الخصومة وفن المصالحة

بواسطة | مشرف النافذة
2005/07/31
إن الخصومة معركة معنوية،وقد تتحول إلى قتال …
إن الخصومة أمر وارد ، ويتكرر كلما دعت الأسباب : كمنافسة ، أو حسد ، أو صراع
على غنيمة ، أو منصب … ، فكيف تُدار الخصومة ؟ وكيف تدار عملية
الإصلاح؟
للخصومة مواضع ومواضيع ، بعضها تجب معالجته تواً ، أو في وقت لا
يزيد عن ثلاث ليال أو ثلاثة أيام ، وبعضها قد يطول ، ولكن خير الخصمين هو
الذي يبدأ بالسلام .
وإن لم ينته سبب الخصام ، فإنه يجب ألا تتدهور الخصومة إلى خصومة أشد ؛فإن القتل الذي هو إزهاق رو ح كانت بدايته خصام بسيط ، كما قال الاول: وان النار بالعوديتن تذكى وان الحرب اولها كلام ولابد من معالجة الخصومة موضعاً وموضوعاً .
الخصومات أنواع :
تتراوح الخصومات بين شؤون فردية ، أو شؤون جماعية … فمن
الخصومات الفردية مثلاً :
خصومة بين اثنين (صديقين أو زوجين أو أخوين أو أختين) أو نحو ذلك .
ومن الخصومات الجماعية مثلاً :
خصومة بين قبيلتين أو حزبين أو جماعتين ، وقد تكون بين شعبين أو دولتين .
وتندرج تحت كل قسم من الأقسام السابقة أنواع ، وسوف نذكر أهم الأنواع
في موضعها.
خصومة شخصين ، أو خصومات الأفراد :
وهي كثيرة كثرة الأفراد ، وندر مَنْ لا يُخاصِم أو يُخاصَم ، وسببها تعارض
المصالح ،أو تصادم الأهواء ؛ فإذا تعارضت المصالح أمكن التوفيق بينها بطريقة
أو بأخرى ، أما خصومات تصادم الأهواء ، أو تصادم الهوى مع الحق ، فتقلّ فيها
احتمالات العلاج ، إلا بالرجوع إلى الحق ، والتخلص من الهوى .
إن أهواء الأفراد متعددة متنوعة ، وهي مطامع الدنيا في الأموال ، والمناصب
والشهوات كالمذكورة في قوله تعالى : ] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ
ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ [ [آل عمران : 14] .
درس من القرآن :
] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ
مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ [ [المائدة : 27] .
إنه عرض لدرس في الخصومة الفردية التي تصاعدت حتى وصلت إلى أن
يقتل الأخ أخاه في بيت البشرية الأول ، في بيت النبوة !
يقول صاحب الظلال رحمه الله :
(وهكذا يبدو هذا القول بهذا التأكيد المنبئ عن الإصرار نابياً مثيراً للاستنكار ؛ لأنه
ينبعث من غير موجب ، اللهم إلا ذلك الشعور الخبيث المنكر ، شعور الحسد
الأعمى الذي لا يعمر نفساً طيبةً) .
فماذا كان حال الطرف الثاني ؟
الوداعة والطيبة ، طيبة الظاهر ، وطيبة السريرة ، يقول سيد قطب رحمه الله : (هكذا في براءة يُرد الأمر إلى وضعه وأصله ، وفي إيمان يدرك أسباب القبول ،
وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتقي الله ، وهداية له إلى الطريق الذي يؤدي إلى
القبول ، وتعريض لطيف به ، لا يُصرّح بما يخدشه أو يثيره ! ثم يمضي الأخ
المؤمن التقي الوديع المسالم يكسر من شرّة الشر الهائج في نفس أخيه الشرير ،
فيقول له : ] لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ
اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ [ [المائدة : 28] ، وهكذا يرتسم نموذج الوداعة والسلام والتقوى ، أمام موقف الشراسة والعدوان والفجور .
لقد كان في هذا القول الليِّن قول الابن الصالح ما يهدئ الحسد ، ويسكّن الشر ، ويمسح على الأعصاب المهتاجة … لقد كان في ذلك كفاية ، ولكن الأخ الصالح
يضيف إلى ما سبق النذير والتحذير : ] إنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإثْمِي وَإثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ
أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [ [المائدة : 29] .
إذا أنت مددت يدك لتقتلني ، فليس من شأني ، ولا من طبعي أن أفعل هذه
الفعلة بالنسبة لك ، فهذا الخاطر خاطر القتل لا يدور بنفسي أصلاً ، ولا يتجه إليه
فكري إطلاقاً ، خوفاً من الله رب العالمين لا عجزاً عن إتيانه وأنا تاركك تحمل إثم
قتلي ، وتضيفه إلى إثمك … فيكون إثمك مضاعفاً ، وعذابك مضاعفاً ] وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ [ .
