كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل

بواسطة | مشرف النافذة
2005/07/02
هذه جملة من حديث نبوي شريف, خرجه الإمام البخاري وغيره عن ابن عمر – رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي, فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))[1].
فهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا, فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا فيطمئن فيها, ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يعد جهازه للرحيل.
فالمؤمن في الدنيا كالغريب المجتاز ببلدة غير مستوطن فيها ، فهو يشتاق إلى بلده الأصل وهمه الرجوع إليه والتزود بما يوصله في طريقه إلى وطنه سالما من الآفات يسعى سعياً حثيثاً ليلاً ونهاراً ، ولا يُنافس أهل ذلك البلد المستوطنين فيه في عزهم ، ولا يجزع مما أصابه عندهم من الذل .
قال الحسن : المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ، ولا ينافس في عزها ، له شأن وللناس شأن .
وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم, قال تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: ((إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار))[2] وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها))[3].
ومن وصايا المسيح -عليه السلام- لأصحابه أنه قال لهم: اعبروها ولا تعمروها, وروى عنه أنه قال: من ذا الذي يبني على موج البحر دارا ؟! تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا[4] .
ودخل رجل على أبي ذر, فجعل يقلب بصره في بيته فقال: يا أبا ذر, أين متاعكم ؟
-فقال: إن لنا بيتا نوجه إليه.
-فقال: إنه لا بد لك من متاع مادمت هاهنا.
-فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه .
ودخلوا على بعض الصالحين, فقلبوا بصرهم في بيته, فقالوا له: إنا نري بيتك بيت رجل مرتحل, فقال: أمرتحل؟ لا, ولكن أُطْرَدُ طرداً.
وكان على بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة, وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة, ولكل منهما بنون, فكونوا من أبناء الآخرة, ولا تكونوا من أبناء الدنيا, فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل.
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة, ولا وطنا, فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين:
1- أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة, همه التزود للرجوع إلى وطنه.
2-أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة, بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة.
أما الحال الأول وهو: (( كونه غريباً)) أي أن يعيش بباطنه عيش الغريب عن وطنه, كما أن الغريب حيث حلّ نازع لوطنه, ومهما نال من الطرف أعدها لوطنه, وكلما قرب مرحلة سره, وإن تعوق ساعة ساءه ,فلا يتخذ في سفره المساكن والأصدقاء, بل يجتزئ بالقليل قدر ما يقطع به مساقة عبوره, لأن الإنسان إنما أوجد ليمتحن بالطاعة فيثاب أو بالإثم فيعاقب {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}[5], فهو كعبد أرسله سيده في حاجة ,فهو إما غريب أو عابر سبيل فحقه أن يبادر لقضائها, ثم يعود إلى وطنه.
وهذه الغربة ليست للمؤمن فقط-وإن كان هو أكثر من يشعر بها-, بل إن بني آدم في هذه الدار كلهم غرباء, فإنها ليست لهم بدار مقام, ولا هي الدار التي خلقوا لها.
والله –سبحانه وتعالى- عندما خلق آدم أسكنه وزوجه الجنة, ثم أهبطهما منها, ووعدهما بالرجوع إليها, وصالح ذريتهما, فالإنسان السوي الفطرة أبدا يحن إلى وطنه الأول كما قيل:
كم منزل في الأرض يألفه الفتي * وحنينه أبداً لأول منزل[6]
وللإمام ابن القيم[7] في هذا المعنى :
فحي على جنات عدن فأنها * منازلك الأولى وفيهم المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى * نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى * وشطت به أوطانه فهو مغرم
فأي اغتراب فوق غربتنا التي * لها أضحت الأعداء فينا تحكم
الحال الثاني وهو:(( كونه عابر سبيل)) أي أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة, وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره, وهو الموت.
ومن كانت هذه حاله في الدنيا, فهمته تحصيل الزاد للسفر, وليس له همة للاستكثار من طلب متاع الدنيا, ولهذا وصي النبي -صلى الله عليه وسلم- جماعة من أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب[8]
قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت ؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة ؟ [9].
وقال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة, كلما مضى يوم مضى بعضك.
قال داود الطائي: إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم, فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زاداً لمِا بين يديها, فافعل, فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك, فتزود لسفرك, واقض ما أنت قاض من أمرك, فكأنك بالأمر قد بَغَتك[10].
وبنو آدم أيضاً مسافرون ومحط رحالهم أما إلى أوطانهم الأول ((جنة عرضها السموات والأرض))
أو إلى نار تلظى لا يصلاها إلا الشقي منهم -أعاذنا الله منها-.
فوائد الحديث
جمع هذا الحديث الشريف على اختصاره فوائد جمة فمنها:
1-التزهيد في الدنيا وأن لا يتخذها الإنسان دار إقامة، لقوله: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”.
2-حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم بضرب الأمثال المقنعة، لأنه لو قال: ازهد في الدنيا ولا تركن إليها وما أشبه ذلك, لم يفد هذا مثل ما أفاد قوله: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”.
3-فعل ما يكون سبباً لانتباه المخاطب وحضور قلبه، لقوله: “أَخَذَ بِمنْكَبَيَّ” ، ونظير ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علَّمَ ابن مسعود رضي الله عنه التشهد أمسك كفه وجعله بين كفيه حتى ينتبه.
4-أنه ينبغي للعاقل مادام باقياً والصحة متوفرة أن يحرص على العمل قبل أن يموت فينقطع عمله.
5- فضيلة عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- حيث تأثّر بهذه الموعظة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان من أكابر الزهاد في الدنيا كان يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك[11].
والله سبحانه أعلم.


[1] رواه البخاري (6416).
[2] سورة غافر (36).
[3] رواه أحمد 1/391 , والترمذي (2377) , وقال: حسن صحيح.
[4] ذكره أحمد في الزهد ص 93.
[5] سورة تبارك (2)
[6] البيت لأبي تمام من أبيات في ((ديوانه)) 4/253 أولها:
البين جرعني نقيع الحنظلِ *والبين أثكلني وإن لم أثكلِِِِِ
وقبل البيت المستشهد به:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى* ما الحب إلا للحبيب الأولِ
[7] والأبيات من قصيدة مطولة أنشدها في مقدمة كتاب ((حادي الأرواح)) ص 23 وغيره.
[8] (صحيح) انظر حديث رقم: 5465 في صحيح الجامع.
[9] (( الحلية)) 2/348.
[10] ((الحلية)) 7/345- 346.
[11] رواه البخاري (6416).

بحث سريع