شعب الإيمان.. الفقه والآثار – 1

بواسطة | عبدالله الأشول
2004/12/09

الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعلمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين….أما بعد
فقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم قال : " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان " [رواه البخاري رقم (9) ومسلم رقم ( 46) واللفظ له ].
أن من القواعد الثابتة في دين الإسلام ، أنه دين شامل، وكامل؛ وذلك لأنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا يوجد دين على وجه الأرض يلبي حاجات الإنسان جميعاً سوى هذا الدين.
وكلما نظر المرء الآيات النفسية والشرعية، فإنه يجد من شواهد التطابق الدقيق بينهما ما ينطق بأن هذا الدين هو الدين الحق، كما قال- تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} (19) سورة آل عمران ؛ لأن الإسلام هو دين الله ، وكذا النفس البشرية هي خلق الله أيضاً ؛ ولهذا لم يشرع لها من الدين إلا ما يتوافق وينسجم معها، بحيث يلبي كل متطلباتها واحتياجاتها بعيداً عن الانحراف، والزلل والضياع.
إن الهدف الذي أنزل الشرع لأجله هو تزكية النفس البشرية وتقويمها ابتداءً من إصلاح القلوب بإصلاح تصوارتها ووصولاً إلى إصلاح الإعمال والجوارح.
وهذا الحديث يعد من أهم النصوص الشرعية التي تبرز تلك المعالم ، فالنبي- صلى الله عليه وسلم- يقرر في هذا الحديث : أن الإيمان ليس هو مجرد التصديق فقط، بل هو إضافةً إلى ذلك واقع عملي لا بد أن يوجد عملياً في الجوارح.
ويقرر فيه أيضاً أن صلاح الجوارح بالأعمال، ولا يحصل بدون صلاح التصورات التي يحملها العبد في قلبه وضميره، كما قال في الحديث الآخر:" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" [رواه البخاري رقم (52) ، ( 2051) ومسلم رقم (1599)].
لقد بدأ النبي – صلى الله عليه وسلم- أولاً ببيان القضية التي لا يصلح ولا يقبل عمل قبل أن تتحقق… إنها كلمة التوحيد، حيث نبه إليها بقوله:" فأفضلها قول لا إله إلا الله "؛ ولذلك كان من لم ينطق بها ولم يلتزم بما جاءت به كافراً كما قال- عز وجل- عن الكفار:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (35) سورة الصافات .
وكما أخبر عن المنافقين الذين أظهروها بألسنتهم ولم يلتزموا بها في بواطنهم :{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} (54) سورة التوبة .
فأخبر أن إعراضهم عنها – وإن كان باطناً -كان سبباً في كفرهم وبالتالي عدم قبول الطاعة منهم .
إذن فكلمة التوحيد " لا إله إلا الله " ، ليست مجرد كلمة عابرة يطلقها المرء دون أن يعمل بما اشتملت عليه من الأوامر والنواهي ووجوب الانقياد لها ظاهراً وباطناً ؛ وإلا لما كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (145) سورة النساء.
وهنا لابد أن نسأل أنفسنا…هل توجد كلمة أعظم من كلمة التوحيد؟
وللجواب على هذا التساؤل يجب أن نعلم، أن أي كلمة إنما تستمد عظمتها وسموها وعلو شأنها من خلا معرفة مدلولها؛وإن الناظر ليعلم منذ الوهلة الأولى أن أعظم شئ في هذا الكون هو الله- تعالى- وحده لا شريك له؛ ولذلك فإن كلمة التوحيد هي أعظم كلمة على الإطلاق لأنها تدل على الله تعالى.
وإن من تمام شكر نعمة الله علينا حيث جعلنا مسلمين، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، أن نتعلم معنى هذه الكلمة، وأن نتعرف على مدلولها الصحيح، وأن نعمل بمقتضاها حتى تتم علينا النعمة بالفوز بالجنة والنجاة من النار.
إن أعظم ما تدل عليه كلمة التوحيد من المعاني، هو أن الله واحد أحد فرد صمد لا شريك له في ذاته ولا في أسمائه وصفاته، ولا في أفعاله ،ولا في ألوهيته وربوبيته، ولا في أمره ونهيه وسائر ما يختص به- عز وجل- وتقدس.
قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (27) سورة الروم .
وقال تعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (11) سورة الشورى.
فلا مثيل له، ولا ند له في شيء من ذلك.
وحينما يتحقق ذلك ، يتحقق التوحيد الذي أمر الله عز وجل به…وحينها لا تقصد القلوب غيره ولا تتعلق إلا به في العبادة والطاعة؛ لأنه الإله…وما سواه عبيده,ولأنه الرب الذي بيده الملك والخلق والتدبير وحده لا شريك له، وهو الذي يصرف أحوال العباد وحياتهم من مبدئهم إلى معادهم.
وحينما بين شيخ الإسلام ابن تيمية حقيقة العبودية ذكر أنها تتضمن أصلين هما:"ألا يعبد إلا الله ، وألا يعبد الله إلا بما شرع" رسالة العبودية(17).
