تخريج حديث أنا مدينة العلم – 2

بواسطة | خليفة الكواري
2004/12/09

في هذا الجزء من البحث يعرض الباحث لروايات حديث :" انا مدينة العلم .. " ، و يتكلم عنها رواية رواية على وجه التسلسل ..
فحديث: ( أنا مـدينة العلم ، وعلي بابها ) ، قد روي عن أربعة من الصحابة وهم:
1- ابن عباس .
2- وعلي بن أبي طالب .
3- وجابر بن عبد الله .
4- و أبو سعيد الخدري
رضي الله عنهم أجمعين.

فأَمّا رواية ابن عباس – رضي الله عنهما -:
رواها الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
ورواها سعيد بن جبير عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
فأمّا رواية الأعمش فرواها:
أَََبو معاوية محمد بن خازم الضرير ، وعيسى بن يونس ، وأَبو الفَتح سعيد بن عقبة الكوفي.
فهذه ثلاث طرق ، ودونك التفصيل:
الأولى: طريق أبي معاوية محمد بن خازم الضرير ، عن الأعمش:
وقد روي عن أبي معاوية من وجوه عدة نذكرها:
الوجه الأول: عبد السلام بن صالح بن سليمان بن مَيْسَرة ، أبو الصلت ، الهروي.
أخرجه ابن محـرز في: ( مـعرفة الرجال )[1]، وابن عدي في: ( الكامل )[2]، والطبراني في: ( المعجم الكبير )[3]، من طريقين ، والحاكم في: ( الـمستدرك )[4]، والطبري في: ( تهذيب الآثار )[5]، والخطيب البغدادي في: ( تاريخـه )[6]، ومن طريق الخطيب ، ابن الجوزي في: ( الموضوعات )[7]، وابن المغازلي في: ( المناقب ) [8]، وأبو الخير الطالقاني في: ( كتاب الأربعين المنتقى ) [9]، والخوارزمي في: ( المناقب ) [10]، وفي: ( مقتل الحسين )[11]، عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح ، عن أبـي معاوية ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعاً: ( أَنا مدينة العلم ، وعلي بابها ، فمن أَرَادَ العلم ، فليأت بابه ).
أقـول: هذا إسناد معلول بعدة علل:
الأولى: تدليس الأعمش.
والأعمش معروف بكثرة التدليس ، وصفه به غير واحد من العلماء ، وقد جعله الحافظ ابن حـجر في الطبقة الثانية من طبقات كتابه: ( طبقات المدلسين )[12]، وحقه أن يكون في الطبقة الثالثة ، فإنّ الأعمش مكثرٌ من التدليس مشهورٌ به ، وربما أسقط الراوي الضعيف من بين الثقتين.
قال عثمان الدارمي: سـمعت يحيى ، وسئل عن الرجل يُلقي الرجل الضعيف من بين ثقتين ، يوصل الحديث ثقة عن ثقة ، ويقول: أنقص من الحديث وأصل ثقة عن ثقة يُحَسّن الحديث بذلك ؟ فقال: ( لا يفعل ، لعل الحديث عن كذّاب ليس بشيء ، فإذا هو قد حسّنه وثَبته ، ولكن يُحدّث به كما روي ).
قال عثمان الدارمي: وكان الأعمش ربما فَعَلَ ذلك.
[13]
قال الحافظ ابن حجر: ( ظاهر هذا تدليس التسوية ، وما علمت أحداً ذكر الأعمش بذلك فَيُسْتَفَاد ).[14]
أقـول: وهذا يؤكد ما قلته أن الأعمش من حقه أن يكون في الطبقة الثالثة.
وقال الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ: ( وربما لم يسقط المدلس اسم شيخه الذي حدثه لكنه يسقط ممن بعده في الإسناد رجلا ًيكون ضعيفاً في الرواية ، أو صغير السن ، ويحسن الحديث بذلك ، وكان سليمان الأعمش ، وسفيان الثوري ، وبقية بن الوليد ، يفعلون مثل هذا ).[15]
وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي: ( قد كره أهل العلم بالحديث مثل: شعبة وغيرهِ التدليسَ في الحديث ، وهو قبيحٌ ومهانةٌ ، والتدليس على ضربين: فإن كان تدليساً عن ثقةٍ،لم يحتج أن يوقف على شيءٍ ، وقُبل منه ، ومن كان يدلس عن غير ثقةٍ ،لم يُقبل منه الحديث إذا أرسله حتى يقول: حدثني فلان ، أو سـمعت ، فنحن نقبل تدليس ابن عيينة، ونظرائه لأنه يـحيل على ملئ ثقة ، ولا نقبل من الأعمش ، تدليسه لأنه يحيل على غير ملئ ، والأعمشُ إذا سألته عمن هذا ؟ قال: عن موسى بن طريف ، وعَباية بن ربعي، وابن عيينة إذا وقفته قال: عن ابن جريج ، ومعمر ونظرائهما فهذا الفرق بين التدليسين " [16] .
ولهذا نرى الإمام البخاري قد أعل خبراً يرويه الأعمش ، عن سالم ، مما يتعلق بالتشيع ، فقال: ( والأعمش لا يدرى ، سمع هذا من سالم أم لا ؟
حدثنا عبيد الله بن سعيد أبو قدامة ، عن أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش ، أنّه قال: نستغفر الله من أشياء كنا نرويها على وجه التعجب ، اتخذوها ديناً )[17].
ولا يشك أحد أن هذا الحديث يتعلق بالتشيع !!
وقال عبد الله بن نمير: سمعت الأعمش يقول: حدثت بأحاديث على التعجب ، فبلغني أن قوماً اتخذوها ديناً ، لا عُدتُ لشيء منها ).[18]
وقد جعل الحـافظ ابن حجر الأعـمش في الطـبقة الثـالثة من كتابه:
( النكت على ابن الصلاح )[19]، وبالطبع فهو مخالف لما في كتابه: ( طبقات المدليسين )، كما سبق ، ولعله لم يستحضر ما كتبه في كتابه: ( النكت ) ، أو حصل له بعض التردد ، فرأى أن بعض العلماء قد احتمل تدليسه ، وبعضهم توقف فيه ، ولعل ذلك وقع في شيوخه الذين أكثر عنهم الأعمش ، كما قال الحـافظ الذهبي:
( وهو يدلس ، وربما دلّس عن ضعيفٍ ، ولا يدرى به ، فمتى قال: حدّثنا ، فلا كلام ، ومتى قال: عن ، تطرق إليه احتمال التدليس إلاّ في شيوخ له أكثر عنهم: كإبراهيم ، وابن أبي وائل ، وأبي صالح السمّان ، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال ).[20]
وهاهو الحافظ ابن حجر نفسه قد أعل خبراً فيه عنعنة الأعمش ، مما يبين لك أن من يقبل عنعنة الأعمش مطلقاً قد خالف منهج العلماء ، قال الحافظ:
( وأصح ما ورد في ذم بيع العينة ما رواه أحمد والطبراني من طريق أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن عطاء ، عن ابن عمر قال: أتى علينا زمان…، صححه ابن القطان بعد أن أخرجه من الزهد لأحمد ، كأنه لم يقف على المسند ، وله طريق أخرى عند أبي داود أيضاً من طريق عطاء الخرساني ، عن نافع ، عن ابن عمر.
قلت: وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول ، لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً ، لأن الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء ).[21]

