إن هذا نعل قرشي !

بواسطة | محمد الصمداني
2005/07/30
من الأحاديث المشهورة في أحاديث الفتن قول النبي صلى الله عليه وسلم :" …و يوشك أن تمر المرأة بالنعل ، فتقول : إن هذا نعل قرشي " . و قد استدل بعض الجهال بهذه الجملة النبوية الشريفة على انقراض قريش و عدم وجود بقية لأحد منهم ، و سحب هذا القول على جميع القرشيين ، فلا وجود عنده للطالبية ، ولا العباسية و لا بقية قريش ..!!
و هذه الشبهة شبهة داحضة ، لا قدر لها عند أهل العلم الراسخين ، و إنما يقول بها من جهل مقاصد كلامه عليه الصلاة والسلام ، و لم يفهم مرامي كلامه ومعانيه .
و اعلم أخي أنني كنتُ أظن أن هذه الشبهة لا توجد إلا عند بعض جهلة العوام من أصحاب الشبر الأول في العلم و أبجدية الحرف ، الذين يوافقون أقوال الشعوبية و العجم دون قصد أو فهم لمعنى ما يقولون – و هؤلاء ممن لا يشتغل الانسان بهم و يضيع زمانه بالرد عليهم و لا كرامة – ، و لكني سمعتُ من بعض إخواننا من ثقات النسابين أنه سمع كلاماً في هذا المعنى عند بعضهم – غفر الله لهم – يفهم منه تلك الشبهة الخبيثة ، و أصبح الأمر عنده من محال النظر و التأمل و الشك و الريبة !!
ما صحة ذلك الحديث و ما وجه الاستدلال الصحيح به عند هؤلاء ؟ و كيف يجاب عنه شرعاً ؟ و ذيول هذه المسألة … هذا ما سأديرُ عليه سطور مقالي !
صحة حديث ( إنّ هذا نعل قرشي ) :
أما صحته ، فهو حديث صحيحٌ ، رواه الإمام أحمد في المسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أسرع قبائل العرب فناءاً قريش ، و يوشك أن تمر المرأة بالنعل ، فتقول : إن هذا نعل قرشي " [1].
و قد فسَّرَ هذا الحديث و أبان معناه ما رواه أحمد في المسند عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول :" يا عائشة ، قومك أسرع أمتي بي لحاقاً ! " . قالت : يا رسول الله ، جعلني الله فداءك ، لقد دخلت وأنت تقول كلاماً ذعرني ! . قال :" ما هو ؟ " . قالت : تزعم أن قومي أسرع أمتك بك لحاقاً ! . قال :" نعم " . قالت : ومم ذاك ؟ قال :" تستحليهم المنايا ، وتنفس عليهم أمتهم " قالت : فقلت : فكيف الناس بعد ذلك ، أو عند ذلك ؟ ! قال :" دَبَى ، يأكل شداده ضعافه ، حتى تقوم عليهم الساعة " [2]. الدبى – مقصور – ، و هو : الجراد قبل أن يطير . وقيل : هو نوعٌ يشبه الجراد ، و احده " دباة "[3] .
و في رواية عن عائشة أيضاً بلفظ :" يا عائشة إن أول من يهلك من الناس قومكِ ! قالت : جعلني الله فداك ، أبني تيم ؟ قال : " لا ، ولكن هذا الحي من قريش ، تستحليهم المنايا و تنفس عنهم ، أولُ الناس هلاكاً ! " قلتُ : فما بقاء الناس بعدهم ؟ قال :" هم صلبُ الناس ، فإذا هلكوا ، هلك الناس " . خرجه أحمد في المسند قال : ثنا موسى بن داود قال : ثنا عبدالله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها . قال الألباني رحمه الله :" و عبدالله هذا ضعيف ، وبقية رجاله ثقات رجال مسلم " [4] .
ليس معنى الأحاديث المتقدمة في فناء قريش عدم وجود أحد ينتسب إلى قريش على وجه الصحة في العصور المتأخرة ، فإن الواقع يكذب ذلك ، و لازلنا نشهد صحة انتساب فئام كثير من الطالبية إلى قريش ، فما بالك ببقية قريش ! .
نعم ، قد لا تشتهر نسبتهم أنهم من قريش ، لكن لهم وجود ، علم ذلك من علمه وجهله من جهله ! و يكون المراد بتلك الأحاديث – والله أعلم – أن النبي صلى الله عليه وسلم اخبر عن فناء أمرهم و اجتماع الناس عليهم ، و ليس المراد بها التعرض لبقاء عقبهم ووجود نسلهم إلى آخرالزمان.
