القناعة

بواسطة | مشرف النافذة
2005/07/02
 يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من أصبح أمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه    فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)
  مع صخب الحياة وكد المعيشة يزداد التسخط في الناس وعدم الرضى بما رُزقوا إذا قلّت فيهم القناعة ، وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم ، ولا لباس يواريهم ، ولا مراكب تحملهم ، ولا مساكن تكنهم ؛ حيث يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء ، ولن يشبعهم شيء ؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم ، ولا تُبصر من هم تحتهم ،   فيزدرون نعمة الله عليهم ، ومهما أوتوا طلبوا المزيد ؛ فهم كشارب ماء البحر لا   يرتوي أبدا ًوفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم( لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانيا و لو كان له واديان لابتغى لهما ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب و يتوب الله على من تاب)  ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبداً ؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء ، وهذا من أبعد المحال ؛ ذلك أن أي إنسان إن كملت له أشياء قصرت عنه أشياء ، وإن علا بأمور سفلت به أمور ، ويأبى الله – تعالى – الكمال المطلق لأحد من خلقه كائناً من كان ؛ لذا كانت القناعة والرضى من النعم العظيمة والمنح الجليلة التي يُغبط عليها صاحبها .  قال الماوردي :  ( والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن يقتنع بالبُلغة من دنياه ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه ؛   وهذا أعلى منازل أهـل القناعة ، ثم ذكر قول مالك بن دينار : أزهد الناس من لا   تتجاوز رغبته من الدنيا بُلغته .
الوجه الثاني : أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية ، ويحذف الفضول والزيادة ، وهذا أوسط حال المقتنع ، وذكر فيه قول بعضهم : من رضي بالمقدور قنع بالميسور .
   الوجه الثالث : أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سُنح ، فلا يكره ما أتاه وإن كان كثيراً ، ولا يطلب ما تعذر وإن كان يسيراً ، وهذه الحال أدنى منازل أهل القناعة ؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة ، فأما الرغبة : فلأنه لا يكره الزيادة على الكفاية إذا سنحت ، وأما الرهبة : فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا تعذرت  )
و الذي يتعارض مع القناعة أن يغش التاجر في تجارته ، وأن يتسخط الموظف من مرتبته ، وأن يتبرم العامل من مهنته ، وأن يُنافَق المسؤول من أجل منصبه وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو يميّع مبدأه رغبة في مال أو جاه ، وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته ، وأن يُذِلَّ المرء نفسه لغير الله – تعالى – لحصول مرغوب . وليس القانع ذاك الذي يشكوا خالقه ورازقه إلى الخلق ، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له ، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رتب الدنيا ؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى .
فوائد القناعة :
      إن للقناعة فوائد كثيرة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة ومن تلك الفوائد:
      1 – امتلاء القلب بالإيمان بالله – سبحانه وتعالى – والثقة به ، والرضى بما قدر وقسم ، وقوة اليقين بما عنده – سبحانه وتعالى – ذلك أن من قنع برزقه فإنما هو مؤمن ومتيقن بأن الله – تعالى – قد ضمن أرزاق العباد وقسمها بينهم حتى ولو كان ذلك القانع لا يملك شيئاً (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) . يقول ابن مسعود – رضي الله عنه – : إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا : ليس في البيت دقيق . وقال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – : أسرُّ أيامي إليَّ يوم أُصبح وليس عندي شيء . وقال الفضيل ابن عياض – رحمه الله تعالى – : أصل الزهد الرضى من الله – عز وجل – . وقال أيضاً : القُنوع هو الزهد وهو الغنى ، وقال الحسن – رحمه الله تعالى – : إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله – عز وجل -  .
     2 – الحياة الطيبة : قال – تعالى – : ] من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [   [النحل : 97] ، فَسَّر الحياةَ الطيبة عليٌّ وابن عباس والحسن – رضي الله عنهم -   فقالوا : الحياة الطيبة هي القناعة  ، وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي -   رحمه الله تعالى – : من قنع طاب عيشه ، ومن طمع طال طيشه.  
  3 – تحقيق شكر المنعم – سبحانه وتعالى – : ذلك أن من قنع برزقه شكر الله – تعالى – عليه ، ومن تقالّه قصَّر في الشكر ، وربما جزع وتسخط – والعياذ بالله – ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كن ورعاً تكن أعبد الناس ، وكن قنعا تكن أشكر الناس  ).
   4 – الفلاح والبُشْرى لمن قنع : فعن فضالة بن عبيد – رضي الله عنه – أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :  ( طوبى لمن هدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافاً ، وقنع  ) ، وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً ، وقنّعه الله بما آتاه  )  .
