نفحات رمضان في ترجمة ابن عباس ترجمان القرآن

بواسطة | هيئة التحرير
2007/09/11
بمناسبة شهر رمضان المبارك, واختصاص هذا الشهر بالقرآن الكريم, فقد رأى إخوانكم في موقع آل البيت أن يقدموا ترجمة ابن عباس – رضي الله عنهما – وهو أحد أئمة آل البيت , الذين أمضوا حياتهم في تفسير القرآن وتعليمه لأمة نبيهم – صلى الله عليه وسلم – .

ترجمان القرآن:

أبو العباس عبد الله ، ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي, الهاشمي .
ولد وبنو هاشم بالشعب قبل عام الهجرة بثلاث سنين.
( وأمه ؛ هي أم الفضل لبابة بنت الحارث بن حزن بن بجير الهلالية، من هلال بن عامر.
وله جماعة أولاد؛ أكبرهم: العباس – وبه كان يكنى – وعلي أبو الخلفاء – وهو أصغرهم – والفضل, ومحمد, وعبيد الله، ولبابة, وأسماء.
وكان وسيماً, جميلاً, مديد القامة,، مهيباً, كامل العقل, ذكي النفس، من رجال الكمال.
وأولاده: الفضل , ومحمد , وعبيد الله , ماتوا ولا عقب لهم.
ولبابة, ولها أولاد,وعقب من زوجها علي بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب, وبنته الأخرى أسماء, وكانت عند ابن عمها عبد الله بن عبيد الله بن عباس, فولدت له: حسناً وحسيناً.انتقل ابن عباس مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح ، وقد أسلم قبل ذلك, فإنه صح عنه أنه قال:
كنت أنا وأمي من المستضعفين, أنا من الولدان, وأمي من النساء )[1] .
طلب ابن عباس للعلم:
لازم ابن عباس – رضي الله عنهما – رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصغر, فكان كثيرا ما يذهب عند خالته أم المؤمنين ميمونة – رضي الله عنها – , وفي يوم ما كان في البيت النبوي, فرأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدخل الخلاء, فوضع له وضوءا, فعندما خرج – عليه الصلاة والسلام – قال : ((من وضع هذا)), فأخبرته أم المؤمنين بأنه ابن عباس.
فقال:(( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) [2] .
وقد ذكر أهل العلم: أن مناسبة الدعاء لابن عباس بالتفقه على وضعه الماء من جهة أنه تردد بين ثلاثة أمور:
1- أن يدخل بالماء إلى الخلاء ويعطيه الرسول– صلى الله عليه وسلم -.
2- أن يضعه على الباب ليتناوله الرسول – صلى الله عليه وسلم – من قرب.
3- أن لا يفعل شيئا من ذلك.
فرأي الثاني أوفق , لأن في الأول تعرضا للاطلاع، والثالث يستدعي مشقة في طلب الماء، والثاني أسهلها، ففعله يدل على ذكائه، فناسب أن يدعي له بالتفقه في الدين ليحصل به النفع، وكذا كان)).
وقد علمه الرسول – صلى الله عليه وسلم – الكلمات النافعة الجامعة المشهورة.
فعن ابن عباس -رضي الله عنها- قال: كنت خلف النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال:
» يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء , لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء, لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, رفعت الأقلام وجفت الصحف«[3] .
فارجع البصر في هذا الحديث, وتدبر ما تضمنه من قواعد كلية من أهم أمور الدين, حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث, فأدهشني وكدت أطيش, فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث, وقلة التفهم لمعناه[4].
وعندما انتقل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى الرفيق الأعلى, قام ابن عباس بملازمة علماء الصحابة –رضي الله عنهم – , فأخذ عنهم الفقه , وتفسير القرآن , والمغازي وغيرها من علوم الشريعة.
قال ابن عباس :
( لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنهم اليوم كثير.
فقال: واعجبا لك يا ابن عباس!! أترى الناس يحتاجون إليك ، وفي الناس من أصحاب النبي –عليه الصلاة والسلام- من ترى ؟!
فترك ذلك, وأقبلت على المسألة ، فإن كان ليبلغني الحديث عن رجل, فآتيه وهو قائل ، فأتوسد ردائي على بابه, فتسفي الريح عليّ التراب ، فيخرج, فيراني, فيقول: يا ابن عم رسول الله! ألا أرسلت إلي فأتيك؟
فأقول : أنا أحق أن آتيك, فأسألك
قال: فبقي الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس عليّ, فقال: هذا الفتى أعقل )[5] .
وقد كان يلقى ابن عباس – رضي الله عنهما – من الصحابة المحبة والاحترام والتعظيم, لقرابته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .
فعن الشعبي قال: (ركب زيد بن ثابت, فأخذ ابن عباس بركابه, فقال: لا تفعل يا ابن عم رسول الله.
قال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا.
