الإحياء السني

بواسطة | د. محمد العبدة
2005/11/26

تمهيد:
عندما قضى السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي على معظم قلاع ومراكز الحشاشين الباطنية، والتي تمركزت في إقليم فارس وحول بحر قزوين، عندما قضى عليهم علّق المؤرخ الجويني بقوله: "لقد استراح المسلمون، بل استراح العالم". فهذا المؤرخ يعتبر أن العالم كله -بمن فيهم الكفار- قد استراحوا من هذه الفئة التي اتخذت الاغتيالات وسيلتها وسبيلها. قال الشيخ رشيد رضا متحدثاً عن القرامطة : "عاثوا في الأرض فساداً وهدموا المساجد، ولم يكن في الحروب الصليبية على طولها في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة مثلما كان على عهد القرامطة"
(1). ويؤيد كلمة الجويني -وأن ما يفعله هؤلاء شيء لا يفعله الكفار الأصليون- ما ذكره القاضي عياض عن الدولة العبيدية والتي تُسمّى بـ الفاطمية قال: "وكان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد في حالة شديدة في الاهتضام والتستر، ولما أظهر بنو عبيد أمرهم نصبوا حسيناً الأعمى السباب – لعنه الله- في الأسواق لسبّ الصحابة توصلاً إلى سبّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تكلم من علماء السنة قتل، كما فعل عبيد الله سنة (309) هـ بقتل الفقيه حسن بن مفرج؛ لأنه بلغه أنه يفضل بعض الصحابة على علي"(2).
إن من بدع هذا العصر أن يُروّج مصطلح ما ويستسلم الناس له، ويغدو مألوفاً وكأنه حقيقة لا تقبل المجادلة أو الردّ. والإعلام الموجه أو السطحي يرسخ هذا المفهوم. فقد روّجت الصهيونية مصطلح (السامية)، وأصبح كل من ينتقد تصرفات اليهود أو الصهيونية فهو معاد للسامية، وتحول هذا إلى تهمة وسيف مسلط على كل من يتكلم -ولو بحق- عن أي سلوك لأي شخصية يهودية في العالم
(3)، وشبيه بهذا مصطلح (الطائفية)؛ إذ يُمارس الإرهاب الفكري، وبمجرد أن تذكر السنة وأهل السنة حتى تُتّهم بأنك طائفي، وهذا تمييع للأمور حتى تلتبس على الناس المناهج، وحتى يصبح من العيب أن تذكر (أهل السنة) مع أنهم هم جمهور الأمة الإسلامية، وهم أبعد الناس عن الطائفية بمعناها الضيق، وهم بناة الحضارة الإسلامية؛ لأن الفرق الأخرى بسبب غلوّها وعيشها ضمن دائرة مغلقة في الفكر لا تستطيع إنتاج حضارة، فهي تعيش تحت وقع اللامعقول والأحزان الدائمة والكره للآخرين، والحضارة تقوم على التسامح والحوار وليس على الحقد، ولذلك نقول: نعم يجب أن نتكلم عن الإحياء السني؛ لأنه يمثل العدل والرحمة والإنصاف، وهو خير لكل المسلمين وللبشرية، كما يقول الشيخ عبد الحميد بن باديس: "نهضتنا بُنيت على الدين فكانت سلاماً على البشرية، لا يخشاها –والله- النصراني لنصرانيته، ولا اليهودي ليهوديته، بل ولا المجوس لمجوسيته، ولكن يجب أن يخشاها الظالم لظلمه، والدجّال لدجله والخائن لخيانته.."(4). وأهل السنة هم الذين دافعوا عن الإسلام طوال العصور، دافعوا الصليبيين والتتار، ودافعوا الاستعمار الغربي الحديث في المغرب العربي والشام ومصر وداغستان.. وإذا كان الحديث ضرورياً عن الإحياء السني من الناحية العقدية والفكرية والتجربة التاريخية، وبخاصة عندما تزداد المحن، وتتوالى الأزمات، ويرجع الناس إلى ما يوحّدهم ويبرز هويتهم فإننا سنتحدث عن تجربة هي مثال من تجارب كثيرة تعطينا الضوء على نجاح باهر تحقّق عندما عادت الأمة إلى وحدتها وهويتها، وكانت رجوعاً للحق وزهوقاً للباطل.
الإحياء السني وتجربة صلاح الدين:
عندما وصلت الحملة الصليبية الأولى إلى بلاد الشام عام 491هـ كانت بلاد الشام ومصر في حالة مزرية من الضعف والانقسام، وكذلك كانت الخلافة العباسية في بغداد، ليس لها من الخلافة إلا الاسم والرمز.
