التحذير من نشر الشائعات

بواسطة | هشام إسماعيل
2007/05/12
المتأمل في الكتاب والسنة ، وفي التاريخ بشكل عام يعلم يقيناً ما للشائعات من خطر عظيم ،وأثر بليغ،فالشائعات تعتبر (من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات والأشخاص،وكم أقلقت الإشاعة من أبرياء،وحطمت عظماء ، وهدمت وشائج ، وتسببت في جرائم ، وفككت من علاقات وصداقات ، وكم هزمت من جيوش ، وأخرت من سير أقوام ؟ !
لخطرها وجدنا الدول تهتم بها ، والحكام يرقبونها معتبرين إياها مقياس مشاعر الشعب نحو النظام صعوداً أو هبوطاً ، وبانين عليها توقعاتهم لأحداث سواء على المستوى المحلي أوالخارجي .
لسنا مبالغين حين نقول إن ما واجهه النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث الإفك ، هو حدث الأحداث في تاريخه -عليه الصلاة والسلام – ، فلم يمكر بالمسلمين مكر أشد من تلك الواقعة ، وهي مجرد فرية وإشاعة مختلقة بينت (السماء) كذبها ، لكنها لولا عناية الله كانت قادرة على أن تعصف بالأخضر واليابس ، ولا تبقي عل نفس مستقرة مطمئنة ، ولقد مكث مجتمع المدينة بأكمله شهراً كاملاً وهو يصطلي نار تلك الفرية ، ويتعذب ضميره وتعصره الإشاعة الهوجاء ، حتى تدخل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الفظيعة . وليكون درساً تربوياً رائعاً لذلك المجتمع ، ولكل مجتمع مسلم إلى قيام الساعة ، وصدق الله : ] لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم
بلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [ .وللإشاعة قدرة على تفتيت الصف الواحد والرأي الواحد ، وتوزيعه وبعثرته ،
فالناس أمامها بين مصدق ومكذب ، ومتردد ومتبلبل ، فغدا بها المجتمع الواحد والفئة الواحدة فئات عديدة) . وثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) .ويقول الإمام مالك -رحمه الله تعالى - : (اعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم
الإنسان بكل ما سمع) . وقد وقع للمسلمين في العهد الأول شائعات كان لها آثار سيئة ، منها الشائعة التي انتشرت أن كفار قريش أسلموا ، وذلك بعد الهجرة الأولى للحبشة ، كان نتيجتها أن رجع عدد من المسلمين إلى مكة ، وقبل دخولهم علموا أن الخبر كذب ، فدخل منهم من دخل وعاد من عاد ، فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم من عذاب قريش ما كان هو فار منه .. فلله الأمر -سبحانه وتعالى- . وفي معركة أحد عندما أشاع الكفار أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قتل ، فتّ ذلك في عضد كثير من المسلمين ، حتى إن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال ؟ .
وأدت الشائعات الكاذبة ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى تجمع أخلاط من المنافقين ودهماء الناس وجهلتهم وأصبحت لهم شوكة ، وقتل على إثرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته وقطع الماء عنه . وحادثة الإفك التي هزت بيت النبوة شهراً كاملاً ، بل هزت المدينة كلها .(هذا الحادث : حادث الإفك ، قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق ، وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها
الطويل ، وعلق قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقلب زوجه عائشة التي يحبها ، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه ، وقلب صفوان بن المعطل ... شهراً كاملاً ، علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق) . وفي هذا الحديث ربى الله المؤمنين تربية شديدة ، ووعظهم موعظة عظيمة ، وهو الحكيم الخبير . يقول الله تعالى : ] إنَّ الَذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ .. فهم ليسوا فرداً ولا أفراداً : إنما هم عصبة متجمعة ذات هدف واحد ، ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك ، إنما هو الذي تولى معظمه ، وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة .. وبدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث ، وعمق جذوره .. ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد : ] لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [ .. فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته ، . وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة بهذه المناسبة عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم ... أما الذين خاضوا في الإفك ، فلكل واحد منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة : لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ [. نعم كان هذا هو الأولى .. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ، وأن
يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحماة .. وامرأة نبيهم الطاهر وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم ، فظن الخير بهما أولى ، فإنه مما لا يليق بزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيراً .. كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته -رضي الله عنهما- ... [ وهذا يدل ] على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه وأستفتى قلبه ، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة ، وما نسب إلى رجل من المسلمين من معصية لله وخيانة لرسوله ، وارتكاس في حمأة الفاحشة لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة . هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور :
خطوة الدليل الباطني الوجداني .
فأما الخطوة الثانية ؛ فهي طلب الدليل الخارجي البرهاني الواقعي :
] لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الكَاذِبُونَ [ .. وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات ، وأطهر الأعراض ، ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة ، وأن تشيع هكذا دون تثبيت ولا بينة ، وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكها الأفواه دون شاهد ولا دليل : ] لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [ وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن ...
وهاتان الخطوتان : خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير ، وخطوة التثبت بالبينة والدليل .. غفل عنهما المؤمنون في حادث الإفك ، وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أمر عظيم لولا لطف الله لمس الجماعة كلها البلاء العظيم ، فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبداً بعد هذا الدرس الأليم : ] ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ َمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ … [ .
لقد احتسبها الله للجماعة الناشئة درساً قاسياً ، فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسهم بعقابه وعذابه ، فهي فعلة تستحق العذاب العظيم ؛ العذاب الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول - صلى الله عليه وسلم - وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عليه إلا خيراً ... والقرآن يرسم لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام ، واختلت المقاييس ، واضطربت فيها القيم ، وضاعت فيها الأصول : إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [ ..
وهي صورة فيها الخفة والاستهتار ، وقلة التحرج ، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام : ] إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [ .. لسان يتلقى عن لسان ، بلا تدبر ولا ترو ولا فحص وإنعام نظر ، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان ، ولا تتملاه الرؤوس ، ولا تتدبره القلوب !
] وتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ [ .. بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقولكم ولا بقلوبكم .. ] وتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً [ أن تقذفوا عرض رسول الله ، وأن تدعوا الألم يعتصر قلبه وقلب زوجه وأهله .. ] وتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [ .. وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي ، وتضج منه الأرض والسماء ...
] ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [ ...
وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزها هزاً ، وهي تطلعها على ضخامة ما جنت ، وبشاعة ما عملت .. عندئذ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم : ] يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [ ..
] يَعِظُكُمُ [ .. في أسلوب التربية المؤثر ، في أنسب الظروف للسمع والطاعة والاعتبار مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان : يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً [ ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة ] إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [ [5] .
والذي ينبغي على المسلم عند سماعه مثل هذه الإشاعات والأخبار أن :
1- أن يقدم حسن الظن بأخيه المسلم ، وهو طلب الدليل الباطني الوجداني ، وأن ينزل أخيه المسلم بمنزلته ، وهذه هي وحدة الصف الداخلي : ] لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً [ .
2- أن يطلب الدليل الخارجي البرهاني : ] لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [ .
3- أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره ، فإن المسلمين لو لم يتكلموا بمثل هذه
الشائعات لماتت في مهدها ولم تجد من يحيها إلا من المنافقين : ] ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا .. [ .
4- أن يرد الأمر إلى أولي الأمر ، ولا يشيعه بين الناس أبداً ، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة ، والتي لها أثرها الواقعي ، كما قال تعالى : ] وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً [ [ النساء : 83] .
والشائعات إذا حوصرت بهذه الأمور الأربعة ، فإنه يمكن أن تتفادى آثارها السيئة المترتبة عليها ، ولكن ليس الإشكال في هذا بل الإشكال أن هناك فريق من المؤمنين يرضون أن يستمعوا لمثل هذه الإشاعات ، هذا فضلاً عن فريق من أصحاب القلوب المريضة التي تحب البحث ونشر مثل هذه الأمور ، وقد بين الله ذلك بقوله تعالى : ] وفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [ [ التوبة : 47] أي للمنافقين المغرضين ، وهذا هو الداء الكبير ، وهو أن يرضى فريق من الناس الاستماع إلى مثل هذه الشائعات ، وإلى كلام المنافقين والمغرضين .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى – (فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالاً ، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين ، يطلبون لهم الفتنة ، وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم : (1) إما لظن
مخطئ ، (2) أو لنوع من الهوى ، (3) أو لمجموعهما .. ) .
ولذلك فالنقطة الخامسة :
5- عدم سماع ما يقوله الكذابون ، والمنافقون ، والمغتابون ، وأصحاب القلوبالمريضة ، وعدم الرضى بذلك ، كما هو منهج السلف -رضوان الله عليهم- . والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء ، فصار الأكابر [رضي الله عنهم ] ، عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها ، وهذا شأن الفتن ، كما قال تعالى : ] واتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً [ ، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله) .وفي هذا العصر نجد للشائعات دور كبير ، بل واستغلت ضد المسلمين استغلالاً كبيراً ، ومثل هذه الشائعات تحدث في الصف ثغرات تخل به ، وأحياناً تكون ثغرات كبيرة يصعب سدها ؟ ! !
وخاصة إذا كانت الشائعات مصدرها من داخل الصف ، من أناس جهلة ، أو لهم هوى خفي ، أو ظن مخطئ . وأما أعداء الإسلام فهم يستخدمون الشائعات ضد المسلمين وخاصة علمائهم
وقادتهم ودعاتهم ، وغالباً ما يستخدمون في شائعاتهم طريقين :
1- إنشاء وتلفيق الأكاذيب والاتهامات بالعلماء والدعاة لزعزعة الثقة بهم ،
والانصراف عنهم ، فكم من العلماء والدعاة قيل فيهم أنهم عملاء ، وأصحاب
مناصب ودنيا ؟ ! ! .
2- تصيد الأخطاء العلمية والعملية ، ونشرها بين الناس ، وإعطائها حجماً
كبيراً ، فيزيدون شائعات مكذوبة على أمر صغير ، كالشيطان الذي يلقي على
الكاهن كلمة صحيحة ، وتسعاً وتسعين كذبة ؟ ! !
{moscomment}

بحث سريع