فقال: زيد أنى يداك؟ فأخرج يديه فقبلهما, فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا )[6].
يقول ابن عباس :(كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار, فأسألهم عن مغازي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وما نزل من القرآن في ذلك, وكنت لا آتى أحدا منهم إلا سر بإتياني إليه لقربي من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- , فجعلت أسأل أبى بن كعب يوما -وكان من الراسخين في العلم- عما نزل من القرآن بالمدينة فقال: نزل سبع وعشرون سورة وسائرها مكي)[7] .
نباغته وظهوره على أقرانه:
لم يزل ابن عباس مجتهداً في تحصيل العلم, وأخذه من أكابر الصحابة, بلسان سؤول وقلب عقول, فبلغ مبلغاً عظيماً في العلم, ففاق أقرانه ومن هم في مثله من العمر.
وعندما رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – نبوغه واجتهاد في العلم قام بإدخاله مع أهل الشورى أصحاب بدر,فكان بعض أهل الشورى ينكر إدخاله معهم لصغر سنه.
فأحب عمر أن يريهم فضله وسعة علمه مع صغر سنه .
فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: ((كان عمر – رضي الله عنه – يدخلني مع أشياخ بدر, فكأن بعضهم وجد , فقال: لم تدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله ؟!ُ فقال عمر: إنه من حيث علمتم فدعاه ذات يوم فأدخله معهم, فما رُئِيتُ أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم, قال: ما تقولون في قول الله تعالى: }إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ{ فقال: بعضهم أُمِرْنَا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ قلت: لا.
قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله — صلى الله عليه وسلم – أعلمه له قال: }إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ{ وذلك علامة أجلك, }فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا{. فقال: عمر ما أعلم منها إلا ما تقول))[8].
وكان عمر – رضي الله عنه –يقول: (لا يلومني أحد على حب ابن عباس )[9] .
وعن سعد بن أبى وقاص – رضي الله عنه – قال: (ما رأيت أحداً أحضر فهماً ، ولا ألب لباً ، ولا أكثر علماً ، ولا أوسع حلماً من ابن عباس, ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات ثم يقول: عندك قد جاءتك معضلة ، ثم لا يجاوز قوله ، وإن حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار)[10] .
وقد نظر الحطيئة الشاعر إلى ابن عباس في مجلس عمر, وقد فرع بكلامه فقال: من هذا الذي نزل عن القوم بسنه وعلاهم في قوله؟!
قالوا: هذا ابن عباس فأنشأ يقول:
إني وجدت بيان المرء نافلة * يهدي له ووجدت العي كالصمم
المرء يبلى ويبقى الكلم سائرة * وقد يلام الفتى يوما ولم يلم
سعة علمه:
لقد كان ابن عباس – رضي الله عنهما – بحق حَبْرَ الأمة ، وفقيه العصر ، وإمام التفسير [11] . حتى وصف بأنه » ترجمان القرآن « [12] . ولا غرابة في ذلك ، إذ دعا له النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله : » اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين « [13] .
وروى الفَسَوي في تاريخه بإسناد صحيح عن ابن مسعود – رضي الله عنه –
قال : ( لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل ) . وكان يقول : ( نعم ترجمان القرآن ابن عباس ) [14]. وذكر هذه الزيادة ابن سعد في الطبقات من طريق آخر عن عبد الله بن مسعود [15] .
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال: (ابن عباس أعلم الناس بما أنزل الله على محمد – صلى الله عليه وسلم- )[16]
وروى الفَسَوي أيضاً بإسناد صحيح عن أبي وائل قال : » قرأ ابن عباس سورة النور ، ثم جعل يفسرها ، فقال رجل : لو سمعت هذا الديلم لأسلمت «[17].
ولم يكن ابن عباس – رضي الله عنهما – متضلعاً في علم التفسير فحسب ، بل كان جامعاً لعلوم أخرى وهي الفقه والمغازي والشعر واللغة وأيام العرب , فكان يسمى البحر لكثرة علومه.