      5 – الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات : كالحسد ، والغيبة ، والنميمة والكذب  وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة ؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالباً ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها ، فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم ، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا ؛ لأنه رضي بما قسم له . قال ابن مسعود – رضي الله عنه – : اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله ، ولا تحسد أحداً على رزق الله ، ولا تَلُمْ أحداً على ما لم يؤتك الله ؛ فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ، ولا يرده كراهة كاره ؛ فإن الله – تبارك وتعالى – بقسطه وعلمه وحكمته جعل الرَّوْح والفرح في اليقين والرضى ، وجعل الهم والحزن فالشك والسخط  . وقال بعض الحكماء : وجدت أطول الناس غماً الحسود ، وأهنأهم عيشاً القنوع   .
      6 – حقيقة الغنى في القناعة : ولذا رزقها الله – تعالى – نبيه محمداً صلى   الله عليه وسلم وامتن عليه بها فقال – تعالى – : ] ووجدك عائلا فأغنى [   [الضحى : 8] ، نزّلها بعض العلماء على غنى النفس ؛ لأن الآية مكية ، ولا يخفى   ما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تُفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال   . وذهب بعض المفسرين إلى أن الله – تعالى – جمع له الغنائيْن : غنى القلب ،وغنى المال بما يسر له من تجارة خديجة . وقد بيّن – عليه الصلاة والسلام – أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال – عليه الصلاة والسلام – :  ( ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس  ) [16] .  وعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا ذر ، أترى كثرة المال هو الغنى ؟ ) قلت : نعم يا رسول الله ، قال : (فترى قلة المال هو الفقر ؟) قلت : نعم ! يا رسول الله . قال : ( إنما الغنى غنى القلب ، والفقر فقر القلب ) الحديث. وتلك حقيقة لا مرية فيها ؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه ولوعُمِّر ألف سنة ؛ يخاطر بدينه وصحته ويضحي بوقته يريد المزيد ! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس ؛ وهو لا يجد قوت غده ! فالعلة في القلوب : رضيً وجزعاً ، واتساعاً وضيقاً ، وليست في الفقر والغنى .  ولأهمية غنى القلب في صلاح العبد قام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -خطيباً في الناس على المنبر يقول : ( إن الطمع فقر ، وإن اليأس غنى ، وإن   الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه  ) وقيل لبعض الحكماء : ما الغنى ؟ قال : قلة تمنيك ، ورضاك بما يكفيك   .
    7 – العز في القناعة ، والذل في الطمع : ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزاً بينهم ، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد ؛ ولذا جاء في  حديث سهل بن سعد مرفوعاً : ( شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزه استغناؤه عن الناس  )  . وكان محمد بن واسع – رحمه الله تعالى – يبلُّ الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول : من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد   .  وقال الحسن – رحمه الله تعالى – : لا تزال كريماً على الناس ، ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم ؛ فإذا فعلت ذلك استخفُّوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك  .  وقال الحافظ ابن رجب – رحمه الله تعالى – : وقد تكاثرتالأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس ، والاستغناء عنهم ؛ فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه ؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم ، فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك.والإمامة في الدين والسيادة والرفعة لا يحصلها المرء إلا إذا استغنى عن الناس ، واحتاج الناس إليه في العلم والفتوى والوعظ . قال أعرابي لأهل البصرة : من سيد أهل هذه القرية ؟ قالوا : الحسن ، قال : بِمَ سادهم ؟ قالوا : احتاج الناس إلى علمه ، واستغنى هو عن دنياهم.             
السبيل إلى القناعة :
      1- تقوية الإيمان بالله – تعالى – ، وترويض القلب على القناعة والغنى ؛ فإن حقيقة الفقر والغنى تكون في القلب ؛ فمن كان غني القلب نعم بالسعادة وتحلى بالرضى ، وإن كان لا يجد قوت يومه ، ومن كان فقير القلب ؛ فإنه لو ملك الأرض ومن عليها إلا درهماً واحداً لرأى غناه في ذلك الدرهم ؛ فلا يزال فقيراً حتى يناله .
      2- اليقين بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحم أمه ، كما في حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – وفيه :  ( ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ..  )  . فالعبد مأمور بالسعي والاكتساب مع اليقين بأن الله هو الرازق وأن رزقه مكتوب .
