الركن السادس:الإيمان بالقدر خيره وشره

بواسطة | إدارة الموقع
2005/07/21
(1) ـ تعريف القدر وأهمية الإيمان به :
القدر : هو تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضت حكمته . وهو يرجع إلى قدرة الله ، وأنه على كل شيء قدير فعال لما يريد .
والإيمان به من الإيمان بربوبية الله سبحانه وتعالى ، وهو أحد أركان الإيمان التي لا يتم الإيمان إلا بها . قال تعالى : " إنا كل شيء خلقناه بقدر " .[سورة القمر:الآية 49] .
قال صلى الله عليه وسلم : ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ، أو الكيس والعجز)) [ رواه مسلم ] .
(2) مراتب القدر :
لا يتم الإيمان بالقدر إلا بتحقيق أربع مراتب هي :
أولاً : الإيمان بعلم الله الأزلي المحيط بكل شيء . قال تعالى :" ألم تعلم أن الله يعلم ما في السمآء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير " .[سورة الحج:الآية 70]
ثانياً : الإيمان بالكتابة في اللوح المحفوظ لما علم الله من المقادير . قال تعالى :" ما فرطنا في الكتاب من شيء " . [سورة الأنعام:الآية 38].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)) [ رواه مسلم ] .
ثالثاً : الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة . قال تعالى:" و ما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين " [سورة التكوير:الآية 29].
قال صلى الله عليه وسلم لمن قال له ما شاء الله وشئت : ((أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده)) [ رواه أحمد] .
رابعاً : الإيمان بأن الله خالق كل شيء . قال تعالى:" الله خالق كل شيء و هو على كل شيء وكيل "[سورة الزمر:الآية 62].
وقال تعالى: " والله خلقكم وما تعملون "[سورة الصافات:الآية 96].
وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يصنع كل صانع وصنعته)) [ رواه البخاري ] .
(3) أقسام التقدير :
أ ـ التقدير العام لجميع الكائنات ، وهو الذي كتب في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
ب ـ التقدير العمري ، وهو تقدير كل ما يجرى على العبد من نفخ الروح فيه إلى نهاية أجله .
ج ـ التقدير السنوي ، وهو تقدير ما يجري كل سنة ، وذلك ليلة القدر من كل سنة . قال تعالى : فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [سورة الدخان:الآية 4] .
د ـ التقدير اليومي ، وهو تقدير ما يجري كل يوم من عز وذل وعطاء ومنع وإحياء وإماتة وغير ذلك . قال تعالى: يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [سورة الرحمن:الآية 29].
(4) عقيدة السلف في القدر :
أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ، قد قَدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم ، قدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ما يصيرون إليه من سعادة أو شقاوة، فكل شيء أحصاه في إمام مبين. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، وهو قادر على كل شيء يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وأن للعباد مشيئة وقدرة يفعلون بها ما أقدرهم الله عليه مع اعتقادهم أن العباد لا يشاءون إلا أن يشاء الله . قال تعالى: وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [سورة العنكبوت:الآية 69] .
وأن الله تعالى خالق للعباد وأفعالهم وهم فاعلون لها حقيقة ، فلا حجة لأحد على الله في واجب تركه ولا محرم فعله ، بل له الحجة البالغة على العباد ، ويجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب والذنوب . كما قال صلى الله عليه وسلم في محاجة موسى لآدم : (( تحاج آدم وموسى ، فقال موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة، فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ثم تلومني على أمر قد قُدّر عليّ قبل أن أخلق فحج آدمُ موسى)) [ رواه مسلم ] .
(5) أفعال العباد :
الأفعال التي يخلقها الله تعالى في الكون تنقسم إلى قسمين :
الأول : ما يجريه الله تبارك وتعالى من أفعاله في مخلوقاته ، فليس لأحد فيها مشيئة واختيار ، وإنما المشيئة لله ، مثل الإحياء والإماتة والمرض والصحة .
قال تعالى : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [سورة الصافات:الآية 96] .
وقال تعالى : الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [سورة الملك:الآية 2]. الثاني : ما تفعله الخلائق كلها من ذوات الإرادة ، فهذه تكون باختيار فاعليها وإرادتهم ؛ لأن الله جعل ذلك إليهم ، قال تعالى : لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ [سورة التكوير:الآية 28]. وقال تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً [سورة الكهف:الآية 29]. فهم يُحمدون على المحمود منها ويذمون على المذموم ، والله لا يعاقب إلا على أمر فيه اختيار للعبد، كما قال تعالى : مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [سورة ق:الآية 29]. والإنسان يعرف الفرق بين الاختيار والاضطرار ، فينـزل من السطح بالسلم نزولاً اختيارياً، وقد يسقطه غيره من السطح ، فالأول اختيار والثاني إجبار.
(6) الجمع بين خلق الله وفعل العبد :
الله خلق العبد وخلق أفعاله ، وجعل له إرادة وقدرة ، فالعبد فاعل حقيقة لفعله مباشر له ؛ لأن له إرادة وقدرة ، فإذا آمن فهو بمشيئته وإرادته ، وإذا كفر فهو كافر بمشيئة وإرادته التامة، كما إذا قلنا : هذه الثمرة من هذه الشجرة ، وهذا الزرع من هذه الأرض ، بمعنى أنه حدث منها ، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها لم يكن بينهما تناقض، وبهذا يتفق شرع الله وقدره .
قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [سورة الصافات:الآية 96] .
وقال تعالى : فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى{9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:الآيات 5-10]
(7) الواجب على العبد في القدر :
يجب على العبد في القدر أمران :
الأول : أن يستعين بالله في فعل المقدور واجتناب المحذور ، وأن يدعوه بأن ييسره لليسرى ويجنبه العسرى ، ويتوكل عليه ويستعيذ به ، فيكون مفتقراً إليه في جلب الخير وترك الشر. قال صلى الله عليه وسلم : ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) .
الثاني : عليه أن يصبر على المقدور فلا يجزع ، فيعلم أن ذلك من عند الله فيرضى ويسلم ، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه . قال صلى الله عليه وسلم : (( وأعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك)).
(8) الرضا بالقضاء والقدر :
ينبغي الرضا بالقدر ؛ لأنه من تمام الرضا بربوبية الله ، فينبغي لكل مؤمن أن يرضى بقضاء الله ؛ لأن فعل الله وقضاءه خير كلّه وعدل وحكمة ، فمن اطمأنت نفسه إلى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه خلت نفسه من الحيرة والتردد ، وانتفى من حياته القلق والاضطراب ، فلا يحزن على ما فاته ، ولا يتهيب من مستقبله ، ويكون بذلك أسعد الناس حالاً وأطيبهم نفساً وأهدأهم بالاً، فمن عرف أن أجله محدود ورزقه معدود فلا الجبن يزيد في عمره، ولا الشح يزيد في رزقه ، فالكل مكتوب صبر على ما أصابه من المصائب واستغفر لما فعله من الذنوب والمعائب ، ورضي بما قدره الله ، فيجمع بين طاعة الأمر والصبر على المصائب .
قال تعالى : مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة التغابن:الآية 11]
وقال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [سورة غافر:الآية 55].
(9) الهداية نوعان :
الأولى : هداية دلالة على الحق وإرشاد ، وهي لجميع الخلق ، وهي التي يقدر عليها الرسل وأتباعهم . قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:الآية 52]
الثانية : هداية توفيق وتثبيت من الله منّة منه وفضلاً لعباده المتقين ، وهي التي لا يقدر عـليـها إلا الله . قال تعالى : إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [سورة القصص:الآية 56].
(10) الإرادة في كتاب الله نوعان :
الأولى : إرادة كونية قدرية ، وهي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن . وهي تستلزم وقوع المراد ، ولا تستلزم المحبة والرضى إلا إذا تعلقت بها الإرادة الشرعية . قال تعالى : فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:الآية 125].
الثانية : الإرادة الدينية الشرعية ، وهي محبة المراد وأهله والرضا عنهم ، ولا تستلزم وقوع المراد إلا إذا تعلقت بها الإرادة الكونية . قال تعالى : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:الآية 185].
والإرادة الكونية أعم مطلقاً لأن كل مراد شرعي وقع فهو مراد كوناً ، وليس كل مراد كوني وقع مراداً في الشرع ، فإيمان أبي بكر رضي الله عنه مثلاً تحقق فيه الإرادتان ، وما تحققت فيه الإرادة الكونية فقط مثلاً كفر أبي جهل ، وما لم يتحقق فيه الإرادة الكونية وإن كان يراد شرعاً إيمان أبي جهل . فالله وإن كان يريد المعاصي قدراً ويشاؤها كوناً فهو لا يرضاها ديناً ولا يحبها ولا يأمر بها ، بل يبغضها ويكرهها وينهي عنها ويتوعد فاعلها ، وكل ذلك من قدره.
وأما الطاعات والإيمان فإنه سبحانه يحبها ويأمر بها ويعد صاحبها بالثواب والجزاء الحسن ، فهو سبحانه لا يعصى بغير إرادته ، ولا يقع إلا ما يريد قال تعالى: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة الزمر:الآية 7].
وقال سبحانه: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [سورة البقرة:الآية 205].
(11) الأسباب التي تدفع القدر :
جعل الله لهذه المقادير أسباباً تدفعها وترفعها من الدعاء والصدقة والأدوية وأخذ الحذر واستعمال الحزم ، إذ لكل من قضاء الله وقدره حتى العجز والكيس .
(12) مسألة القدر سر الله في خلقه :
القول بأن القدر سر الله في خلقه محصور في الجانب الخفي من القدر ، فحقائق الأشياء لا يعلمها إلا الله ، ولا يطلع عليها البشر ، مثل أن الله أضل وهدى وأمات وأحيا ومنع وأعطى . كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا ذكر القدر فأمسكوا)) [ رواه مسلم ] .
أما جوانب القدر الأخرى وحكمه العظيمة ومراتبه ودرجاته وآثاره ، فهذه يجوز بيانها للناس ومعرفتها ؛ لأن القدر أحد أركان الإيمان التي ينبغي تعلمها ومعرفتها . كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر أركان الإيمان لجبريل عليه السلام : قال : (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) [ رواه مسلم ] .