وجدت الحملة الصليبية مدناً خالية من التحصينات لا يربط بينها نظام دفاعي، وإن وقع دفاع فهو من قبل المتطوعين، وليس من الجيوش الرسمية، وإذا استطاعت مدينة مثل أنطاكية أن تواجه الغزاة وحدها وتصمد مدة تسعة أشهر، ولكن لا أحد من المدن المجاورة هب لنجدتها. كان الحكام موزعي الأهواء والولاءات، شغل كل واحد منهم الحفاظ على مدينته أو إقطاعه، لقد فقدوا الإحساس بالمسؤولية الدينية والخلقية وبعضهم تآمر مع الأعداء ففي عام 492هـ وقع أول هجوم صليبي على مدينة عسقلان بعد احتلال القدس، وقد استغرب الوزير الفاطمي (الأفضل) هذا الهجوم، فقد كانت له اتصالات بالصليبيين في المراحل الأولى في حملتهم، بلغت حد تحريضهم والتحالف معهم على تقاسيم الشام، الجنوب للفاطميين والشمال للغزاة
(5) وفي عام 523هـ قام أحد دعاة الباطنية من فرقة الحشاشين بمراسلة الفرنجة ليسلم إليهم دمشق ويسلموا له مدينة صور واتفقوا على ذلك، فبلغ الخبر متولي دمشق (بوري بن طغتكن) فاستدعى رئيس هذه الطائفة وقتله، ونادى في البلد بقتل الباطنية. وكفى الله المسلمين شرهم(6). وفي عام 569هـ اجتمع جماعة من دعاة الفاطميين وبعض العوام، وتآمروا فيما بينهم خفية، وأجمعوا على أن يقيموا خليفة ووزيراً، وقرروا أن يكاتبوا الفرنج، وأدخلوا معهم في هذا الأمر بعض النصارى واليهود، وراسلوا ملك صقلية النورماندي، واتفقوا مع رشيد الدين سنان شيخ الجبل الإسماعيلي في (مصياف)(7) لاستغلال خناجر مريديه لاغتيال صلاح الدين، وقالوا له: الدعوة واحدة والكلمة جامعة…"(8) وقد تعرض فعلاً صلاح الدين إلى عدة محاولات لاغتياله من قبل هؤلاء الحشاشين، ولكن الله نجاه منهم. ولم يسلم منهم في العصر الحديث أيضاً؛ إذ تعرض لحملة تشويه من قبل حسن عبد المحسن الأمين، حيث وصف صلاح الدين بكلمات سوقية بأنه (مخادع) (استسلامي) وأنه (مجرم) يستحق القتل!! ووصف المؤرخين السنة بأوصاف لا تصدر إلا عن سفه وحقد دفين فقال عن أبي شامة: إنه (بذيء) وابن كثير (سفيه) ومحمد كرد علي (صاحب الأباطيل)(9).
ونعود إلى الدولة العبيدية التي انتهت على يد صلاح الدين، فقد وُصفت قصور هذه الدولة بأنها مملوءة بالمنكرات والبدع، وبها عسكر من الأرمن، باقون على النصرانية، وكانت لهم شوكة هذا الوضع الفاسد الذي وصفناه في الأسطر السابقة، تغير عندما بدأت مرحلة الجهاد واسترجاع المدن الإسلامية من أيدي الفرنجة، بدأ هذا عماد الدين زنكي، ثم ابنه نور الدين محمود، وتوحدت بلاد الشام تحت قيادة نور الدين، وكان من خيار الملوك حزماً وعزماً وعدلاً، وجاءت فرصة لإعادة مصر إلى السنة وإنهاء الدولة الباطنية فيها، وذلك عندما استنجد وزيرهم (شاور) بنور الدين، وكانت الدولة العبيدية تستنصر بالصليبيين تارة وبالدولة في الشام تارة أخرى، فكانت فرصة للقضاء على هذا التذبذب، ولتوحيد الجبهة الإسلامية أمام خطر الفرنجة، والذي قام بهذه الخطوة هو صلاح الدين، وبطلب وإلحاح من نور الدين في دمشق، وكان صلاح الدين قد أعد لهذا الأمر عدته، ومهّد له، يساعده في ذلك ويؤازره بفكره وقلمه ومعرفته بمصر وقصور الفاطميين الكاتب والإداري والوزير عبد الرحيم البيساني العسقلاني الملقب بـ (القاضي الفاضل).
