أنت قادر على العطاء

بواسطة | د . شاكر السروي
2006/03/08
العنصر البشري هو الأساس لكل نهضة ، وهو العماد لكل حركة ، وبدونه
تموت في مهدها أي فكرة . وعندما يشعر الأفراد في أي أمة أنهم غير قادرين على
العطاء ، فإنما هم بذلك يصدرون حكماً بالإعدام على أنفسهم ومجتمعهم ، شاؤوا أم
أبوا . وذلك أنهم بتقريرهم هذا الشعور ، يعلنون العزم المبيت على تجميد الحركة
والعمل ليصبح ذلك المجتمع بعد ذلك كالجثة الهامدة . إن هذه الظواهر الاجتماعية
التي يعرفها الخاص والعام ، قد جاءت نصوص الشريعة بتقرير الحقائق عنها ، فهي
ثابتة لا تتغير ، وكونية لا تتبدل ، قال عليه الصلاة والسلام : (إذا قال الرجل هلك
الناس فهو أهلكهم) [1] رواه مسلم .لقد كان يقين السلف بقدرتهم على البذل والعطاء نابعاً من استشعارهم المسؤولية الفردية القائمة على الإحساس بالعزة الإيمانية ؛ فجعلتهم مشاعل هداية ، ونماذج فريدة في البذل والعطاء والتضحية ، فكان الواحد منهم بأمة . فهذا مصعب بن عمير -رضي الله عنه- يقدُمُ المدينة سفيراً للإسلام ، فلا يحول الحول إلا وقد دخل الإسلام أكثر بيوت المدينة . وهذا نعيم بن مسعود الغطفاني لا يكاد يُسلم حتى يؤدي دوره فيُخذّل جيوش الأحزاب . وتأمل دور أبي بكر في الردة ، وأحمد بن حنبل في الفتنة ، وصلاح الدين في الذلة ، كلهم أفراد غيروا مسار الأحداث ، وأعادوا كتابة التاريخ ، وهذا غيض من فيض .
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
إن مما يجدر بنا أن نستحضره في كل حين ؛ أنه لا أحد في المجتمع المسلم
يمكن أن يوضع في خانة : (غير قادر على العطاء) ، بل الجميع يملكون شيئاً ما إن
لم يكن أشياء يستطيعون من خلاله خدمة أمتهم . وهذا النسق الاجتماعي ، قد قرره
المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفعله ، والتزمته الأمة الإسلامية منذ
فجرها الأول . فلو نظرنا إلى حديث الهجرة مثلاً ، لتجلّى لنا ذلك في أروع صوره ؛ فالصدّيق أمينُ السر ورفيق السفر ، والجارية تحفظ السر وترتب الزاد ، والصبي
ينقل الأخبار ويعفو الآثار ، كل ذلك في صورة مشرقة لتنوع البذل بحسب القدرة . وفي المدينة يدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس للبذل قائلاً :
(تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بُره ، من صاع تمره ،
حتى قال : ولو بشق تمرة) [2] .بل وفي قمة أعمال البذل والعطاء في الجهاد في سبيل الله يبرز هذا المعلم الإسلامي في أجلى صوره ؛ فالكل يبذل ، والجميع يُضحي ، حتى إذا بقي الضعفة والمساكين الذين لا مال لهم ولا قوة يجاهدون بها ، يبقى لهم دورهم الذي ينبه إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله : (إنما ينصُر الله هذه الأمة بضعيفها ؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم) [3] . إن خطر وأد الذوات وتحييدها عن العطاء ، لا يمكن تجاهله أو تناسيه خاصة في هذه الحقبة ، التي يقبع فيها أهل الإسلام في مؤخرة الركب . وإن هذا الخطر مما ينبغي تداركه وعلاجه حسماً لداء المُواتِ الذي دبّ في أوصال الجسد الإسلامي المنهك . ومما يحسن الختام به التنبيه إلى أن صور وأد الذوات تكون من التعدد وعدم الوضوح أحياناً ؛ بحيث يصعب التفطن لها ، ومن ذلك :
1- إحجام الفرد عن البذل ، أو ممارسة عمل ما بحجة أنه ليس أهـلاً لذلك ،
لأي عذر يرتئيه .
2- إيهام النفس بأنه لا يُحتاج إليه في هذا المضمار ؛ لأنه قد امتلأ بغيره ،
في الوقت الذي قد لا يكون الأمر كذلك ؛ بل ومن المحتمل أن يكون نفس الوهم
منتشراً بين العديدين ؛ فيؤدي ذلك إلى أن الجميع يتركون العمل فيصبح هذا المضمار خالياً تماماً .
3- التحايل على النفس بأن الإنسان إنما هو فرد لا يملك التغيير أو البذل أو
العطاء ؛ لأن (التيار جارف) و (اليد الواحدة لا تصفق) ، متناسياً بذلك أصل
المسؤولية الفردية في الإسلام .
هذه بعض الصور من الأفراد أنفسهم ، وقد تحصل صور أخرى ممن يتولى
الريادة والقيادة وذلك مثل :
1- ألا تُستغل المواهب الخاصة والقدرات الفردية لدى الأفراد كل بحسبه ،
فتُقتل القدرات ويُخْنَق الإبداع ، وقد خلق الله الناس مختلفين : منهم (القادة) ومنهم
(الساقه) و (قد جعل الله لكل شيء قدراً) .
2- ألا يُنْظَر إلى الجميع عند توزيع الأعمال ؛ بل تتكرر نفس الوجوه دائماً
لكل الأعمال ، وهذا يقتل الفئتين ؛ فالعاملة تنهك بالأعمال ؛ حتى تصبح غير قادرة
على العطاء المثمر ، كما تَفُوتُ الاستفادة منهم فيما لا يحسنه إلا هم ، وأما الكثرة
الباقية فتبقى أرقاماً لا رصيد لها في واقع الحياة .
3-الحكم بالإخفاق المؤبد على من يُسند له عمل ما ، ثم لا يتقنه ، في الوقت
الذي قد يحسن غيرَه ، بل ربما كان الخلل ابتداءً في إسناد هذا العمل له وهو لا
يحسنه .

(1) أخرجه مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ، رقم 2623 ، ص 1053 .
(2) أخرجه مسلم ، كتاب االزكاة ، باب (الحث على الصدقة ولو بشق) ، رقم 1017 ، ص392 .
(3) صحيح الجامع/2384 .

بحث سريع