      3- تدبر آيات القرآن العظيم ولا سيما الآيات التي تتحدث عن قضية الرزق والاكتساب . يقول عامر بن عبد قيس : أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتُهن مساءً لم أبال على ما أُمسي ، وإذا تلوتُهن صباحاً لم أبال على ما أُصبح : ] مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ومَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [  [فاطر : 2] ، وقوله تعالى : ] وإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [   [يونس : 107] ، وقوله تعالى : ] ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ويَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ومُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [ [ هود : 6] ، وقوله – تعالى  ] سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [ [الطلاق : 7]  .
      4- معرفة حكمة الله – سبحانه وتعالى – في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد ، حتى تحصل عمارة الأرض ، ويتبادل الناس المنافع والتجارات ، ويخدم بعضهم بعضاً قال – تعالى ] أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياًورَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [ [الزخرف : 32] ، وقال – تعالى – ] وهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [   [الأنعام : 165] .
      5- الإكثار من سؤال الله – سبحانه وتعالى – القناعة ، والإلحاح بالدعاء في ذلك ؛ فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو أكثر الناس قناعة وزهداً ورضىً وأقواهم إيماناً ويقيناً ، كان يسأل ربه القناعة ؛ فعن ابن عباس : رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يدعو :  ( اللهم قنِّعني بما رزقتني ، وبارك لي فيه ، واخلف على كل غائبة لي بخير  ) ولأجل قناعته صلى الله عليه وسلم ، فإنه ما كان يسأل ربه إلا الكفاف من العيش والقليل من الدنيا كما قال – عليه الصلاة والسلام – :  ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً  )  .
      6- العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء وكثرة الحركة وسعة المعارف ، وإن كان بعضها أسباباً ؛ إلا أن الرزق ليس معلقاً بها بالضرورة ، وهذا يجعل العبد أكثر قناعة خاصة عندما يرى من هو أقل منه خبرة أو ذكاءًا أو غير ذلك وأكثر منه رزقاً فلا يحسده ولا يتبرم من رزقه .  7- النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا ، وعدم النظر إلى من هو فوقك فيها ؛ ولذا قال النبي  ( انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله  )  . وفي لفظ آخر قال عليه الصلاة والسلام :  ( إذا رأى أحدكم مَنْ فوقه في المال والحسب فلينظر إلى من هو دونه في المال والحسب  ) . وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء ، ومن هو أقل منه في أشياء ؛ فإن كنت فقيراً ففي الناس من هو أفقر منك ، وإن كنت مريضاً أو معذباً ففيهم من هو أشد منك مرضاً وأكثر تعذيباً ، فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك ،   ولا تخفضه لتبصر من هو تحتك ؟ إن كنت تعرف من نال من المال والجاه ما لم تنله أنت وهو دونك ذكاءًا ومعرفة وخلقاً ، فلِمَ لا تذكر من أنت دونه أو مثله في ذلك كله وهو لم ينل بعض ما نلت ؟ !
      8- قراءة سِيَر السلف الصالح وأحوالهم مع الدنيا والزهد فيها والقناعة بالقليل منها ، وهم قد أدركوا الكثير منها فرفضوه إيثاراً للباقية على العاجلة ، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وإخوانه من الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – ثم الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – والتابعون لهم بإحسان ؛ فإن معرفة أحوالهم ، وكيف كانت حياتهم ومعيشتهم تحفز العبد إلى التأسي بهم ، وترغِّبه في الآخرة ،وتقلل عنده زخرف الحياة الدنيا ومتعها الزائلة .
      9- العلم بأن عاقبة الغنى شر ووبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب والصرف منه بالطرق المشروعة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :  ( لا تزول قدما عبد حتى يُسأل : عن عمره فيمَ أفناه ، وعن علمه فيمَ فعل فيه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه ، وعن جسمه فيمَ أبلاه  ) فمشكلة المال أن الحساب عليه من جهتين : جهة الاكتساب ثم جهة الإنفاق ، وهذا ما يجعل تبعته عظيمة وعاقبته وخيمة إلا من اتقى الله فيه وراعى حرماته اكتساباً وإنفاقاً .  ثم ليتفكر في أنه كلما تخفف من هذا المال وكان أقل كان حسابه أيسر وأسرع ؛   وذلك كمن سافر في الطائرة وحمل متاعاً كثيراً ؛ فإنه إذا بلغ مقصده احتاج وقتاً   طويلاً لاستلامه وتفتيشه بخلاف من كان خفيفاً ليس معه شيء ، وحساب الآخرة أعسر ، والوقوف فيها أطول .  ولينظر أيضاً إلى من كان المال والجاه سبب شقائه وأمراضه وهمومه وغمومه ؛ فهو يشقى ويتعب في جمع المال ونيل المناصب ثم يحمل همَّ الحفاظ على المال والمنصب فيقضي عمره مهتماً مغتماً ، ثم انظر ماذا يحدث له إذا خسر ماله أو أُقيل من منصبه ، وكم من شخص كان ذلك سبباً في هلاكه وعطبه ! نسأل الله العافية .