(13) الاحتجاج بالقدر :
علم الله تعالى السابق بما سيكون غيب لا يعلمه إلا هو ، مجهول للمكلفين، فلا حجة لأحد فيه ، ولا يجوز ترك العمل اتكالاً على ما سبق به القضاء ، فالقدر ليس حجة لأحد على الله ولا على خلقه ، ولو جاز لأحد أن يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات لم يُعاقب ظالم ، ولم يُقتل مشرك، ولم يُقم حدّ ، ولم يُكف أحد عن ظلم وهذا من الفساد في الدين والدنيا المعلوم ضرره .
ونقول لمن يحتج بالقدر ليس عندك علم متيقن أنك من أصحاب الجنة أو النار ، ولو كان عندك علم لما أمرناك ولا نهيناك ، ولكن اعمل وعسى الله أن يوفقك لأن تكون من أصحاب الجنة .
قال بعض الصحابة لما سمع أحاديث القدر : ما كنت بأشد اجتهاد منى الآن . قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن احتجاج بالقدر : اعملوا فكل ميسر لما خلق له فمن كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة ، ثم قرأ : فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5 {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6}فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى{9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:الآيات 5-10].
(14) الأخذ بالأسباب :
ما يعرض للعبد أمران ، أمر فيه حيلة فلا يعجز عنه ، وأمر لا حيلة فيه فلا يجزع منه ، فالله سبحانه وتعالى يعلم بالمصائب قبل وقوعها ، وعلمه بها ليس هو الذي أوقع المصاب في المصيبة ، وإنما وقعت بالأسباب المترتبة على وقوعها ، فإن كان وقوعها بسبب تقصير من الشخص بإهمال الأسباب والوسائل التي تقيه من الوقوع فيها ويأمره دينه باستعمالها فانه ملام على تقصيره في حماية نفسه وعدم استعماله للأسباب الطبيعية التي تحفظه ، وإن كان لا طاقة له في دفع هذه المصيبة فإنه معذور .
فالأخذ بالأسباب لا ينافي القدر والتوكل بل هو جزء منه ، ولكن إذا وقع القدر وجب الرضا به والتسليم له ، ويلجأ إلى قوله : " قدّر الله وما شاء فعل " وأما قبل أن يقع فإن سبيل المكلف هو الأخذ بالأسباب المشروعة ومدافعة الأقدار بالأقدار ، فالأنبياء أخذوا بالأسباب والوسائل التي تحفظهم من عدوهم مع أنهم مؤيدون بالوحي والحفظ من الله ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين يأخذ بالأسباب مع قوة توكله على ربه .
قال تعالى : وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ سورة الأنفال:الآية 60].
وقال تعالى : هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [سورة الملك:الآية 15] .
قال صلى الله عليه وسلم : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ، ولكن قل قدر الله ما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان)) [ رواه مسلم ] .
(15) حكم من أنكر القدر :
من أنكر القدر فقد جحد أصلاً من أصول الشريعة وقد كفر بذلك . قال بعض السلف ـ رحمه الله ـ : ناظروا القدرية بالعلم ، فإن جحدوه كفروا، وإن أقروا به خصموا .
(16) ثمرات الإيمان بالقدر :
للإيمان بالقضاء والقدر ثمار طيبة وآثار حسنة ، تعود على الأمة والفرد بالصلاح فمنها :
أ ـ أنه يثمر أنواع العبادات الصالحة والصفات الحميدة ، كالإخلاص لله ، والتوكل عليه ، والخوف منه والرجاء وإحسان الظن به ، والصبر وقوة الاحتمال ، ومحاربة اليأس ، والرضا بالله ، وإفراد الله بالشكر والفرح بفضله ورحمته ، والتواضع لله عز وجل ، وترك الكبر والخيلاء ، ويثمر الإنفاق في أوجه الخير ثقة بالله ، والشجاعة والإقدام ، والقناعة وعزة النفس ، وعلو الهمة ، والحزم ، والجد في الأمور ، والاعتدال في السراء والضراء ، والسلامة من الحسد والاعتراض ، وتحرير العقول من الخرافات والأباطيل وراحة النفس وطمأنينته القلب .
ب ـ أن المؤمن بالقدر يمضي في حياته على منهج سوي ، فلا تبطره النعمة ، ولا ييأس بالمصيبة ، ويستيقن أن ما أصابه من ضراء فبتقدير الله ابتلاء ، فلا يجزع بل يصبر ويحتسب .
ج ـ أنه يحمي من أسباب الضلال وسوء الخاتمة إذ يثمر له المجاهدة الدائمة على الاستقامة والإكثار من الصالحات ، ومجانبة المعاصي والموبقات .
د ـ أنه يثمر للمؤمنين مواجهة المصاعب والأهوال بقلب ثابت ويقين تام مع فعل الأسباب .
قال صلى الله عليه وسلم : ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) [ رواه مسلم ] .



بحث سريع