فلا يتوجه العبد إلا إلى الله وحده في دعائه، ونذره، وذبحه، وطاعته، وخضوعه، وسائر تعبداته؛ فمن صرف شيئاً من ذلك لغير الله- عز وجل- فقد شرك عياذاً بالله – عز وجل- قال الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} (36) سورة النساء ،وقال أيضاً:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة.
وقال- عز وجل- في بيان وجوب صرف الطاعة إليه وحده وذلك باتباع شرعه وحده دون غيره : {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (54) سورة الأعراف ، وقال تعالى :{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (21) سورة الشورى، وقال :{وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} (26) سورة الكهف.
فمن أطاع غير الله- عز وجل- في تحريم الحلال وتحليل الحرام فقد وقع في الشرك الذي نهى الله عنه آنفاً، وهذا الأمر قد يشتبه على بعض الناس، فيظن أنه لا تعارض بينه وبين حقيقة العبادة لله- عز وجل،كما حصل لعدي بن حاتم -رضي الله عنه- في أول الأمر يقول-رضي الله عنه : " أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- وفي عنقي صليب من ذهب فقال : " يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك " قال : فطرحته ، وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية:{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة. قال : قلت : يا رسول الله ! إنا لسنا نعبدهم، فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ " قال : قلت: بلى، قال:" فتلك عبادتهم " وفي رواية: " قلت يا رسول الله أما إنهم لم يكونوا يصلون لهم" قال:" صدقت ولكن كانوا يحلون ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون ما أحل الله لهم فيحرمونه".
[ رواه الترمذي ( 3095 ) وحسنه شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع (7/67) والألباني في صحيح الترمذي رقم (471 ) وفي غاية المرام رقم ( 6 ).
ويدخل في ذلك طاعة الرسول-صلى الله عليه وسلم؛ لأن طاعته من طاعة المرسل -سبحانه وتعالى- قال الله- عز وجل:{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء.
فقد نفى الله- عز وجل – الإيمان عمن لا يراضى بحكم رسوله-صلى الله عليه وسلم- الذي هو في حقيقته حكم الله سبحانه وتعالى.
وأمر بالتسليم المطلق كشرطٍ لحصول الإيمان التام المطلق، حتى لا يبقى أي حرج من حكم الله ورسوله ، بل يتلقونه بالتسليم والرضا التام ؛ لأنه حكم الله .. الله عز وجل.
ثم إن طاعة الرسول-صلى الله عليه وسلم- لا تتحقق ، حتى يكون العبد مبتعداً عن البدع التي لم تأت بها الشريعة الإسلامية التي بلغها إلينا رسول الله-صلى الله عليه وسلم.
ولقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم :" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" .
[رواه البخاري برقم ( 2697) ومسلم رقم ( 1718)].
تلك أهم القضايا الأساسية التي ينبغي أن ندركها كمسلمين حينما ننطق بكلمة التوحيد…. نستحضر معانيها؛ لتثمر جوارحنا الأعمال الصالحة بعد أن يزكوا نبعها ومصدرها الذي هو القلب.
فهل آمن بالله وحده من جعل بينه وبين الله-عز وجل-وسائط يدعوها ويتقرب إليها من دونه من قبور وأحجار ونحوها يرجو منها كشف الضر وجلب الخير؟!
هل آمن بالله وحده من أسلم زمامه وانقياده وخضوعه لغير الله- عز وجل- من المشرعين والمبدلين؛ الذي يحلون المحرمات ويحرمون المباحات، وهل إباحة الربا والفواحش ونحوها إلا من هذا النوع ، ومن هذا الباب؟!
وهل آمن بالله وحده ، واتبع رسوله-صلى الله عليه وسلم- على الوجه الصحيح من يباشر البدع، ويقع فيها وهو يعلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من بعده لم يفعلوها؟!
وهل آمن بالله وحده من جعل دليله العقل، والرؤى، والمنامات، والذوق، والوجد، والأئمة المعصومين كما يظن ولو كان ذلك على خلاف كتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم- وما اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم ؟
نكون مخطئين حينما نظن أن من فعل ذلك أو شيئاً منه قد حقق الإيمان الذي تدل عليه كلمة التوحيد …كلمة لا إله إلا الله ؛لأن كلمة التوحيد ليست مجرد شعار يردده العبد وينتهي الأمر ، بل إنها منهج حياة متكامل ينظم الشعور، والأحاسيس والمشاعر، ويضبط العلاقة بين الدين والحياة ليسيرا جميعاً في نسق واحد وليصبا في نقطة واحدة … وهي تحقيق الخضوع والتسليم لله رب العالمين.


بحث سريع