      10- النظر في التفاوت البسيط بين الغني والفقير على وجه الحقيقة ، فالغني لا ينتفع إلا بالقليل من ماله ، وهو ما يسد حاجته وما فضل عن ذلك فليس له ، وإن كان يملكه ، فلو نظرنا إلى أغنى رجل في العالم لا نجد أنه يستطيع أن يأكل من الطعام أكثر مما يأكل متوسط الحال أو الفقير ، بل ربما كان الفقير أكثر أكلاً منه ، وبعبارة أخرى : هل يستطيع الغني أن يشتري مائة وجبة فيأكلها في آن واحد ، أو مائة ثوب فليبسها في آن واحد ؛ أو ألف مركبة فيركبها في آن واحد ؛ أو مائة دار فيسكنها في وقت واحد ؟ ! لا ؛ بل له من الطعام في اليوم ثلاث وجبات تزيد قليلاً أو تنقص ، وللمستور كذلك مثله ، وله من اللباس ثلاث قطع تزيد قليلاً أو تنقص ، ولا يستهلك من الأرض في وقت واحد إلا متراً في مترين سواء كان قائماً أو قاعداًأو مضطجعاً . فعلام يُحسد وهو سيحاسب على كل ما يملك ؟ ! وقد فهم هذا المعنى حكيم هذه الأمة أبو الدرداء – رضي الله عنه – حينما قال : أهل الأموال يأكلون ونأكل ، ويشربون ونشرب ، ويلبسون ونلبس ، ويركبون ونركب ، ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر إليها معهم وحسابهم عليها ونحن منها برآء ، وقال أيضاً :   الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت ، ولا نتمنى أننا مثلهم   حينئذ ، ما أنصَفَنا إخوانُنا الأغنياء : يحبوننا على الدِّين ، ويعادوننا على  الدنيا.  بل جاء هذا المعنى في السنة النبوية . قال عبد الله بن الشخير – رضي الله عنه – : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يقرأ ] أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [   لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ؟  ) .  إن القانع قد لا ينال من الطعام أطيبه ، ولا من اللباس أحسنه ، ولا من العيش أرغده ؛ ولكنه ينعم بالرضى أكثر من الطمَّاع وإن كان الطماع أرغد عيشاً منه ؛ لأن القانع ينظر إلى الموسر وما يملك فيراه لا ينتفع إلا بقليل مما يملك ، لكنه ثم ليعلم العاقل أن كل حال إلى زوال ، فلا يفرح غني حتى يطغى ويبطر ، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر ، فإنه لا فقر يدوم ولا غنى يدوم ، وكم من رجال نشؤوا على فرش الحرير ، وشربوا بكؤوس الذهب ، وورثوا كنوز المال ، وأذلوا أعناق الرجال ، وتعبَّدوا الأحرار ، فما ماتوا حتى اشتهوا فراشاً خشناً يقي الجنب عض الأرض ، ورغيفاً من خبز يحمي البطن من قَرْص الجوع ، وآخرون قاسوا المحن والبلايا ، وذاقوا الألم والحرمان ، وطووا الليالي بلا طعام ، فما ماتوا حتى ازدحمت عليهم النعم ، وتكاثرت الخيرات ، وصاروا من سراة الناس ، وسيسوِّي الموت بين الأحياء جميعاً : الغني والفقير ؛ فدود الأرض لا يفرق بين المالك والأجير ، ولا بين الصعلوك والأمير ولا بين الكبير والصغير ، فلا يجزع فقير بفقره ، ولا يبطر غني بغناه [19] ، وما أجمل القناعة ! فمن التزمها نال السعادة ،   وما أحوج أهل العلم والدعوة للتحلي بها ! حتى يكونوا أعلام هدى ومصابيح دجى ، ولو تحلى بها العامة لزالت الضغائن والأحقاد ، وحلت الألفة والمودة ؛ إذ أكثر أسباب الخلاف والشقاق بين الناس بسبب الدنيا والتنافس عليها ، وما ضعف الدين في القلوب إلا من مزاحمة الدنيا له ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حينما قال :  ( والله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تُبسَطَ الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم  )  ، فهل من مدَّكر ؟ وهل من معتبر يجعل ما يملك من دنيا في يديه ، ويحاذر أن تقترب إلى قلبه فتفسده ؟ ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا   فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب  ) .



بحث سريع