تكية أم علي” في عمّان نموذجاً

بواسطة | محمد الأرناؤوط
2006/01/02
في الشهور الأخيرة يلفت النظر في حي المحطة بعمّان بجوار مجمع رغدان مبنى جديد يستلهم التراث الإسلامي ألا وهو "تكية أم علي" الذي اكتمل بناؤه قبل عدة شهور فقط وينتظر اكتمال بنائه القانوني حتى ينطلق في ما أنشىء له.

وعلى الرغم من المظهر العمراني المميز، والسبق إي إنشاء مثل هذا المشروع الحضاري المستلهم للماضي والمتوجه للمستقبل، إلا أنه لم يحظ بما يستحقه من اهتمام وتعريف.
وكنت قد كتبت عن هذا المشروع عندما كان لا يزال فكرة ونشرت عنه مقالة في شبكة "إسلام اون لاين" (23/1/2000) ثم تابعت وضع حجر الأساس له في 26/2/2003 وافتتاحه في مطلع تشرين الأول 2004 بمناسبة قدوم شهر رمضان المبارك. وقد زرته أخيراً في الأسبوع الماضي مع طلبة قسم التاريخ بجامعة آل البيت الذين يدرسون مادة "الأوقاف"، حيث تحولت هذه الزيارة مع ترحيب المسؤولين إلى ما يشبه حلقة نقاشية عن ماضي وواقع ومستقبل التكية.

وتجدر الإشارة إلى أن العالم الإسلامي عرف نوعين من التكية: التكية/الزاوية الصوفية التي تقدم المبيت والطعام للمتصوفة، بالإضافة إلى اشتمالها على قاعة لحلقات الذكر والشعائر الأخرى، والتكية/العمارة التي تقدم وجبات الطعام المجانية للمحتاجين في المدينة.ويمكن القول أن نواة هذه المنشأة الجديدة (التكية/العمارة) قد برزت في وقت واحد تقريباً (القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي) في بلاد الشام (الخليل) والأناضول (بورصة وازنيق الخ) ولكن النموذج الشامي (مطبخ الخليل) اقتصر على حاله بينما انتشر النموذج العثماني في الأناضول والبلقان وبلاد الشام وغيرها مع توسع الدولة العثمانية. وتجدر الإشارة إلى أن السلطان سليم الأول أمر خلال وجوده في دمشق في 923هـ/1516 بإنشاء أول تكية/عمارة من هذا النوع في دمشق (التكية السليمية) مقابل الجامع الذي أنشأه فوق ضريح محي الدين بن عربي، التي لا تزال تعتبر من أقدم النماذج في المنطقة.

وتفيدنا الوقفية الخاصة بهذه التكية/العمارة، بالإضافة إلى شهادة المؤرخ المعاصر ابن طولون (توفي 953هـ/1545م)، في التعرف على ما كانت عليه هذه التكية/العمارة. فقد كانت تتألف من قاعتين واحدة للرجال وأخرى للنساء ومطبخ وفرن ومخزن للمؤن، وتقدم فيها مئتا وجبة مرتين في اليوم (للغداء والعشاء) حيث كانت تتألف الوجبة من رغيف خبز وصحن شوربة مع قطعة من اللحم.وبعد هذه التكية تأسست عشرات التكايا في المنطقة (في دمشق والقدس وحلب والموصل وبغداد الخ) وبذلك أصبحت التكية/العمارة من أهم إسهامات الحضارة العثمانية الإسلامية، حيث كانت قد انتشرت قبل ذلك في البلقان وأصبحت تنتزع إعجاب الرحالة الأجانب بما يرونه من الخدمات التي تقدمها مثل هذه المنشآت.

وعلى الرغم من أن معظم هذه التكايا بقيت تعمل حتى نهاية الحكم العثماني إلا أن التطورات السياسية والتعديات الفردية على مصادر الأوقاف التي كانت تمد هذه المنشآت بما تحتاجه جعلها تتوقف عن تقديم خدماتها.ومع أن المجتمعات المحلية في العقود الأخيرة أصبحت تحتاج أكثر إلى مثل هذه الخدمات (الوجبات المجانية) للمحتاجين فيها إلا أن الأمر بقي ينتظر حوالي قرن من الزمن حتى يقيض لمثل هذه المنشأة الحضارية من يهتم بها ويبعثها إلى الحياة من جديد.
وهكذا فقد بادرت سمو الأميرة هيا بنت الحسين إلى تبني إنشاء تكية/عمارة جديدة في موقع بارز في حي المحطة على نفقتها الخاصة وسمتها باسم "تكية أم علي" على روح والدتها المرحومة الملكة علياء الحسين. ويسجل لصاحب البادرة أنها اختارت منطقة مناسبة تحتاج إلى مثل الخدمات التي تقدمها هذه التكية.
ويلاحظ أن المبنى الحالي، الذي نجح في استلهام التراث الحضاري للمنشآت المماثلة، يتألف من قسمين: القسم الإداري الذي يشتمل على عدة مكاتب ومخازن والقسم الخدماتي الذي يشتمل على قاعة كبيرة للطعام يمكن أن نقدم في وقت واحد 400 وجبة وعلى مطبخين. ونظراً لافتتاح التكية في رمضان فقد قدمت في وقتها بشكل استثنائي 1500 وجبة يومية، سواء للقاصدين إليها مباشرة أو بواسطة الجمعيات الخيرية.

ولكن يلاحظ هنا، بالمقارنة مع التكايا المماثلة في الماضي التي كانت تقوم على أوقاف توفر لها باستمرار ما يغطي نفقات الوجبات المجانية ان "تكية أم علي " أقيمت بتبرع سخي من الأميرة هيا ثم سلمت لأمانة عمّان الكبرى، التي أرسلت مشكورة بعض الموظفين لتسيير أمورها في انتظار تبلور وضعها القانوني وانتظام أصولها المالية التي يفترض أن تؤمن تغطية نفقات ما تقدمه من خدمات/وجبات مجانية.

وبحسبة بسيطة يتضح أن نفقات الوجبات المجانية بالحد الحالي يصل إلى حوالي ربع مليون دينار سنويا، أي أن التكية تحتاج إلى وقف/ وديعة نقدية لا تقل عن ثلاثة ملايين دينار يدرّ دخلاً ثابتاً حتى يضمن استمرارها في تقديم هذه الوجبات، مع متولي/ مدير قدير يؤمن للتكية مصدراً إضافياً بواسطة استثمار القاعة الرئيسية فيها التي تصلح لمناسبات مختلفة (اجتماعات وندوات لجمعيات وحيثيات مختلفة الخ).

ومع تطور التطبيقات المعاصرة للوقف يمكن جمع المبلغ المذكور (ثلاثة ملايين دينار) من خلال تجزئته إلى أسهم وقفية تطرح لمن يرغب في المشاركة في هذا المشروع الرائد على مستوى الأردن وبلاد الشام. فنجاح هذا المشروع الحضاري مهم لأنه يفتح الطريق لإنشاء تكايا مماثلة سواء في الأردن أو في المنطقة.

وبعبارة أخرى يتمنى المرء أن يأتي الإطار القانوني المنتظر مناسباً لروح هذه المنشأة ومساعداً لرسالتها الحضارية التي تمثل جسراً بين الماضي والمستقبل.


مدير معهد بيت الحكمة/ جامعة آل البيت.
——-
المصدر : جريدة الغد الأردنية .
{moscomment}

بحث سريع