأولى: التحقيق في نسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف.
الأقوال المنسوبة إلى أحد أئمة التصوف: إما أن تكون واردة في كتاب للإمام نفسه، أو نقله عنه أحد المصنفين. فإن كانت في كتاب له، فإما أن يكون الكتاب صحيح النسبة إليه فالقول ثابت، وإلا فلا.
وإن كان نقله عنه أحد المصنفين في التصوف، فإما أن يكون تلقاه منه مباشرة فالقول ثابت حينئذ، إذا كان المصنف ثقة، أو بوساطة، فإن كانوا ثقات فالقول ثابت، وإلا فلا، وكذا إن رواه بغير سند.
فالحاصل أن نسبة القول إلى أحد الأئمة ثابتة في الأحوال التالية:
1- إذا كان في كتاب له، قاله على سبيل التقرير.
2- إذا كان الناقل ثقة، أو النقلة ثقات.
- فيما يتعلق بالحالة الأولى: فقد صنف الأئمة القدماء في التصوف، كأبي سعيد الخراز، والجنيد، والحلاج، والطوسي، والكلاباذي، والقشيري، والسلمي، وأبو طالب المكي، والحكيم الترمذي، والهروي كتبا ورسائل،لم يشكك أحد في نسبتها إليهم، لا من المتصوفة ولا غيرهم، فيها كل الأقوال والأفكار الغالية التي تمثل أصول التصوف، فهي إذن وثيقة صوفية تثبت أن مصنفي تلك الكتب يعتقدون بكل تلك الأقوال والأفكار المنحرفة، فإنهم ما علقوها على سبيل الحكاية، كلا، بل على سبيل التقرير والتأصيل.
ومعلوم أن مقام التقرير والتأصيل، ليس كمقام الإخبار والنقل المحض، فالذي ينقل الأقوال في حالة التأصيل والتقرير لفكر ما، وهو منتسب إلى ذلك الفكر، لا شك هو مؤمن معتقد بتلك الأقوال، والذي ينشئ الفكرة وينظّر لها كذلك هو مؤمن بها، وفي هذا الحال ما على من نسب إليه الإيمان بتلك الأقوال والأفكار من حرج.
- فيما يتعلق بالحالة الثانية: فإن الملاحظ أن كثيرا من أقوال الصوفية ليست بأسانيد أصلا، وما كان منها بأسانيد قد يكون البحث في صحتها مفيدا، من حيث تبرئة بعض الأئمة مما نسب إليهم من القول الغالي، في حال بطلان السند، غير أنه لا يفيد في تبرئة الفكر الصوفي من الانحراف، بعدما امتلأت مصنفات التصوف بهذه الأقوال على جهة التقرير والتأصيل، وذلك كاف في الحكم على التصوف، ووصفه بالوصف الذي يستحقه بحسب ما في تلك الأقوال من معاني.
غير أن مما قد يحتج به من لا يبرئ الأئمة أنفسهم مما نسب إليهم من الأقوال الغالية: ما جاء في تراجمهم من تعرضهم لإنكار العلماء واتهامهم بالزندقة، إذ أدى إلى قتل بعضهم، وسجن آخرين، وهروبهم، وتخفيهم، منهم الجنيد كان يتستر بمذهب ثور، ويدرس أحكام الطريقة خفية، بعد غلق الأبواب بمفتاح يضعه تحت وركه، وكذا الحكيم الترمذي الذي ذكر ما تعرض له من نكير وتهمة في كتابه (ختم الأولياء)، ولا تكاد تجد إماما صوفيا إلا وتعرض لمثل هذه المشكلات.. أفلا ينم ذلك عن صدق ما نسب إليهم؟.[6]
وفي كل حال نقول: إن الحكم والوصف إنما هو في حق الفكرة لا الأشخاص، فالفكر الصوفي ليس من الإسلام في شيء، وما عليه الفكر الصوفي من حق:
- إما أن يكون حقا متفقا عليه عند جميع العقلاء، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، كالصدق وعدم الكذب، وتوقير الكبير والضعيف، وعدم الغش، أو السرقة، أو الخيانة، ونحو ذلك..
- وإما أن يكون أصله مما جاء به الإسلام، كالاجتهاد في العبادات..ثم إن الصوفية زادوا فيها.
لكن ذلك لا يسوغ تصحيح التصوف وقبوله، فإن الاشتراك في الوصايا الإنسانية، أو في بعض ما جاءت به الشريعة: لا يلزم منه التصحيح والقبول، إلا بشرط الاشتراك في الأصول الأساسية، وأصل دين الإسلام هو التوحيد الخالص لله وحده في: ربوبيته، وألوهيته. ومخالفة أية طائفة لهذا الأصل يقطع ما بينها وبين الإسلام من صلة، ولو اشتركت معه في أصل الزهد والذكر والمجاهدة.. إلخ.
* * *
- المسألة الثانية: تحليل موقف ابن تيمية من التصوف.
