مناهج الشرف 5 – فضيلة العلم

بواسطة | محمد الخضر حسين
2005/08/30
فضيلة العلم
إذا كانت العقول في مثال السيوف ، تقطع الباطل أن يتشبث بأطراف الحقائق ، فإن العلم ثقافها الذي يقوِّم أودها ، ومقصلتها التي تجلو أصداءها . أترون السيف الذي احدودب متنه ، أو تكاثف الخبث على غراره ، كيف يقبح منظره ، ويبنو عند الضراب به ؟
كذلك العقل إذا غشيه الشبه ، وانحدرت به نواحي الضلالة ، حتى التوى غصنه بالتواء شعبها ، أو بقي في مستنقع من الجهالة حتى التف عليه من سوادها حجاب كثيف ، فإنه يدنو من ذوي البصائر ، فتستثمر فطرهم السليمة نفوراً منه ، ويذهب إلى البحث عن الحقيقة فلا يقع على مكامنها .
وما اللسان إلا مرآة تمثل خواطر العقول ، وتنتقل مداركها من شعور إلى شعور . والمرآة إذا تكور سطحها أو تجّهم وجه زجاجها بغبش ، أخذت الصور على غير نظامها ، وعرضتها في أشكال غير مطابقة .
وكذلك اللسان إذا ألقت عليه الفهاهة أثقالها ، وشدت عليه اللكنة عقدتها ، فإنه لا يحتفظ بما يمليه عليه الفكر من المعاني ، فيضبطها من سائر حواشيها ، بل يؤديها في مثال شخص حذفت بعض أعضائه أو تخاذلت هيأته ، فتصوب رأسه إلى أسفل وتصعدت قدماه إلى أعلى .
فمن العلوم ما يرجع إلى إصلاح النفوس أو تكميل العقول ، كعلوم الشريعة وصناعة المنطق والتاريخ .
ومنها ما يرجع إلى تقويم اللسان وتهذيب صناعة الكلام ، كعلوم اللعات وآدابها .
ومنها ما يتخذ في وسائل الحياة والتفنن في أساليب العمران ، كالهندسة والطب والطبيعيات .
أصبحت مزية العلم في جلائها وشهرتها مقل فلق الصبح ، لايسع أحداً جهالتها ، فيكاد بسط العبارة في هذا الصدد يلحق بإسهاب المقال في المعاني المطروحة على البداهة عند العامة والأطفال ، ولكنا نستوقف النظر برهة في تفاضل العلوم في أنفسها ، ونعرج على الوجه الذي كان به العلم ركناً من أركان السيادة .
تتفاضل العلوم بحسب أهمية ثمرتها أو عموم نفعها أو قوة براهينها أو شرف موضوعها ، كاللغة تفضل على المنطق بعلو ثمرتها التي هي فهم دلائل القرآن والحديث ، وكالفلاحة تفضل على معرفة الصياغة بعموم نفعها ، والهندسة تفضل على علم الهيأة بقوة براهينها ، ومثل التوحيد يفضل على الفقه بموضوعه وثمرته وبراهينه .
قد تقوى عناية قوم ببعض العلوم ، فيجعلونها الغاية في الشرف ، ويفضلون العارف بها على من قام بغيرها من العلوم ، وإن كان أعلى حكمة وأقرب وسيلة إلى السعادة ، فيرفعون في بعض الصور أو البلاد مقام حافظ اللغة على مقام حافظ الحديث ، ويؤثرون العارف بالمنطق على القائم بعلم الفرائض ، ويفضلون صاحب البلاغة على العالم بالفقه .
وكان للفقه عند أهل الأندلس المقام الأعلى ، حتى إذا أرادوا تعظيم الملك أو الوزير لقبوه بالفقيه ، وربما دعوا به النحوي أو اللغوي حيث قصدوا إجلاله لأنه أشرف الألقاب في ندائهم .
وقد يأخذ العلم اعتباراً لدى الشعب ورواجاً ، إّا كان له مساس بتصرفات الدولة ، كعلم العربية في قوم يكون لسان دولتهم عربياً ، ولرجال الدولة اهتمام بفصاحة الرسائل ورفعة أسلوبها ، قال ابن السبكي(1) في طبقاته : كان محمد بن برّي(2) المولود عام 499 متولياً أمر التصفح في ديوان الانشاء ، وذكر أن الكتب لا تصدر عن الدول إلى ملوك النواحي إلا بعد أن يتصفحها إمام من أئمة اللسان ، وإن القاضي الفاضل(3) كان يتصفح الكتب التي يكتبها العماد(4) ومنكان دونه .