فعن أبي صالح قال: (لقد رأيت من ابن عباس مجلسا لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها به الفخر, لقد رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق, فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا يذهب, قال: فدخلت عليه, فأخبرته بمكانهم على بابه, فقال لي: ضع لي وضوءا, قال: فتوضأ وجلس, وقال: اخرج فقل: لهم من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أريد منه فليدخل, قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة, فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم عنه وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر,ثم قال: إخوانكم فخرجوا, ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل, قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة, فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله أو أكثر, ثم قال: إخوانكم فخرجوا,ثم قال: اخرج, فقل: من كان يريد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل, فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة, فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم مثله أو أكثر, ثم قال: إخوانكم فخرجوا, ثم قال: اخرج فقل: من كان يريد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل, فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة, فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله, ثم قال: إخوانكم فخرجوا, قال أبو صالح: فلوا أن قريشا كلها فخرت بذلك لكان فخرا, فما رأيت مثل هذا لأحد من الناس).[18]
وعن عبيد الله بن عتبة قال: كان ابن عباس قد فات الناس بخصال. بعلم ما سبق إليه, وفقه فيما احتيج إليه من رأيه, وحلم ونسب ونائل, وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – منه, ولا بقضاء أبى بكر وعمر وعثمان منه, ولا أفقه في رأى منه, ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا تفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه, ولا أعلم فيما مضى ولا أثقب رأيا فيما احتيج إليه منه, ولقد كان يجلس يوماً ما يذكر فيه إلا الفقه, ويوماً ما يذكر فيه إلا التأويل, ويوماً ما يذكر فيه إلا المغازى, ويوماً الشعر, ويوماً أيام العرب, وما رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له, ولا وجدت سائلاً سأله إلا وجد عنده علماً, قال: وربما حفظت القصيدة من فيه ينشدها ثلاثين بيتا) [19] .
وقال عطاء: ما رأيت مجلساً أكرم من مجلس ابن عباس, أكثر فقهاً, ولا أعظم هيبة ,أصحاب القرآن يسألونه , وأصحاب العربية, يسألونه وأصحاب الشعر عنه يسألونه, فكلهم يصدر في واد أوسع) [20] .
وكان مسروق يقول: (كنت إذا رأيت ابن عباس، قلت: أجمل الناس, فإذا نطق, قلت: أفصح الناس, فإذا تحدث, قلت: أعلم الناس)[21] .
وعن مجاهد، قال:
(ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عباس، إلا أن يقول قائل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -)[22] .
وقال ابن حزم في كتابه ( الإحكام ) : (جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون أحد أئمة الإسلام فتاوى ابن عباس في عشرين كتاباً) [23] .
وقد تتلمذ على يد ابن عباس – رضي الله عنه – جلة التابعين ومنهم : مجاهد بن جبر ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة مولاه ، وأبو العالية الرياحي ، وطاووس بن كيسان ، وعطاء بن أبي رباح ، والسدِّي صاحب التفسير ، وأبو الزبير المكي المقرئ ، وغيرهم [24] .
وذكر الحافظ المزي في التهذيب : أن الرواة عنه مائتان سوى ثلاثة أنفس[25].
وبلغ ابن عباس – رضي الله عنه – من مجد التعليم غايته ، ذلك أن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – خرج حاجاً ، وخرج ابن عباس حاجاً أيضاً ،ولم يكن له صولة ولا إمارة ، فكان لمعاوية موكب من رجال دولته ، وكان لابن عباس موكب يفوق موكب الخليفة من طلاب العلم[26].
شيء من عبادته:
قد كان -رضي الله عنه- عابداً خاشعاً, كثير البكاء من خشية الله.
فعن شعيب بن درهم قال: (كان في هذا المكان – وأومأ إلى مجرى الدموع من خديه يعنى خدي ابن عباس – مثل الشراك البالى من البكاء) [27].
وكان يصوم يوم الاثنين والخميس ويقول: (أحب أن يرتفع عملي وأنا صائم) [28].
وقال ابن أبى مليكة:
(صحبت ابن عباس من المدينة إلى مكة ، وكان يصلى ركعتين ، فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القرآن حرفا حرفا ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب ويقرأ : {وَجَاءتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ، ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيْدُ} [ق: 19] )[29] .
ويقول عكرمة:
(أنه – أي ابن عباس- لم يكن يدخل الحمام إلا وحده، وعليه ثوب صفيق، يقول: إني أستحي اللهَ أَن يراني في الحمام متجرداً)[30] .

