غيبة الهدف .. من حياتنا العلمية

بواسطة | محبة الدين سماء
2005/07/16
أننا لنعجب من طائر صغير غادر عشه مع انبلاج فجر يوم جديد ، نراه وقد فرد جناحيه على بساط النسيم ، رافعاً رأسه الصغير ، ورافعاً معه همته لأعلى بكل عزيمة البِشْر ، ينطلق ، ينشرها أغاريد عذبة تعطّر الأجواء ، ونراه يطير عند الأصيل أو في جو الهجير ، نراه يسير يلتقط الحَبّ بمنقاره الصغير ، وقد يغدر به حيوان جارح أو طائر كاسر ، أو يستعذب في رحلته لفح السموم باحثاً عن لقمة عيش لصغاره ، أو منقباً عن أعواد صغيرة لعشه ، يقطع آلاف الأمتار مستميتاً في الوصول إلى ما يريد ، ثم لا تنظر .. إلا وقد عاد إلى بيته الصغير عند الغروب راضياً مسروراً .لم يكن بإمكان تلك الروح أن تهدأ ساعة قبل أن تصل إلى الهدف المنشود الذي تحيا لأجله ، هكذا يهدي الله المخلوقات إلى فلكها الذي تدور فيه وفق سنن محكمة .
لكل إنسان هدف :
إنّ الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان هي : أنّ لكل إنسان هدفاً رسمه في حياته حتى يبلغه ، ويسعد بنواله . لذا : كان من البدهي أن يسعى المرء ويجتهد في حياته للوصول لما يصبو إليه ، فالهدف إذن ضرورة لا بد منها في هذه الحياة ، وإلاّ لتخبّط الإنسان وسار والسفينة بدون بوصلة في عرض البحر تكون معرضة للهلاك . إن الله (سبحانه وتعالى) أراد لهذه الإنسانية الارتقاء والعلو ، لذلك حدّد لها
الهدف الذي من أجله خلقت ، وبيّن لها أن الخير كل الخير في السير على هذا الطريق الذي يصل إلى الغاية الكبرى ، وصدق الله إذ يقول : ] وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ [ [الذاريات : 56]
أثر الخطأ في تحديد الهدف :
ولعدم تحديد الهدف من الحياة الناشئ عن خطأ في أصل التصور الصحيح للحياة ؛ نشأت مشكلات عديدة ما زالت البشرية – التي تنأى عن روح الإسلام إلى اليوم – تجترّ آلامها ، وعلى رأسها المشكلات النفسية الناشئة من انعدام التصور الصحيح لهذه الحياة وعدم معرفة سبب وجودنا فيها ومهمتنا الموكولة إلينا في هذا الوجود ، ومصيرنا ومصير الكون ، والغاية من هذا التنظيم الرائع للكون ، ومن هذا الإبداع العجيب الدقيق المحكم للإنسان ولسائر الأحياء والكائنات ، لماذا وُجد كل ذلك بهذه الدقة والإحكام ؟ ! لذلك : كان الإسلام يربّي أبناءه دائماً على أن يكونوا ذوي بصيرة ، لأنهم فهموا الغاية الكبرى ووعوا دورهم في الوصول إليها (فجاءت التربية الإسلامية تربّي الناشئ على : أن ينظر إلى كل ساعات الحياة ولحظاتها على أنها أمانة في عنقه ، عليه أن يستغلها في الخير ، وتربيه على أن يجد لذة نفسية عظيمة كلما ساهم وسابق في عمل الخير ، أو دفع الشر عن نفسه وأمته ؛ فكل لحظة من حياته يتقرب فيها بإرضاء ربه هي متعة جديدة تشعره بالمزيد من قيمته عند الله ، الذي أوجده ليبلوه في هذه الحياة ، ثم يجزيه الجزاء الأوفى ، كما تشعره بأثره في المجتمع ، وفي البيئة ، وفي الكون والإنسانية ] الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ [ [الملك : 2] .
والواقع الملموس يؤكد أن هذه الحقيقة لم تتجاوز حدود الإقرار والاعتراف اللساني ؛ فنظرة قريبة من بيوتنا ومقارّ أعمالنا تشير إلى حقيقة تقع فيها فئات من الناس ، ولعلها – مع استمرار إغفال دراستها وآثار أبعادها – ستتحوّل إلى طابع عام للعاملين في مجالات عديدة ، وهي : عدم رسم الهدف الكبير وجعله بمثابة ضابط لخط الحياة ، والتحليق في الأفق الواسع بدلاً من النظر إلى الأفق القريب أو نصب أهداف زائلة ببلوغ الأجل المسمى ، إنْ لم تكون هذه الأهداف قصيرة الأمد ، خسيسة في موضوعها ، حقيرة في مضمونها ، ذاتية في روحها وشكلها ، ويلاحظ أن هذه الظاهرة موجودة بين اليافعين والراشدين الناضجين ومن فوقهم ، ولعل من أسباب انتشار هذه الظاهرة : عدم تنشئة الفرد بيئيّاً على أن يحيا لغاية .