و يؤيد ذلك أنه قال في الحديث :" أسرع قبائل العرب … " ، فدل على أن بقية قبائل العرب ستفنى ، ولكن بعد قريش ، وليس في ذلك دلالة على عدم بقاء احد من العرب في العصور المتأخرة ؟! و لا يقول بهذا إلا من كان فيه أثر من آثار الشعوبية . و لازال أهل العلم يقررون منذ القرون الأولى إلى هلم جرَّا في عقائدهم : تفضيل بني هاشم ، و قريش ، و العرب على غيرهم ، و اعتقاد أنهم أجناس فاضلة .. و هم لا يقررون ما لا وجود له أو لا فائدة منه .
و لهذا لما تكلم الحافظ ابن حجر عن اشتراط شرط القرشية في " الإمامة " ، قال عن أشراف الحجاز و سادة اليمن :" … فإن بالبلاد اليمنية ، و هي النجود منها ، طائفة من ذرية الحسن بن علي لم تزل مملكة تلك البلاد معهم من أواخر المائة الثالثة ، و أما من بالحجاز من ذرية الحسن بن علي ، و هم أمراء مكة – يعني : ذرية محمد أبي نمي الأول – ، وأمراء ينبع ، و من ذرية الحسين بن علي و هم أمراء المدينة ، فإنهم ، و إن كانوا من صميم قريش ، لكنهم تحت حكم غيرهم من ملوك الديار المصرية … " أهـ.
ثم قال رحمة الله عليه : " قلتُ : الذي في مصر لاشك في كونه قرشياً ، لأنه من ذرية العباس . والذي في صعدة وغيرها من اليمن لاشك في كونه قرشيا ، لأنه من ذرية الحسن بن علي …" أهـ [5] .
و لو أخذنا في تتبع كلام العلماء و الشراح في هذا الباب لخرجنا عن أصل المقال .. !
الجمع بين روايات الحديث واجب
إنَّ روايات الحديث وقصته تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم عن ذهاب أمر العصبية عن قريش ، و أن اجتماع الناس عليها كما كان في صدر الاسلام لا يكون ، و بين السبب في ذلك ، و ذكر عليه الصلاة والسلام " استحلاء المنايا لهم " ، و المراد بـ" استحلاء المنايا " – و الله أعلم – : أن طلبهم للملك والإمرة و بقية شؤون الدنيا يهونُ في عيونهم الموت ، فيقتحمون موارد الهلاك و الفناء بالاقتتال على الدنيا و رئاستها ، فإذا فعلوا ذلك " هلك الناس " – كما أخبر عليه الصلاة والسلام – و ليس المراد بهلاك الناس أنهم يموتون جميعاً و تنقطع أعقابهم و أنسابهم ، فإن فهم هذا من الحديث نوعٌ من الاستهزاء و الاستنقاص لمعاني كلامه عليه الصلاة والسلام ، و هو مدفوعٌ عن كلامه و قوله عليه الصلاة والسلام ، " و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " .
و يكون مراده بهلاكهم – والله أعلم – عدم انتظام الأمر لأي طائفة و جماعة بعد قريش ، و هذا هو الواقع في أحداث تاريخ الأمة المحمدية .
و مما يؤيد عدم إرادة النبي صلى الله عليه وسلم الحديث عن انقطاع الأعقاب أو اندثار الأنساب ، ما قاله لعائشة :" يا عائشة إن أول من يهلك من الناس قومكِ ! " فقالت رضي الله عنها –و كأنها فهمت أن المراد هلاك رهطها من بني تيم دون بقية قريش ! – : جعلني الله فداك ، أبني تيم ؟ قال عليه السلام : " لا ، ولكن هذا الحي من قريش ، تستحليهم المنايا و تنفس عنهم ، أولُ الناس هلاكاً ! " فالنبي صلى الله عليه وسلم نفى إرادة هلاك الذراري وانقطاع الأعقاب ، و بين مراده من ذلك ، فقال :" و لكن هذا الحي من قريش تستحليهم المنايا و تنفس عنهم ، أولُ الناس هلاكاً "
و النبي صلى الله عليه وسلم قال – على وجه الإخبار – : إن المرأة تقول :" إن هذا نعلُ قرشي ! " ، فهو يخبرُ عن قول المرأة لا عن قوله هو صلى الله عليه وسلم ، و قد أطلعه الله عز و جل أن من النساء من ستقول في زمن قادم :" إنَّ هذا نعلُ قرشي " ، و هذا إخبارٌ عن أمر قدري سيقع في الأجيال القادمة ، و ليس هو مما يفيد حكماً كتلك الشبهة الداحضة ، و غاية ما فيه بيان العبرة و الاستفادة مما جرى لقريش في صدر الاسلام من اقتتالها و افتتانها بطلب الملك و الإمارة والحروب و إراقة الدماء ، و قد استفاد من هذا التحذير النبوي أقوامٌ و فئامٌ كثيرون من قريش ، فكانوا ممن اعتزل الفتن و نأى بنفسه عنها .