في تحليل موقف ابن تيمية، لا بد من ملاحظة أن ثناءه لم يكن على الفكرة الصوفية، بل على بعض الأئمة، وليس كلهم، ثم لم يكن ثناؤه عليهم بإطلاق، بل بكلمات صدرت عنهم تؤكد وجوب التقيد بالكتاب والسنة، ومن موقف كهذا لا يمكن انتزاع تزكية للفكرة والمذهب، فالثناء على الأشخاص لا يلزم منه تصحيح المذهب، وقد كان هذا منهجه، فردوده على المتصوفة وغيرهم من الفرق لم يكن يمنعه من التنويه والإشادة بما أصابوا فيه.
وهذا مفيد لعامة المتصوفة، الذين جعلوا من الشيخ إماما لا يخالفونه في شيء، ولو خالف الشرع، فاستثمار مثل هذه الكلمات لهدم هذا الصنم الصوفي المسمى بالشيخ، والعود بالمتصوفة إلى التقيد بالكتاب والسنة مكسب كبير، يدل على فطنة هذا الإمام، حيث استطاع نقض هذه الفكرة الغالية من الداخل، فالأتباع لا يسمعون إلا للمشايخ، فلم لا تستثمر كلماتهم في نقض مذهبهم؟.
ومما يؤكد أن ابن تيمية لم يقصد بثنائه على بعض الأئمة تزكية المنهج الصوفي: ردوده على البسطامي والحلاج وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين والتلمساني وغيرهم، من الذين بينوا حقيقة التصوف، فالفكرة الصوفية كانت محل نقد الإمام، في قولهم: بالتشبه بالإله، والفناء، والحلول، والاتحاد، والوحدة[7]. حتى الهروي صاحب (منازل السائرين) كان محل نقد الإمام، إذ نسبه إلى القول بالحلول الخاص دون العام في كتابه الآنف، وحط عليه لأجل ذلك، هذا مع كونه من كبار أئمة المتصوفة، ومواقفه في باب الصفات معروفة[8].
* * *
وبعد: فإن أهمية نقد الفكر الصوفي تأتي من جهتين:
الأولى – تتعلق بأصل الدين الأعظم، الذي به أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ولأجله خلق الجن والإنس: ألا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، والإعراض عن عبادة ما سواه، فالرد على المتصوفة في هذا الباب تحقيق لهذا الأصل، الذي خالفوه وعارضوه.
الثانية – الحضور الكبير للتصوف في العالم الإسلامي، فما من بلد إلا ولهم فيه وجود، وهم في بعضها السواد الأعظم، ونعني بذلك كل من انتسب إلى التصوف ولو ظاهرا بالاسم، فإن من المتيقن أن الذين يدركون حقيقة هذا الفكر من الصوفية أنفسهم: قليلون. وأما أكثرهم فلا يعرفون منه إلا الموالد والذكر، دون القضايا الفلسفية التي تمثل أصول الفكرة.
إن كل واحد من هذين الأمرين، منفردا، سبب كافٍ للكلام في التصوف عرضا ونقدا، فكيف إذا انضم بعضهما إلى بعض؟.
ومن هنا كان من المهم العناية بدراسة التصوف، ومعرفة المنهج الصحيح لذلك، ولعلي أسهمت ولو يسيرا في فتح هذا الباب. والله الموفق



*عضو هيئة تدريس بقسم العقيدة جامعة أم القرى
[1] – من قول الجنيد. انظر: الرسالة للقشيري 1/117،118.
[2] – كان هذا سبيل كل من قسم التصوف إلى: إسلامي، وفلسفي. وهو تقسيم فاسد، لأنه يجعل من الفكرة الواحدة جامعة للنقيضين، وهو محال، فإما إيمان وإما كفر، أما الجمع بينهما فمحال، والتقسيم الصحيح هو المتعلق بالأشخاص، فيقال: متصوفة إسلاميين، ومتصوفة فلاسفة. وهذه مسألة تحتاج إلى بسط، ليس هذا موضعه.
[3] -قال: "ولعله أن يقال: كيف يمكن لدين أقامه محمد على التوحيد الخالص المتشدد أن يصبر على هذه النحلة الجديدة، بله أن يكون معها على وفاق؟. وإنه ليبدو أن ليس في الوسع التوفيق بين الشخصية الإلهية المنـزهة، وبين الحقيقة الباطنة الموجودة في كل شيء، التي هي حياة العالم وروحه، وبرغم هذا فالصوفية بدل أن يطردوا من دائرة الإسلام، قد تقبلوا فيها !!. وفي تذكرة الأولياء شواهد على الشطحات الغالية للحلولية الشرقية". [الصوفية في الإسلام ص31]
[4] – انظر مثلا كتاب: "مدخل إلى التصوف الإسلامي" لأبي الوفا الغنيمي.
[5]- انظر كتابه: "مدخل إلى التصوف الإسلامي" ص19.
[6] – انظر اللمع للطوسي، باب: ذكر جماعة المشايخ الذين رموهم بالكفر ص497.
[7] – انظر: المجلد الثاني، والعاشر، والحادي عشر. من مجموع الفتاوى. فأما الثاني فقد خصص للرد على الغلاة.
[8] – انظر: الفتاوى 5/485.


بحث سريع