ولا أدري ما سبب غياب هذه المسألة لدى أكثرنا ، هل هو زيف الحضارة المدنية الذي أبعدنا عن نقطة البداية الصحيحة ؟ ، أم هو التفريغ الثقافي من عقولنا وأرواحنا الذي سبّب الابتعاد التدريجي عن القرآن بوصفه دستور حياة ؟ أم كل هذه الأمور مجتمعة ؟ !
وإن كانت الأسرة هي المسؤول الأول فهي ليست الأخيرة ؛ فهناك المؤسسات الإعلامية بشتى صورها ، يعيش في وسطها الفرد ويتفاعل معها وتتفاعل معه ، قد يربّى عليها وقد ينهل منها الآداب والعلوم ، بل أصبحت لا تقل تأثيراً عن الأسرة في صياغة المفاهيم وتكوين الاتجاهات ، فهي بذاتها كافية لأن تكون محضناً مهمًا وعاملاً مؤثراً في إيجاد مثل هذه الغاية وأبعادها .
صور غياب هذه الفكرة في حياتنا :
وصور كثيرة من يومياتنا تشير إلى غياب هذه الفكرة من حياتنا ، مثلاً :
عدم صدق بعض الممتهنين للعملية التربوية في تحقيق الأهداف التربوية الإجرائية .
إننا بحاجة إلى فهم : أنّ الهدف العلمي ضرورة للوصول لغاية كبرى ؛ من أجلها خلقنا ، والتأكيد على هذه الفكرة يأتي من عدة أوجه :
العلم يهدي إلى الإيمان ، وقد رأينا كثيراً من العلماء الراسخين المنصفين
هداهم علمهم إلى أن وراء هذا الكون ذا قوة عليا يدبره ، وينظمه ، ويرعى كل شيء فيه ، وبميزان وحساب ومقدار ، ذلك أن العالم أقدر من غيره على استبانة ما في هذا الكون من ترابط وتناسق وإحكام.
بعد ذلك : ما حجم هذه الفكرة في عقل المسلم أو المسلمة خصوصاً .
إن التاريخ الإسلامي لا يبخل علينا بنماذج وشواهد تؤكّد على اهـتمام أهله بمثل هذا الفهم ، فهم يسعون للعلم حتى الرمق الأخير من حياتهم .
(فلنوازن بين ذوي تلك الغايات وأضدادهم من طلاب وطالبات جامعاتنا اليوم ، الذين يدرسون فيها أربع سنوات ، فبعضهم يدرسون دراسة ضعيفة فرديّة ، لا حضور ولا استماع ولا مناقشة ولا اقتناع ، ولا تطاعم في الأخلاق ، ولا تأسّي ، ولا تصحيح للأخطاء ، ولا تصويب ولا تشذيب للمسلك ، وَيَتَسَقّطُون المباحث المظنونة السؤال من مقرراتهم المختصرة ، ثم يسعون إلى تلخيص تلك المقررات ،
ثم يسعون إلى إسقاط البحوث غير المهمة من المقررات ، بتلطفهم وتملقهم لبعض الأساتذة ، فيجدون لدى بعضهم ما يسرّهم وإن كان يضرهم ، وبذلك يفرحون).
ما رأي الفتاة المسلمة ؟ :
وأتساءل الآن : أين هي الفتاة المسلمة ؟ .. إنّ ما تهتم به الفتاة اليوم بعيد جدّاً
عن مثل هذه الأمور ! .
هل الخلل يعود إلى فهمها لطبيعة الهدف ؟ ! ! أم الخلل في ضعف إيمانها بضرورة هدف تحيا لأجله ؟ أم لعدم إدراكها أبعاد تلك الفكرة ؟ أم لسطحية ثقافتها التي أصبحت شكلاً من الأشكال غير المستهجنة اجتماعيًّا ؟ أم إنه المجتمع الذي يطالبها بأن تنصرف لاهتمامات ضيّقة ؟ أم لعدم عناية المناهج الدراسية بهذه الفكرة والتركيز عليها ؟ أم لفقداننا رعاية الفتاة المتعلمة ثقافيّاً واجتماعيًّا على المستويات
الرسمية والمؤسسات التربوية والتثقيفية ؟ أم لعدم بناء والديها لها بناءً يقوم على تصور صحيح لدورها في هذا المجتمع ؟ .