فالحديث كما هو واضح لمن تأمله خرجَ مخرج بيان الأمثال المضروبة ، التي ستجد في الناس ، و الخلاف معروف عند الأصوليين هل تؤخذ الأحكام الشرعية من الأمثال المضروبة أم لا ؟ و حتى لو قيل بجواز أخذ الأحكام التكليفية من الأمثال ، فإن تلك الشبهة لا تستفاد من هذا الحديث !
وكما وقع أولئك في القول بتلك الشبهة ، فقد أفرط آخرون فتلمسوا الاستدلال على كثرة قريش و آل البيت من طرق متنوعة ، فمنهم من استشهد بحديث الصلاة الابراهيمية في التشهد ، و فيه قوله صلى الله عليه وسلم :" … اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد … " . فقال : " البركة تقتضي كثرة العدد " [6] ! .
وهذه مقدمة غير صحيحة ، فإن البركة لا تقتضي كثرة العدد دائماً ، و لا يظهر أن هذا مراداً في الحديث ، و لم نجد أحداً من الشراح ينص عليه ، فقد يكون الشيء مباركاً و هو واحد ، أو قليل كما في قوله تعالى في عيسى عليه الصلاة والسلام :" وجعلني مباركاً أينما كنت " . و لهذا نهى الله نبيه عن أن يعجب بكثرة أموال و أولاد الكافرين والمنافقين كما في آيتين من سورة التوبة ، و كانت تلك الكثرة سبباً لعذاب النفس وشقاء العمل :" إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم و هو كافرون " .
و يكون دعاؤه لآل محمد في الصلاة الابراهيمية بالبركة مراداً به : طلب الخير لهم ، و دوامه و زيادته دون الالتفات إلى كثرتهم أو قلتهم ! و هذا الدعاء قد يتحقق إذا وجدت شروطه ، وقد لا يتحقق إذا وجدت موانعه .
تذييلٌ لابد منه
لقد ذكر أهل العلم أن عدد آل البيت كثير منذ القديم ، و استدل بعضهم ببعض الآثار والأدلة الواردة في هذا الشأن . و من أولئك ابن حجر الهيتمي فقد بوب باباً في الصواعق المحرقة عنون له بقوله :" باب دعآئه صلى الله عليه وسلم بالبركة في هذا النسل الكريم " [7] ؛ وسبقه إلى ذلك السمهودي في " جواهر العقدين " [8].
وتنحصر أدلة من يستدل على ذلك – والله أعلم – في وجهين :
الأول : في دعآئه صلى الله عليه وسلم بالبركة في نسل علي وفاطمة رضي الله عنهما .
الثاني : أدلة عامة ، استنبط منها البعض نوعاً من الدلالة على كثرة عقب علي من فاطمة .
و ليس آل البيت ممن اختص بالإخبارعن قلتهم أو كثرتهم ، بل قد ورد النص بذلك في بعض الأجناس الفاضلة مثل الأنصار ، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة في مرض موته كما رواه البخاري في الصحيح :" وعليه ملحفة متعطفاً بها على منكبيه ، وعليه عصابة دسماء ، حتى جلس على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد أيها الناس إن الناس يكثرون ، وتقل الأنصار ، حتى يكونوا كالملح في الطعام ، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه ، فليقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم " [9].
قال الحافظ في شرح الحديث المتقدم :" … وفيه إشارة إلى دخول قبائل العرب والعجم في الاسلام ، وهم أضعاف اضعاف قبيلة الأنصار ، فمهما فرض في الأنصار من الكثرة كالتناسل ، فرض في كل طائفة من أولئك ، فهم أبداً بالنسبة إلى غيرهم قليل . ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم اطلع على أنهم يقلون مطلقاً فاخبر بذلك ، فكان كما اخبر ، لأن الموجودين الان من ذرية علي بن أبي طالب ممن يتحقق نسبه إليه أضعاف من يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج ممن يتحقق نسبه ، وقس على ذلك ، و لا التفات إلى كثرة من يدعي أنه منهم – الأنصار – بغير برهان … " أهـ [10].