فمثل هذه العناية يكون له مدخل قوي في الإقبال على علوم العربية ، والتنافس في صناعة الإنشاء .
يثبت الشرف للعلم في اعتبار الإسلام من جهة أنه يثمر عملاً نافعاً ، فإذا لم يكن له أثر في عمل يشكر ، فإما أن يعد ضرباً من المباح كمسائل الخلاف التي لا تترتب عليها فائدة ، وإما فيما سصف صاحبه بوصف الحطة كالسحر والطلمسات .
مما يحقق أن الشرف لا يثبت للعلم إلا من حيث أنه ينبت المحامد ويجلب السعادة ، قوله تعالى : { مَثَلُ الذين حُمِّلوا التوراةَ ثم لم يحملوها }(5) الآية . فانظروا كيف ذمَّ الذين درسوا التوراة وأوتوا عليها تلاوة ، ثم أحجموا عن العمل بموجبها في أسلوب بليغ ،فضرب في وصفهم مثل الحمار يحمل أسفاراً من حيث خلوهم عن المزية وعدم استحقاقهم للحاق بزمرة العلماء ، إذا لا ميز بين من يحمل كتب الحكمة على غاربه ، وبين من يضعها داخل صدره أو دماغه إذا صدَّ وجهه عن العمل بها ، وتنسحب هذه المذمة على كل من حفظ علماً طاشت به أهواؤه عن اقتفائه بصورة من العمل تطابقه .
ومن الناس من يندفع في سبيل التعليم ، فيتلقف المسائل على غير بينة من أمرها ، ويضمها في حفظه جيّدها على رديئها بدون أن يتفقه في ثمرة وضعها وتدوينها ، ولا يتدبر كيف انصرفت الأفكار إلى استنباطها ، وما الصنع الذي اقتحمته حتى تمكنت من اقتناصها ، فأمثال هذا هم الذين إذا سمعوا منادياً ينادي باسم العلماء جاءوا إليه يهرعون ، وإذا وقف العاملون على ساق الاجتهاد وشدُّوا حيازيمهم للسعي ، رأيتهم اضطجعوا على صماخ آذانهم يتماوتون .
ومنهم من يأخذ القضايا العملية فيدير فيها نظره يمناً وشمالاً ، ويجمع بين طرفي مبدئها وغايها ، فإذا نزلت في أعماق صدره ، واختلطت بمسلك روحه ، اشتد حرصه على الاحتفاظ بها ، وأصبح يغار لعدم إجراء العمل بموجبها غيرة من جرّد قريحته في البحث عنها ، وأفرغ وسعه في انتزاعها وترتيب نظامها ، وأمثال هذا هم الذين لا نفضون أ]ديهم من صلة العلم ، وإن كسدت بضاعته ، ولم يتقدم صاحبه عن موقف الجاهلين خطوة ، فإنهم أحسوا في الحكمة بلذة لا يشوبها كدر ، ودلوا في مطالع إيناس لا تمر بها سحائب الوحشة .
ومما لا يرضى التحرير لنفسه ، وإن لم يصر أهلاً لبدء القواعد والأحكام ، أن يكون راوياً لأقوال العلماء من غير أن يتصرف فيها بمقتضى صناعة التحقيق ، كأن يكشف عن الزائف ، ويرجع جانب المصيب ، أو يفرق بين ما يظهر في صورة التعارض ، ويضع كل مقالة في موضعها ، أو يستنبط الجواب عما يتوجه على القواعد المسلمة من البحث والاستشكال ، وهذا أحد الوجوه التي يتفاضل بها العلماء ، وترفع بعضهم فوق بعض درجات ، قال الشيخ ابن عرفة(6) في حديث (( أو عِلْمٍ ينتفع به )) : تدخل التآليف في ذلك ، إذا اشتملت على فوائد زائدة ، وإلأا فذلك خسار للكاغد(7) . قال الأبي(8) : ويعني بالفائدة الزائدة على مافي الكتب السابقة عليها ، وأما إذا لم يشتمل التأليف إلا على نقل مافي الكتب المتقدمة فهو الذي قال فيه خسار للكاغد ، وهكذا كان يقول في مجالس التدريس : (( إذا لم يكن في مجلس الدرس التقاط زيادة من الشيخ فلا فائدة في حضوري مجلسه ، بل الأولى ممن حصلت له معرفة الاصطلاح والقدرة على فهم ما في الكتب ، أن ينقطع لنفسه ويلازم النظر )) . وضمن ذلك في أ[يات نظّمها وهي :
إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتةٌ وتقرير إيضاحٍ لمشكل صورةٍ
وغزّوُ غريب النقل أو حل مقفل أو إشكال أبدتْه نتيجة فكرةٍ
فدع سعيه وانظر لنفسك واجتهدْ ولا تتركن فالترك أقبح خلَّةٍ
وإذا كان ظل العز والشرف يمتد حول العالِم بمقدار سعة معارفه ، فيجدر بالرجل أن يلج بفكره في كل علم أمكنته مزاولته ، ويأخذ من كل فن بطرف ، ولو ألقى رحله في بعض علوم وجد من نفسه استعداداً وانعطافاً زائداً نحوها .