إنّ هذه الأسباب مجتمعة تؤدي إلى ما نعاني منه الآن ، نعم هناك معاناة نسائية غير مرئية الأسباب نرى آثارها من جرّاء غياب هذا الوعي على أصعدة عدة ؛ على صعيد الأمة الإسلامية عموماً : على صعيد الزوج ، الطفل ، محيطها الاجتماعي ، وظائفها التعليمية التربوية خصوصاً .
نعم .. إنها مسألة محسوسة برياضيات العلم ومعادلاته .فإنسان دون غايات كبرى ، قوية ، صحيحة الجذور ، سليمة التصورات ، مفهومة الأبعاد ، هو إنسان خامل عقليّاً ؛ نتيجة ضمور الهدف العلمي لديه ، الأمر الذي يترتب عليه انصرافه عن أمور جليلة إلى اهتمامات ضعيفة … وبعد أن تصبح المرأة ذات مسؤولية : لا نملك إلا أن نعظم لها المسميّات ونضخم المصطلحات اللصيقة بطبيعة وظيفتها داخل البيت .. فهي المربية ، والمعلمة ، وإن لم تأخذ منهما سوى مسمياتهما ، وهي صاحبة الرسالة ، وصانعة الأجيال ، والله أعلم بتكوينها ومستوى تركيبها الروحي والفكري … وإن أصبنا كبد الحقيقة ، فهي
منصرفة بما يشبه الكلية عن خصائص لصيقة بالتربية وشؤون قريبة من التوجيه والبناء . وهذا الحكم لم يتأتّ من فراغ ؛ فمن يطالع ما يقدم للمرأة شكلاً ومضموناً من أدب وفكر .. يستطيع إصدار حكم واضح عادل ليس بعيداً عما ذكرت .
نعم هناك صور مشرقة من نساء يصنعن أولادهن بأعينهن ، ويحرصن على تعلّم ما هو مفيد لجيل واعد مسلم ، ومع ذلك : يظل جانب من حياتها لم تُضأ مصابيحه بعد .. وهو تكوّن قناعات لديها بضرورة التنشيط العقلي والسعي العلمي ، وربط هذه الخدمات بغاية عظمى ، إننا نجمّد طاقات مدخرة ، ونحوّل طاقات من حالتها الحركية إلى حالتها الكامنة .. عندما نجعل من هذه الحقيقة الغائبة أمراً تكميليًا
أو ثانويّاً بالنسبة للمرأة ، فالآذان ما زالت تسمع من يقول : جميل أن تتعلم المرأة ، لا بأس من تفوّق للمرأة ، أمر حسن أن تحصل على درجة علميّة … إنّ من الضرورة بمكان أن تستغل المرأة طاقاتها العقلية ، وتوظّفها بما يخدم نفسها وأمتها حتى تزكّي عما وُهبت إيّاه من عقل وفطنة وذكاء ، وحتى تحصّن
مجتمعها من خطر محدق به فيما لو لم تزاول دورها بشكل صحيح . إنّ ضمور عقل الفتاة الفكري أو العلمي لن يعود على مجتمعاتنا بالخير ، والنتائج التي يتمخض عنها هذا الضمور لا تعد ولا تحصى ، يكفي أن أذكر منها :
اختلال كفتي ميزان المجتمع ثقافيّا وعلميّاً (فوارق فكرية كبيرة بين الجنسين المتزوجين) .
خلل في البناء الداخلي للأجيال القادمة .
وأخيراً : فإن صرح الحضارة الإسلامية الجديد ما زال بحاجة إليه وإليها ؛
لكي يقفا على خط التجنيد لكل ما فيه خدمة الأمة جمعاء ؛ ليواجها معاً ، ويدافعا معاً . إنه بحاجة إلى الجيل المتعلم بفرعيه ، فثمّة برامج علميّة كبيرة تنتظرهم وهي في مسيس الحاجة إلى تآزر وجهود النوعين حتى يعمروا ويشيدوا ، وعلى نعم ربهم يشكروه .
وصدق الله العظيم القائل : (( وَاللَّهُ أََخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأََبْصَارَ وَالأََفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )) النحل : 78

بحث سريع