و قد يستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم :" … حتى يكونوا كالملح في الطعام … " ، وفي لفظ :" بمنزلة الملح في الطعام … " على بقاء من ينتسب إلى الأنصار على وجه الصحة ، لأنه :" جعل غاية قلتهم الانتهاء إلى ذلك ، والملح بالنسبة إلى جملة الطعام جزء يسير منه ، والمراد بذلك المعتدل " .أهـ[11] . و هذا الاستدلال محل بحث كما تقدم .
الوجه الأول : الأدلة الخاصة .
ورد في حديث زواج علي من فاطمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهما ، فقال لفاطمة :"اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " ؛ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم :" اللهم إني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم " ، ثم قال :" ادخل على أهلك بسم الله والبركة " . رواه الطبراني وابن حبان وغيرهما . قال الهيثمي :" و فيه يحيى بن يعلى الأسلمي ، وهو ضعيف " [12] .
و روى النسآئي في " السنن " في قصة زواج علي من فاطمة من حديث بريدة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :" اللهم بارك فيهما ، وبارك عليهما ، وبارك لهما في شملهما " . وخرج الحديث الدولابي في الذرية الطاهرة بلفظ:" شبليهما " [13] . قال المحب الطبري :" إن صحَّ ، فله معنى مستقيم ، و الظاهر أنه تصحيف " . أهـ [14].
و عند الطبراني و البزار :" اللهم بارك فيهما ، و بارك لهما في بنائهما " [15].
و رُوي بإسناد تالف لا يحتج به من حديث أنس بن مالك في قصة تزويج فاطمة من علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" جمع الله شملكما ، وأسعد جدكما ، وبارك عليكما ، وأخرج منكما كثيراً طيباً " . قال أنس : " فوالله ! لقد أخرج الله منهما الكثير الطيب " [16].
دعاء النبي عليه السلام لأنس بن مالك
و مما يبين أثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ما دعا به لأنس رضي الله عنه من طول العمر وكثرة المال و الولد ، فاستجاب الله دعوته . روى أنس رضي الله عنه قال : انطلقت بي أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! خويدمك ! فادع الله له . فقال صلى الله عليه وسلم :" اللهم أكثر ماله ، و ولده ، و أطل عمره ، و اغفر له " . قال أنس : فكثر مالي ، وطال عمري حتى قد استحييت من أهلي ، وأينعت ثماري …" رواه أبو يعلى .
و عند البخاري في " الأدب المفرد" :" فدعا لي بثلاث ، فدفنت مائة وثلاثة ، وإن ثمرتي لتطعم في السنة مرتين ، و طالت حياتي حتى استحييت من الناس ، و أرجو المغفرة " . و ترجم له البخاري عنده بقوله :" باب من دعا بطول العمر " .
و أصل الحديث عند البخاري في الصحيح ، و ترجم له هناك بقوله :" باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر و بكثرة ماله " وساق فيه الحديث بلفظ :" اللهم أكثر ماله و ولده ، و بارك له فيما أعطيته " [17]. و بوب البخاري لحديث أنس أيضاً بقوله :" باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة " ؛ و بقوله :" الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة " [18]. و قال الحافظ في الفتح :" … فوقع عند مسلم في آخر هذا الحديث من طريق اسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس " قال أنس :" فوالله إن مالي لكثير ، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم " . ووقع في البخاري في كتاب الطب من قول أنس :" أخبرتني ابنتي أمينة أنه دفن من صلبي إلى يوم مقدم الحجاج البصرة -سنة 75هـ- مائة وعشرون " . قال النووي في ترجمة أنس :" كان أكثر الصحابة أولاداً " . وقال ابن قتيبة في " المعارف " :" كان بالبصرة ثلاثة ما ماتوا حتى رأى كل واحد منهم من ولده مائة ذكر لصلبه : أبو بكرة ، وأنس ، وخليفة بن بدر " ، وزاد غيره رابعاً ، وهو المهلب بن أبي صفرة . " أهـ [19].
ولما وقع الطاعون الجارف سنة 96 هـ هلك به في ثلاثة أيام سبعون ألفاً ، مات فيه لأنس ثمانون ولداً [20]. وكان رضي الله عنه اذا طاف بالبيت طاف معه اكثر من سبعين نفساً من نسله [21].