بعد عرض هذا المشهد لخصومة فردين أخَويْن يمكننا استخلاص هذه الفوائد ،
تحت عنواننا المختار:
الخصومة وفن المصالحة:
1- المسلم رباني حتى في أثناء خصومته ، وهكذا هو قبل الخصومة وبعدها ، يحرص على مرضاة الله ، ورضوانُ الله لا يتحقق بمخالفة أمره ، أو بالتمادي في
الخصومة أو بتطويرها إلى حالة فجور .
2- عند إظهار الخصومة ، يوطّن المؤمن التقي نفسه على أن يبتعد عن الشر
قولاً وعملاً ] ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ [فصلت : 34] .
3- إن كثرة الخصومات تعني وجود خلل عند طرف ، أو عند الطرفين ، أو
الأطراف في فهم الأمور .
4- في المجتمعات البعيدة عن تعاليم الإسلام محترفو خصومات وصراعات ،
وهؤلاء لا تصلحهم المواعظ ؛ لأنهم قد عزموا على الطمع ، والقطيعة ، والعدوان ،
ويجب ألا يتغاضى عنهم الدعاة والقضاة وأولو الأمر ، ويجب أن يُزجَروا بوسائل
مكافئة .
وإذا كانت خصومة ابني آدم قد انتهت بمقتل الطرف الطيب التقي ، إلا أن
اكتمال التشريع ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- قد أوجد فقهاً وطريقة أو أسلوباً
للتصدي لفجّار الخصومات ، من ذلك قوله تعالى : ] وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ [
[الحجرات : 9]
إن الحركة الإسلامية سواء في إطارها الشعبي أو إطارها التنظيمي مطالبة
بإيجاد آليّة التصدي لفجّار الخصومات على جميع المستويات ، وإلا فإن حقبة
التمزق الداخلي في المجتمع الإسلامي سيطول مداها ، وستكون إفرازاتها دماً غزيراً
وعزيزاً .
5- لن تزول الخصومات ، ولن تنتهي من الوجود البشري ، ولكنها ستقل ،
وستخف آثارها في ظل المنهج الرباني احتكاماً إليه ، وتربية عليه .
6- إذا كان الباعث على الخصومة الطمع في المال ، وأمكن لولي الأمر أن
يمنح الطامع ، فربما تُعالج الخصومة ، وقد سلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك
الطريق . أما إذا كانت الخصومة من أجل منصب ، فإن الأمور توزن بمقدار
المصلحة والمفسدة ، ثم تُحسم الخصومة دون تغليب الهوى الشخصي ، والفقه
الإسلامي في هذا الباب حكيم عظيم .
7- إذا اشتدت الخصومة فلا يصح شرعاً أن تتدهور إلى أكثر من الهجر
ثلاثاً ، ويكون الفضل لمن يبدأ بالسلام . فإن بقي سبب الخصومة ، وجب على
الخصمين أن ينتقلا إلى التحكيم ، ويوطّن كل طرف نفسه على الرضا والتسليم
بالحكم الصادر ، وإن خالف الرغبة الشخصية ] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [
[النساء : 65] .
8- إذا لم يكن لدى الطرفين ، أو أحدهما على الأقل استعداد للصلح ، ضاعت
الأوقات وضاعت الجهود ، وعلى المصلحين التثبت من وجود هذه الرغبة بدايةً ،
فضلاً عن وجودها في نفوس المصلحين ] إن يُرِيدَا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [
[النساء : 35] .
9- تشتد وطأة الخصومة إذا كان مصدرها الحسد ، فإنه نار تحرق الحاسد ،
وقد تحرق مَنْ حوله ، إنه الحسد الذي دفع ابن آدم إلى قتل أخيه .
إن الخصومات كثيرة تختفي أسبابها الحقيقية ؛ لأنها آفة في القلب خفيّة ، وإن لم
يدركها المصلح فإنه كمن يحرث في الماء ، أو من يريد أن يطير بغير جناحين في
الهواء ! !
وإذا عُرف السبب بطل العجب ، فحينئذ يبدأ المصلح بإطفاء النار ، ثم يُتبع
ذلك بتمديد خطوط المحبة ، وذلك يحتاج لوقت وجهد قد يطولان ، ويكون الصلح
هو البلسم بفضل الله وتوفيقه .
{moscomment}

بحث سريع