شيء من أخلاقه:

كان خلق ابن عباس – رضي الله عنهما – بمنزلة علمه الواسع وليس دونه, فكان حليما, متواضعا, نافعا للناس, راحما للصغير, موقرا للكبير.
وعندما ولاه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – إمارة البصرة, يقول ابن كثير: (كان أهل البصرة مغبوطين به, يفقههم, ويعلم جاهلهم, ويعظ مجرمهم, ويعطى فقيرهم)[31] .
وقد ورد صعصعة بن صوحان على علي بن أبى طالب من البصرة فسأله عن ابن عباس -وكان على خلفه بها- فقال صعصعة: (يا أمير المؤمنين, إنه آخذ بثلاث وتارك لثلاث, آخذ بقلوب الرجال إذا حدث, وبحسن الاستماع إذا حُدّث, وبأيسر الأمرين إذا خولف. وترك المراء, ومقارنة اللئيم, وما يعتذر منه)[32].
وقد كان ابن عباس قائما بحاجات الناس, فيقضي دين المعسرين, ويشفع لهم عند الخلفاء والسلاطين.
فعن حبيب بن أبي ثابت:
(أَن أبا أيوب الأنصاري- رضي الله عنه _ أتى معاوية- رضي الله عنه -، فشكا ديناً، فلم ير منه ما يحب، فقدم البصرة، فنزل على ابن عباس، ففرغ له بيته، وقال:
لأصنعن بك كما صنعت برسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال: كم دينك؟
قال: عشرون ألفاً.
فأعطاه أربعين ألفاً، وعشرين مملوكاً، وكل ما في البيت)[33] .
وقال حسان بن ثابت- رضي الله عنه – : بدت لنا معشر الأنصار إلى الوالي حاجة, وكان الذي طلبنا إليه أمرا صعبا, فمشينا إليه برجال من قريش وغيرهم, فكلموه وذكروا له وصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بنا, فذكر صعوبة الأمر, فعذره القوم وخرجوا, وألح عليه ابن عباس, فوالله ما وجد بدا من قضاء حاجتنا, فخرجنا حتى دخلنا المسجد, فإذا القوم أندية.
قال حسان: فضحكت -وأنا أسمعهم- إنه والله كان أولاكم بها, إنها –والله- صبابة النبوة, ووراثة أحمد -صلى الله عليه وسلم-, وتهذيب أعراقه, وانتزاع شبه طبائعه.
فقال القوم: أجمل يا حسان.
فقال ابن عباس: صدقوا.
فأنشأ حسان يمدح ابن عباس -رضي الله تعالى عنهم- قائلاً:
إِذَا مَا ابْنُ عَبَّاسٍ بَدَا لَكَ وَجْهُهُ * رَأَيْتَ لَهُ فِي كُلِّ أَقْوَالِهِ فَضْلاَ
إِذَا قَالَ لَمْ يَتْرُكْ مَقَالاً لِقَائِلٍ * بِمُنْتَظَمَاتٍ لاَ تَرَى بَيْنَهَا فَصْلاَ
كَفَى وَشَفَى مَا فِي النُّفُوْسِ فَلَمْ يَدَعْ * لِذِي أَرَبٍ فِي القَوْلِ جِدّاً وَلاَ هَزْلاَ
سَمَوْتَ إِلَى العَلْيَا بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ * فَنِلْتَ ذُرَاهَا لاَ دَنِيّاً وَلاَ وَغْلاَ
خُلِقْتَ حَلِيْفاً لِلمُرُوْءةِ وَالنَّدَى * بَلِيْجاً وَلَمْ تُخْلَقْ كَهَاماً وَلاَ خَبْلاَ [34]
وبرغم هذه الأخلاق الكريمة, والصفات النبيلة, التي في ابن عباس- رضي الله عنهما-,إلا أن السفهاء الذين لا يتورعون عن سب الصحابة وآل البيت قد ناله شتمهم!!فقد أتى رجل يشتم ابن عباس, فقال له ابن عباس: ( إنك لتشتمني وفي ثلاث, إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأحبه ولعلي لا أقاضي إليه أبداً, وإني لأسمع بالغيث يصيب البلاد من بلدان المسلمين فأفرح به وما لي بها سائمة ولا راعية, وإني لآتي على آية من كتاب الله تعالى فوددت أن المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم)[35] .
فانظر إلى كلام ابن عباس لمن شتمه, فإن فيه عزاء لنا معاشر أتباع الصحابة وآل البيت – رضي الله عنهم – ,ولمن يواجه أمثال هؤلاء من المنحرفين – هداهم الله إلى الحق والهدى- , قال تعالى: (( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {34} وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {35} )) [فصلت].