فآئدة :
قال الداودي عن حديث أنس المتقدم :" هذا يدل على بطلان الحديث الذي ورد :" اللهم من آمن بي وصدق ما جئت به ، فاقلل له من المال والولد "الحديث ؛ وكيف يصح ذلك ، وهو صلى الله عليه وسلم يحض على النكاح والتماس الولد " . قال الحافظ متعقباً له :" قلت : لا منافاة بينهما ، لاحتمال أن يكون ورد في حصول الأمرين معاً ، لكن يعكر عليه حديث الباب !. فيقال : كيف دعا لأنس وهو خادمه بما كرهه لغيره . ويحتمل أن يكون مع دعآئه له بذلك قرنه بأن لا يناله من قبل ذلك ضرر ، لأن المعنى في كراهة اجتماع كثرة المال والولد إنما هو لما يخشى من ذلك من الفتنة بهما ، والفتنة لايؤمن معها الهلكة " أهـ[22] .
ولفظ الحديث المشار إليه في كلام الداودي هو :" اللهم من آمن بي وصدقني ، وعلم أن ما جئت به هو الحق من عندك ، فأقلل ماله وولده ، وحبب إليه لقاؤك ، وعجل له القضاء ، ومن لم يؤمن بي ولم يصدقني ولم يعلم أن ما جئت به هو الحق من عندك ، فأكثر ماله وولده ، وأطل عمره " [23].
وقد ورد الحديث بقريب من ذلك اللفظ دون التعرض لكثرة أو قلة الولد ، ولفظه :" اللهم من آمن بك وشهد أني رسولك ، فحبب إليه لقاءك ، وسهل عليه قضاءك ، وأقلل له من الدنيا ، ومن لم يؤمن بك ، ويشهد أني رسولك ، فلا تحبب إليه لقاءك ، ولاتسهل عليه قضاءك ، وكثر له من الدنيا " رواه الطبراني وابن حبان عن فضالة بن عبيد [24].
الوجه الثاني : الأدلة العامة .
وهذه الأدلة متنوعة ، فمنها ما قد يسلم بوجود شيء من الدلالة فيها ، ومنها ما لا تدل من بعيد أو قريب على المقصود إلا بنوع من التكلف ، ومن هذه الأدلة :
1- قوله تعالى :" إن شانئك هو الأبتر " . استدلوا بها على كثرة عقبه عليه الصلاة والسلام ، ولما كان لا عقب له متصل من صلبه عليه الصلاة والسلام من الرجال ، قال أصحاب هذا الاستدلال ما حاصله : وردت أدلة تدل على أن عصبة ولد فاطمة إنما هي في النبي صلى الله عليه وسلم .
و استدلوا بحديث :" كل بني آدم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة ، فأنا وليهم ، وأنا عصبتهم " رواه الطبراني عن فاطمة[25] . و روي بلفظ :" كل بني أنثى فإنَّ عصبتهم لأبيهم ، ما خلا ولد فاطمة ، فإني أنا عصبتهم ، وأنا أبوهم " رواه الطبراني عن عمر [26].
2- وقوله تعالى :" وإنه لعلم للساعة " . قال ابن حجر الهيتمي :" قال مقاتل بن سليمان ومن تبعه من المفسرين : إن هذه الآية نزلت في المهدي . وستأتي الأحاديث المصرحة بأنه من أهل البيت النبوي ، وحينئذ : ففي الآية دلالة على البركة في نسل فاطمة وعلي رضي الله عنهما ، وأن الله ليخرج منهما كثيراً طيباً ، وأن يجعل نسلهما مفاتيح الحكمة ومعادن الرحمة . وسرُّ ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أعاذها وذريتها من الشيطان الرجيم . ودعا لعلي بمثل ذلك …" أهـ [27].
ويناقش قول الهيتمي رحمه الله تعالى بأنه لم يثبت أن سبب نزول الآية أمر المهدي ، وهذا يحتاج الى توقيف ، و لا توقيف ! و قد ذكروا في تفسير الآية أقوالاً أخرى ، و ليس قول أولى من قول إلا بدليل !
ثمَّ لو قيل بأن الآية نزلت في شأن المهدي ، لما كان فيها دلالة على كثرة عقب علي ! نعم يكون في هذا الحال فيها دلالة على وجود عقب معروف له إلى قرب الساعة ، و المطلوب إثبات كثرة ذلك من الآية ، و الله أعلم .