عكف أبو صالح أيوب بن سليمان(9) مرة على كتاب العروض حتى حفظه ، فسألأه بعضهم عن وجه إقباله على هذا العلم بعد الكبر ، فقال : حضرموت قوماً يتكلمون فيه ، فأخذني ذل في نفسي أن يكون باب من العلم لا أتكلم فيه .
جرت سنة الله أن علم الشريعة إنما يُنال بالأخذ عن علمائها ، وينحرف بعض العامة عن هذه الجادة ، فيشهدون رجلاً كيف نشأ بينهم ، ولم يدخل مجلس تعليم ، ولم يصاحب أستاذاً يتلقى عنه ما تجب معرفته من أحكام الدين ، فيغترون بمزاعمه ، ويعتقدون له مقاماً سامياً في الصلاح ، ثم يقتدون بسيرته ويؤثرون أقواله عما يرويه العلماء من بينات الكتاب والسنة . قال العلامة ابن حجر الهيتمي(10) في فتاويه : إن الجاهل بمبادئ العلوم الظاهرة مما يجب عليه تعلمه لا يكون ولياً ، وإنَّ علم الشرائع لا يدرك إلا بالتعليم الحسِّي . قال : ويؤيد هذا أن المحقق ابن عرفة المالكي حكى الإجماع على أن علم الشرائع لا يكون إلا بقصد التعليم . وهذا واضح فإن القرب من رب العالمين يكون على قدر سلامة الطوية وصحة العبادة ، ومنلم يتعلم شروط العبادات وواجباتها ومبطلاتها اختلت أعماله وكانت عارية عن الصحة ، وإذا كان يخرج عن رسم الشرع ، ويأتي بعمله على غير وضع ، فكيف يصدق إن ادعى المرتبة القريبة من رضاء منزّل الشرائع ، ويتخذ قدوة يعمل على آثاره قولاً وعملاً .
——————
1. عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي ، أبو نصر قاضي القضاة ، ولد في القاهرة ، وانتقل إلى دمشق مع والده وتوفي فيها . ( 727 – 771 هـ : 1327 – 1370 م ) من تصانيفه (( طبقات الشافعية الكبرى )) .
2. محمد بن بريء لم أعثر على ترجمته .
3. عبد الرحيم بن علي بن السعيد اللخمي ، المعروف بالقاضي الفاضل ، ولد بعسقلان فلسطين وانتقل القاهرة ، وتوفي فيها ( 529 – 596 هـ : 1135 – 1200 م ) من وزراء السلطان صلاح الدين ، ومن أئمة الكتّاب .
4. محمد بن محمد صفي الدين ، أبو عبد الله ، عماد الدين الكاتب الأصبهاني ، ولد في أصبهان ، مؤرخ ، عالم بالأدب ( 519 – 597 : 1125 – 1201 م ) استوطن دمشق وتوفي فيها ، له كتب كثيرة .
5. سورة الجمعة – الآية 5 .
6. محمد بن محمد ابن عرفة الورغي ، أبو عبد الله ، وإمام تونس وعالمها وخطيبها في عصره ، مولده ووفاته فيها ، تولى إمامة الجامع الأعظم ، ( 716 – 803 هـ : 1316 – 1400 م ) .
7. الكاغد : القرطاس .
8. محمد بن خلفة بن عمر الأبّي الوشتاتي المالكي ( 00- 827 هـ : 00 – 1424 م ) عالم بالحديث من أهل تونس نسبته إلى (( آبة )) من قراها .
9. أيوب بن سليمان لم أعثر على ترجتمه .
10. أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي ، شيخ الإسلام ، فقيه باحث مصري ، ( 909 – 974 هـ : 1504 – 1567 م ) .
11.

بحث سريع