حكم وأقوال مأثورة عنه:

كان – رضي الله عنه – له من الكلمات الحكيمة , والمواعظ البليغة , التي تؤثر في سامعها وقارئها , وتسكن في قلبه, وتغرس فيه احتقار الدنيا, وشرف الآخرة , وسنقوم بعرض شيء منها هاهنا.
فقد جاء إليه رجل يقال له جندب فقال له: (أوصني, فقال: أوصيك بتوحيد الله والعمل له, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, فان كل خير آتيه أنت بعد ذلك منك مقبول, وإلى الله مرفوع, يا جندب إنك لن تزدد من موتك إلا قربا, فصل صلاة مودع. واصبح فى الدنيا كأنك غريب مسافر, فإنك من أهل القبور, وابك على ذنبك, وتب من خطيئتك, ولتكن الدنيا عليك أهون من شسع نعلك, فكأن قد فارقتها, وصرت إلى عدل الله, ولن تنتفع بما خلفت, ولن ينفعك إلا عملك)[36].
وقال بعضهم: (أوصى ابن عباس بكلمات خير من الخيل الدهم, قال: لا تكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى له موضعا, ولا تمار سفيها ولا حليما فان الحليم يغلبك والسفيه يزدريك, ولا تذكرن أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذي تحب أن يتكلم فيك إذ تواريت عنه, واعمل عمل من يعلم أنه مجزي بالإحسان مأخوذ بالإجرام. فقال رجل عنده: يابن عباس! هذا خير من عشرة آلاف. فقال ابن عباس: كلمة منه خير من عشرة آلاف)[37] .
وقال ابن عباس: (تمام المعروف تعجيله وتصغيره وستره, – يعنى أن تعجل العطية للمعطى, وأن تصغر في عين المعطي – وأن تسترها عن الناس فلا تظهرها! فإن في إظهارها فتح باب الرياء, وكسر قلب المعطى, واستحياءه من الناس) [38] .
وقال ابن عباس: ( أعز الناس على جليس لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت.
وقال أيضا: لا يكافئ من أتاني يطلب حاجة فرآني لها موضعاً إلا الله عز وجل, وكذا رجل بدأني بالسلام, أو أوسع لي في مجلس, أو قام لي عن المجلس, أو رجل سقاني شربة ماء على ظمأ, ورجل حفظني بظهر الغيب) [39] .

وفاته:

كان ابن عباس – رضي الله عنهما- قد أضر في آخر عمره, فاستدعوا له طبيباً ليقوم بعلاجه, فرأى الطبيب أنه وقع في عينيه الماء فقال له الطبيب: ننزع من عينيك الماء على أن لا تصلى سبعة أيام. فقال ابن عباس: لا! إنه من ترك الصلاة وهو يقدر عليها لقي الله وهو عليه غضبان[40].
وقد قال – رضي الله عنه- حين عمي:
إِنْ يَأْخُذِ اللهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا * فَفِي لِسَانِي وَقَلْبِي مِنْهُمَا نُورُ
قَلْبِي ذَكِيٌّ، وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ * وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ [41]
فلما كان في سنة ثمان وستين توفى ابن عباس بالطائف, وصلى عليه محمد بن الحنفية, فلما وضعوه ليدخلوه في قبره , جاء طائر أبيض لم يُر مثل خلقته, فدخل في أكفانه والتف بها حتى دفن معه ، فلما وضع في اللحد تلا تال لا يعرف من هو: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفَجْرُ: 27]، الآية[42] .
وأورد الإمام الذهبي عدت روايات لهذا الأثر ثم قال:
(فهذه قضية متواترة)[43] .
فعاش هذا الإمام – رضي الله عنه- مع القرآن, وأفنى عمره في تفسير القرآن, ومات على القرآن, فما أعظم أثر آل بيت النبوة على الأمة الإسلامية عندما يقودها إلى التمسك بالقرآن ,وسنة جدهم المصطفى – صلى الله عليه وسلم -!
ومن الجدير بالذكر أن أبناء العباس عم النبي – صلى الله عليه وسلم – عشرة وهم: الفضل, وعبد الله, وعبيد الله, ومعبد, وقثم, وعبد الرحمن, وكثير, والحارث, وعون, وتمام وكان أصغرهم تمام ,ولهذا كان يحمله ويقول:
تموا بتمام فصاروا عشرة * يا رب فاجعلهم كراماٌ بررة *واجعلهم ذكراً وانم الثمرة
فأما الفضل فمات بأجنادين شهيداً, وعبد الله بالطائف, وعبيد الله باليمن, ومعبد وعبد الرحمن بإفريقية, وقثم وكثير بينبع, وقيل: إن قثماً مات بسمرقند.
وقد قال مسلم بن حماد المكى مولى بنى مخزوم: (ما رأيت مثل بنى أم واحدة أشراف ولدوا في دار واحدة أبعد قبوراً من بنى أم الفضل) [44].
فرضي الله عنهم وألحقنا بهم في جنات النعيم , والله تعالى أعلم.