أقـول: ويتأكد تدليس الأعمش هنا ، ويشتد في هذا الخبر خاصّة لأنه عن مجاهد[22]، وهو مقل عنه ؛ وليس هو من شـيوخه الذين أكثر عـنهم ، وقد نـص ابن المديني ـ رحمه الله ـ، أن روايات الأعمش عن مجاهد لا تثبت منها إلاّ ما قال فيها: ( سمعت ) ، لأن أحاديث مجاهد عنده عن أبي يحيى القتات ، وأبو يحيى القتات ضعيف كما هو معروف.
قال يعقوب بن شيبة في: ( مـسنده ) : ليس يصح للأعمش عن مجاهد إلاّ أحاديث يسيرة ، قلت لعلي بن المديني: كم سمع الأعمش من مجاهد قال: ( لا يثبت منها إلاّ ما قال: سـمعت ، هي نـحو من عشرة ، وإنما أحاديث مجاهد عنده ، عن أبي يحيى القتات ).[23]
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه في أحاديث الأعمش ، عن مجاهد: ( قال أبو بكر بن عياش عنه: حدثنيه ليث ، عن مجاهد ).[24]
وليث ضعيف.
وقال يحيى بن سعيد: كتبت عن الأعمش أحاديث عن مجاهد كلها ملزقة لم يسمعها ).[25]
وقال يحيى بن مـعين: ( الأعمش سمع من مجاهد ، وكل شيء يرويه عنـه لم يسمع ، إنما مرسلة مُدلَسة ).[26]
وقال أبو حاتم الرازي: ( الأعمش قليل السماع من مجاهد، وعامة ما يرويه عن مجاهد مدلس ).[27]
فهذا هو كلام علماء الجرح والتعديل ، علماء العلل في تدليس الأعمش وخاصة في أحاديثه التي يرويها عن مجاهد ولم يصرح فيها بـالسماع ، أو التحديث.
ولذا فإنه يجب التثبت من هذا الخبر ، ولا بد من أن نقف على ما يرفع علة التدليس ، ولا يقال: إن الأعمش في الطبقة الثانية من طبقات المدلسين ، كما قال بعضهم فلا يضر تدليسه ، وقد عرفت ـ فيما سبق ـ أن من يقبل تدليسه على الإطلاق ، قد خالف منهج العلماء في ذلك ، كيف وقد نص العلماء على أن أحاديثه عن مجاهد عامتها مرسلة مُدَلّسَة إلاّ ما صرح فيها بالسماع ، وإنما أحاديث مجاهد عنده عن أبي يحيى القتات وليث بن أبي سليم .
وخاصة إن هذا الخبر مما يتعلق بالتشيع وقد سبق أنه كان يحدث الأحاديث على وجه التعجب اتخذها أقوامٌ ديناً .
فالأخبار التي تأتي عن الأعمش غير مصرحة منه بالسماع وكانت تلك الأخبار مما تتعلق بالتشيع فلا بد من التصريح بالسماع ، لما عرف عن الأعمش أنه كان يدلس عن الضعفاء والهلكى ، والله أعلم .