أعاد صلاح الدين مصر إلى السنة، وبدأ بفتح المدارس ونشر العلم وأعاد فريضة الزكاة التي كانت الدولة الفاطمية قد ألغتها، وكان هذا إيذاناً بعودة مذهب أهل السنة، وجعل الزكاة هي البديل عن المكوس والرسوم غير الشرعية. وزُفّت البشائر إلى الخلافة العباسية في بغداد، ويكتب القاضي الفاضل الرسائل يظهر فيها حقيقة هؤلاء الباطنية، كما تظهر هذه الرسائل وعي هذا الوزير ووعي العلماء لخطورة هذه الدولة، وما تفرغ عنها من فرق يقول في رسالة: "أكتب إليكم وعلم الجهاد مرفوع، وسبب الفساد مقطوع، وقد توالت الفتوح غرباً ويمناً وشاماً، وأضحى الدين واحداً بعدما كان أدياناً، والخلافة إذا ذكر بها أهل الخلاف لم يخروا عليها إلا صماً وعمياناً، والبدعة خاشعة والجمعة جامعة…" ويكتب أيضاً شارحاً أوضاع الدولة العبيدية ومبلغ تحريفهم للدين" ذلك بأنهم سموا أعداء الله أصفياء، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة من دون الله، هذا إلى استباحة ظاهرة للمحارم، وتحريف للشريعة بالتأويل، وكفر سُمّي بغير اسمه، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة، وقد فرقوا أمر الأمة، وليس السيف عمّن سواهم من كفار الفرنج بصائم ولا الليل عن سير إليهم بنائم.."
(10) .
جهود ساهمت في الإحياء السني:
لم ينتصر صلاح الدين على الصليبيين ويحرر القدس والمسجد الأقصى إلا بعد أن قام بهذا الإحياء، وقضى على الباطنية، وأعاد توحيد الشام ومصر وإقليم الجزيرة، وكان للعلماء دور كبير وللإداريين أيضاً مثل: القاضي الفاضل، وعماد الدين الأصفهاني بل إن مأثرة القاضي الفاضل تكمن في تصوره الإستراتيجي الذي يقوم على أساس توحيد العالم الإسلامي، ومن خلال راية واحدة والحد من سلطة المذاهب الرديئة وإعادة الهيمنة السنية.
1- العلماء: كان أول المتصدّين للاجتياح الفرنجي الفقيه الشافعي علي بن طاهر السلمي (431-500) الذي اتخذ من جامع دمشق مركزاً لبثّ آرائه، وكان رحمه الله يدرك أبعاد الحملة الصليبية، وأنها حرب شاملة على الإسلام، وأنها تجمع من القوى الغربية، وتقاطر العلماء من الحنابلة والمالكية إلى القدس ودمشق والإسكندرية رغبة في إزالة الظل الفاطمي، وعاشت في الإسكندرية جالية مغربية هاجرت من الأندلس ومن صقلية، وبنوا المدارس وبثوا تعاليم السنة وروح الجهاد، ومنهم الفقيه المالكي أبو بكر الطرطوشي الذي اعتذر عن إقامته بالإسكندرية رغم عدم إقامة الجمعات بقوله: "إن سألني الله عن المقام في الإسكندرية أقول له: وجدت قوماً ضلالاً فكنت سبب هدايتهم"
(11) ومن علماء الشافعية في الإسكندرية المحدث الكبير أبو طاهر السلفي، وقد بنى له الوزير السني ابن السلا مدرسة سنة 544هـ، ومن العلماء الذين كان الأثر الواضح الواعظ زين الدين علي بن نجا الحنبلي والفقيه عيسى الهكاري الشافعي والقاضي ابن شداد الذي كتب سيرة صلاح الدين.
2- المساجد: ظل جامع عمرو بن العاص في الفسطاط
(12) مركزاً علمياً سنياً ذا شأن منذ بنائه، وكان بعض العلماء الوافدين على مصر من الأندلس أو من المشرق يدرسون في هذا الجامع، وظل الناس يجتمعون حول (رموز) مثل: أبي عمرو بن مرزوق والواعظ ابن نجا، ولعل الأخير قدم من دمشق بإشارة من نور الدين للمساهمة في الإحياء السني ولتهيئة الرأي الشعبي، وعندما قدم أسد الدين شيركوه (عم صلاح الدين) إلى مصر بتكليف من نور الدين استغل فرصة وجوده، وذهب إلى الفسطاط، وزار بعض علماء السنة.
3- المدارس: أسس صلاح الدين عدداً من المدارس في القاهرة وعلى المذاهب الأربعة، وكانت هذه المدارس استمراراً لما بدأه الوزير نظام الملك في الدولة السلجوقية، وما قام به نور الدين في الشام، وهذه المدارس بداية حركة بنائية سنية، ساهم فيها كثير من الأيوبيين خلال حكم صلاح الدين، وقد بنى القاضي الفاضل مدرسة كبيرة في القاهرة، ووقف عليها مكتبته.