[1] الذهبي : سير أعلام النبلاء 3/331 .
[2] أخرجه أحمد في المسند 1/266 ، 316 ، وصححه الحاكم في مستدركه ووافقه الذهبي 3/534 .
[3]رواه الترمذي , رقم (2516), وقال: حديث حسن صحيح
[4] ابن رجب: جامع العلوم والحكم1 (1/462 ) , نقله عن أحد العلماء .
[5] ابن كثير: البداية والنهاية (8/283) .
[6] ابن كثير: البداية والنهاية (8/286) .
[7] ابن كثير: البداية والنهاية (8/283) .
[8] رواه البخاري, رقم 4970.
[9] .(الذهبي: سير أعلام النبلاء (3/346
[10] ابن كثير: البداية والنهاية (8/285) .
[11] الذهبي : سير أعلام النبلاء 3/331 .
[12] ابن سعد : الطبقات 2/366 .
[13] أخرجه أحمد في المسند 1/266 ، 316 ، وصححه الحاكم في مستدركه ووافقه الذهبي 3/534 .
[14] الفَسَوي : المعرفة والتاريخ 1/495 .
[15] ابن سعد : الطبقات 2/366 .
[16]ابن كثير: البداية والنهاية (8/285) .
[17] الفَسَوي : المعرفة والتاريخ 1/495 .
[18] ابن كثير: البداية والنهاية (8/287) .
[19] ابن كثير: البداية والنهاية (8/286) .
[20] ابن كثير: البداية والنهاية (8/286) .
[21] ابن كثير: البداية والنهاية (8/287) .
[22] الذهبي : سير أعلام النبلاء (3/ 350) .
[23] ابن حزم : الإحكام في أصول الأحكام 5/92
[24] الذهبي : سير أعلام النبلاء 3/333 .
[25] الذهبي : المصدر نفسه 3/333 .
[26]الذهبي : المصدر نفسه 3/351 .
[27] ابن كثير: البداية والنهاية (8/288) .
[28] ابن كثير: البداية والنهاية (8/288) .
[29] ابن كثير: البداية والنهاية (8/288) .
[30] الذهبي : سير أعلام النبلاء (3/355 ).
[31] ابن كثير: البداية والنهاية (8/289) .
[32] ابن كثير: البداية والنهاية (8/285) .
[33]الذهبي : سير أعلام النبلاء (3/352 ).
[34] الذهبي : سير أعلام النبلاء (3/353 ) , والطبراني: المعجم الكبير (4/43).
[35] ابن كثير: البداية والنهاية (8/288)
[36] ابن كثير: البداية والنهاية (8/288)
[37]ابن كثير: البداية والنهاية (8/289)
[38]ابن كثير: البداية والنهاية (8/289)
[39]ابن كثير: البداية والنهاية (8/289)
[40]ابن كثير: البداية والنهاية (8/290)
[41]ابن كثير: البداية والنهاية (8/290)
[42]ابن كثير: البداية والنهاية (8/291)
[43] الذهبي : سير أعلام النبلاء 3/358 .
[44]ابن كثير: البداية والنهاية (8/291)




 

بحث سريع