الثانية: تفرد أبي معاوية محمد بن خازم الضرير بهذا الخبر.
أقول: تَفَردُ أبي معاوية بهذا الخبر عن الأعمش مع وجود الحفاظ من
أصحاب الأعمش كيحيى القطان ، والثوري ، وشعبة ، وغيرهم يوقع الريبة في النفس من هذا الخبر ، وإن تابعه عيسى بن يونس ، وسعيد بن عقبة الكوفي ـ كما سيأتي ـ ، إلاّ أن في صحة الإسـناد إليهما نظر.

الثالثة: رجـوع أبي معاوية محمد بن خازم الضرير عن التحديث بـهذا الخبر.
روى ابن مـحرز عن يحيى بن مـعين ، أنه قال: ( أخبرني ابن نـمير ، قال: حـدّث بـه أبو مـعاوية قـديماً ، ثم كف عنه ).[28]
قال العلامـة المعلمي ـ رحمه الله ـ: ( ويتأكد وهن الخبر بأن من يثبته عن أبي معاوية يقول: إنه حدّث به قديماً ثم كـف عـنه ، فلو لا أنه علم وهنه لما كف عنه ).[29]
فهذه ثلاث علل تعل بها جميع الطرق أو الوجوه التي رويت عن أبـي معاوية عن الأعمش ، عن مـجاهد ، فضلاً عمّا في بعض هذه الطرق من الكذابين والوضاعين .
يتبع …
________________________
[1] معرفة الرجال للأمام أبي زكريا ابن معين ـ رواية ابن محرز ـ: ( 2 / 242 ).
[2] ( 5 / 67 ).
[3] ( 11 / 66 ).
[4] ( 3 / 126 )
[5] مسند علي بن أبي طالب: ( ص: 105 ).
[6] ( 11 / 48 ).
[7] ( 1 / 351 ).
[8] المناقب: ( رقم: 121 ، 123 ، 124 ).
[9] ( رقم: 30 ) ، من طريق الحاكم في: ( تاريخ نيسابور ) ، فيما يظهر لي ، والله أعلم.
[10] ( رقم: 69 ).
[11] ( رقم: 24 ).
[12] تعريف أهل التقديس: ( رقم: 55 ).
[13] تاريخ عثمان الدارمي: ( رقم: 952 ).
[14] اللسان: ( 1 / 12 ).
[15] الكفاية: ( ص: 364 ).
[16] الكفاية: ( ص: 362 ).
[17] التاريخ الأوسط: ( 1 / 255 ـ 256 ) ، ذكره العلامة المعلمي ـ يرحمه الله ـ في حاشيته على الفوائد المجموعة: ( ص: 351 ).
[18] العلل ومعرفة الرجال : ( 1 / 411 ).
[19] ( 2 / 640 ).
[20] الميزان: ( 2 / 224 ).
[21] التلخيص: ( 3 / 21 ).
[22] كما ذكر ذلك المعلمي ـ يرحمه الله ـ ، في حاشيته على الفوائد المجموعة ، للشوكاني: ( ص: 351 ).
[23] تهذيب التهذيب: ( 4 / 197 ).
[24] تهذيب التهذيب: ( 4 / 197 ).
[25] مقدمة الجرح والتعديل: ( ص: 241 ).
[26] رواية ابن طهمان: ( رقم: 59 ).
[27] العلل: ( 2 / 210 ).
[28] معرفة الرجال ـ رواية ابن محرز ـ: ( 1 / 79 ).
[29] في حاشيته على الفوائد المجموعة ، للشوكاني: ( ص: 352 ).

بحث سريع