4- الاهتمام بجمهور الأمة: لقد دل الوعي الشعبي الذي رافق حصار الإسكندرية من قبل التحالف الصليبي الفاطمي بقيادة وزير الفاطميين (شاور السعدي) دل على عمق الصلة بين علماء السنة وأهالي الإسكندرية، هذه الصلة التي رعاها أمثال الطرطوشي وأبو طاهر السلفي، وكان صلاح الدين مع أهالي الإسكندرية في هذا الحصار، يشد من أزرهم ويرفع من معنوياتهم، وأثناء الحصار طلب شاور من أهالي الإسكندرية تسليم صلاح الدين ويضع عنهم المكوس (الضرائب)، ويعطيهم الأخماس، فأجابوه "معاذ الله أن نسلم المسلمين إلى الفرنج والإسماعيلية"
(13).
إن اهتمام صلاح الدين بعامة المسلمين كان بإلحاح من وزيره القاضي الفاضل الذي يقول له في إحدى رسائله: "فاعمر أوطانهم التي أخربها الجور والأذى، وانفِ عن مواردهم الكدر والقذى" فهذا الوزير كان يخطط لوحدة الأمة أمام الغزو الفرنجي الذي ذاق مرارته في وطنه فلسطين وفي بلده عسقلان.
وبعد:
فإن هذه الجهود، وهذه العودة لم تكن لتثمر وتأتي بهذه النتائج العظيمة وهذه الانتصارات الباهرة لو لم يكن وراءها إخلاص عميق لله، وإخلاص للمبدأ، وإنكار للذات، وبعد عن شهوات النفوس.
يصف القاضي ابن شداد صلاح الدين، وقد كان لصيقاً به في السنوات العشر الأخيرة من حياته، لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً يقول: "لقد كان رحمه الله شديد المواظبة على الجهاد، قد استولى حبه على قلبه، ولقد هجر في محبته أهله وأولاده ووطنه وسكنه، وقنع من الدنيا بالسكون في خيمة تهب بها الرياح يمنة ويسرة، وقد تكالبت عليه الأمراض، حتى لم يكن يستطيع الركوب ولا الجلوس على الطعام، ومع ذلك فإنه يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر وهو صابر على شدة الألم ويقول: "إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل" ويقول عنه ابن الأثير: "كان رحمه الله كريماً حليماً متواضعاً صبوراً على ما يكره" وقد توفي، ولم يوجد في خزانته من الفضة إلا سبعة وأربعون درهماً، ومن الذهب إلا جرم واحد صوري، وقد وصفه وزيره القاضي الفاضل بأنه "قليل اللذات، كثير الحسنات، متقللاً في مطعمه ولباسه، وله معروف في السر والعلانية، يهتم بأصحاب الفضائل، ويؤثر أرباب البيوت وذوي النباهة، محباً للغرباء، مكرماً للأصدقاء..".
إن من حسن الحظ أن دروس الحياة لا تنقطع، وأن ما كان بالأمس قد يحدث اليوم أو غداً، وحوادث التاريخ تتكرر، وإن اختلفت في مظاهرها وأشكالها مع اختلاف الذين يتعاملون معها من خلق بعد خلق "لقد استنشق صلاح الدين ومن حوله رياح التاريخ حين هبت، فشرعوا لها القلوع والقلوب، وأدركوا أن النصر لا يمكن أن يكون إلا هنا، طريق الإسلام، وهو طريق أهل السنة، وكل طريق غيره لا يوصل إلا إلى الخلاف وتبديد القوى"
(14).



(1) تفسير المنار (1/432).
(2) المدارك (3/318).
(3) تشجع بعض الكتاب الأوروبيين – وهم قلة نادرة- في السنوات الأخيرة وانتقدوا تصرفات اليهود في فلسطين المحتلة.
(4) محمد الميلي: ابن باديس وعروبة الجزائر 65.
(5) انظر: شاكر مصطفى: صلاح الدين الفارس المجاهد المفترى عليه 15 ط دار القلم. دمشق.
(6) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/250 .
(7) بلدة في سورية: غربي حمص.
(8) شاكر مصطفى: صلاح الدين 132 .
(9) شاكر مصطفى: صلاح الدين الفارس المجاهد المفترى عليه.
(10) هادية دجاني: القاضي الفاضل 152 .
(11) المصدر السابق 70 .
(12) كان الملوك الفاطميون يعيشون في القاهرة وقصورها محاطة بأسوار ولا يختلطون بالشعب المصري.
(13) هادية دجاني / القاضي الفاضل 94 .
(14) المصدر السابق 158 .

{moscomment}

بحث سريع