3- حديث الصلاة الابراهيمية في التشهد ، و قد تقدم الحديث عنه .
و مع أن تلك الأدلة المتقدمة لا تنهض لاثبات المطلوب – و هو كثرة آل البيت – إلا أنه لابد من التنبه لأصل مهم في مسألة كثرة قريش و أهل البيت أو قلتهم ، و هو أن :" الناس مؤتمنون على أنسابهم " ، و الكثرة و القلة أمرٌ نسبي ، فما يكون عند بعضهم قليلاً قد يستهوله الاخرون و يرونه كثيراً ، و العكس صحيح . و لازالت طبقات الأمة عبر مر الدهور و كرِّ العصور تشهد وجود جماعات و قبائل تنتسب على وجه الصحة لهذا البيت الكريم على صاحبه أفضل الصلاة وأتم السلام ، و الله تعالى أعلم و أحكم .
إقرأ في الموقع :



[1] المسند ( 2/ 336 ) . والحديث في الصحيحة برقم 738 . وقال الألباني في صحيح الجامع :" صحيح " . برقم 962 .
[2] المسند ( 6/ 81 ) .
[3] النهاية لابن الأثير ( ) .
[4] السلسلة الصحيحة (4/596) .
[5] فتح الباري ( 13 / 117 ) .
[6] انظر : مقدمة كتاب " معجم ما يختص بآل البيت " للدكتور عبدالكريم الغضية .
[7] الصواعق المحرقة ( 2/669 ) ط: الرسالة . ت: الخراط والتركي .
[8] جواهر العقدين ( 2/1/ ) . ط : العاني ، بغداد .
[9] الفتح 7 / 121 .
[10] الفتح 7 / 122 .
[11] الفتح ( 7 /122 ) .
[12] مجمع الزوائد ( 9 / 206 ) . وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب :" وأخرج له ابن حبان في صحيحه حديثاً طويلاً في تزويج فاطمة ، فيه نكارة " أهـ . 11/ 304 .
[13] الذرية الطاهرة ( 65 ) رقم 94 . وقد جوّد الحافظ ابن حجر اسناد الدولابي ، انظر : الاصابة ( 4/378 ) . وذكر ابن ناصر : أن الصواب في الرواية لفظ :" نسليهما " . انظر حاشية الذرية الطاهرة ( ص 65 ) ت: سعد المبارك الحسن . وقد قال ابن حجر الهيتمي في الصواعق عن رواية النسائي :" سندها صحيح " ( 2/ 469 ) .
[14] ذخائر العقبى ( 74 ) ط : مكتبة الصحابة ، 1415 . ت : الأرناؤوط والبوشي .
[15] انظر : مجمع الزوائد ( 9/ 209 ) . وقال الهيثمي :" رجالهما رجال الصحيح غير عبدالكريم بن سليط ، ووثقه ابن حبان " .أهـ .
[16] ذكره ابن الجوزي في الموضوعات ( 1/417- 418 ) . والشوكاني في الفوائد المجموعة ( ص 391 ) .
[17] الفتح ( 11 / 144 ) .
[18] الفتح 11 /182 ، 183 .
[19] الفتح 11 / 145 .
[20] شرح الأدب المفرد ( 2 / 108 ) .
[21] مجمع بحار الانوار للفتني ( 1/ 166 ).
[22] الفتح 11 /138 .
[23] ضعيف الجامع برقم 1215 ، وقال الألباني :" ضعيف " . ورمز السيوطي له بـ :" الحسن " . انظر : فيض القدير ( 2/ 129 ) .
[24] انظر : صحيح الجامع للألباني برقم 1311 . وقال هناك :" صحيح " . وانظر : السلسلة الصحيحة رقم 1338 وانظر في الجمع بين الحديث والدعاء لأنس في : فيض القدير ( 2/ 129 -130 ) . والحديث إن كان ضعيفاً بلفظ القلة أو الكثرة في الولد والمال ، فلا يقاوم ما في الصحيح من الدعاء لأنس ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :" نعم المال الصالح للرجل الصالح " . وإن صح فيحتاج إلى الجمع ، وأوجه ماقيل في الجمع ما ذكره الحافظ .
[25] ضعيف الجامع ( 4223 ) . وقال الألباني :" ضعيف " .
[26] ضعيف الجامع ( رقم 4224 ) .
[27] الصواعق المحرقة ( 2 /469 ) .
{moscomment}

بحث سريع