كان في مهنة أهله

بواسطة | د.عبدالكريم بكار
2005/11/21
هذا العنوان جملة من حديث نبوي مأثور ، قالت فيه أمنا عائشة رضي الله عنها عن حال النبي صلى الله عليه و على آله و سلم في بيته :" كان في مهنة أهله (( يعني : خدمتهم )) ، و كان يخيط ثوبه ، و يخصف نعله ، و يرقع دلوه ، و يحلب شاته ، و يخدم نفسه " . ( الفتح : 10 / 461 ) .
لا نكون مبالغين إذا قلنا : إن العربي في الجاهلية كان يبطن نوعاً العداء للصنائع ، و لا زال ، و يأنف من الأعمال الخدمية التي يباشرها المرء بنفسه !
و لما بعث الله محمداً صلى الله عليه و على آله و سلم بالهدى و الرحمة ، كان مما جاء به محاولته اقتلاع العادات السيئة التي تنتشر في المجتمع ، و تأسر النفس بهالة فارغة مصطنعة ، فكان عليه الصلاة والسلام يقدم من خلال سلوكه الشخصي في البيت لأزواجه ، و أولاده ، و زواره و جيرانه ، قدوة حسنة .
في البيت لا يخشى المرء من رقيب ، و لا ضيف يتصنع له في أعماله أو أحواله ، و مع هذا نجده عليه الصلاة والسلام يقوم بمهنة أهله ، و يخيط ثوبه ، و يخصف نعله .. و إذا كان هذا حاله في البيت فكيف بخارجه ؟!
إذا استحضرت كثرة المهام و المشاغل و الواجبات التي تحيط بالنبي صلى الله عليه وسلم ، أدركت جانباً مهماً من حياة العظماء ، إنهم يقومون بالأعمال اليدوية التي يحتاجونها ، و يخدمون أنفسهم و من حولهم ، و لا يجدون في ذلك غضاضة من مقاماتهم الرفيعة ، بل من أسرار سعادة هؤلاء تقربهم إلى الله بتك الأعمال ، فتنقلب مباحاتهم و أغراضهم الشخصية إلى طاعات محضة بحسن النية و إخلاص الارادة لله تعالى .
و لقد أثمر هذا السلوك النبوي في عدد من كبار الصحابة رضي الله عنهم ، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقوم بحلب شاة المرأة العجوز ، و هو خليفة ! و عمر رضي الله عنه يشاهده الناس يقوم بمداواة إبل الصدقة بنفسه بالقطران ، و هو خليفة !
و تلك الخلال و الصفات لم تتأصل في المجتمع المسلم بشكل كبير ، إذ سرعان ما أضاعت حوادث الزمان و نقص المستوى الايماني كثيراً من سلوكيات و أحوال المجتمع المسلم النقي ، فعاد إلى الناس شيئاً فشيئاً احتقار المهن و العمل اليدوي .. و لعل هذا من أهم أسباب تخلف جميع الدول العربية في المجال الصناعي على نحو خاص اليوم .
إن كثيراً من طلاب العلم و الدراسة في الجامعات و الكليات و المعاهد لا يقصدون من العمل إلا نيل الشهادة و تحقيق الجاه ، و الهروب الذريع من العمل المهني . بل الأدهى و الأمر أنك تجد ضمن دائرة المؤسسات المهنية المتخصصة كالمعاهد الفنية و غيرها عزوفاً كبيراً من طلبتها و خريجيها عن الالتحاق بالأعمال المهنية !!
تساءل أحد المفكرين قائلاً : لماذا نجد رئيس جامعة في أمريكا – مثلاً – يقوم بإصلاح سيارته في ورشته و دهان سور منزله و تنسيق حديقته بينما يأنف أصغر موظف في مجتمع العرب من القيام بأبسط الأعمال اليدوية ؟!
ثم قال : سؤالٌ ساذج ! لأن الاجابة عليه تكمن في الفروق و الفجوات الحضارية بين المجتمع الأمريكي و المجتمع العربي [1].
علينا أن نتخلص من مظاهر الرقي الشكلي الذي لا يخفي وراءه إلا شخصية هزيلة عاطلة عن أي منفعة !!
—–
المصدر : مدخل إلى التنمية المتكاملة للدكتور عبدالكريم بكار ، ص 276-278 ، بتصرف .



[1] انظر: ثقب في جدار التخلف ص 47 .

بحث سريع