جهود الخلافة العباسية في عمارة الحرمين الشريفين

بواسطة | محمد القدحات
2006/03/09
جهود الخلافة العباسية في عمارة الحرمين الشريفين ومشاعر الحج في الحجاز (132-656هـ)

ظل العباسيون يتمتعون بالسيادة على الحجاز لا ينازعهم فيه منازع حتى أقام الفاطميون دولتهم في أفريقيا(1)، وأخذوا يعملون على توسيع رقعتها على حساب الخلافة العباسية، وكانت البداية استيلاءهم على مصر والشام(2)، فلما تم لهم فتح هذه البلاد، وأصبحت القاهرة مقر خلافتهم تطلعوا إلى بسط نفوذهم على الأراضي المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة(3)؛ ليكسبوا خلافتهم قوة شرعية أمام العالم الإسلامي، ويضعفوا من شأن الخلافة العباسية في نفوس المسلمين. لم يدر بخلد العباسيين بعد أن تقلدوا الخلافة أن الاحتفاظ بالسيادة على مكة والمدينة سيكون له أثر في وثوق رعاياهم من المسلمين بأحقيتهم بالخلافة، فلما طمع الفاطميون بالسيطرة على هاتين المدينتين، ظهرت من ثنايا الصراع فكرة جديدة تتضمن أن أمير المؤمنين هو من استطاع بسط نفوذه على الحرمين (المكي والمدني)، وأن نفوذ خلافته لا تكتمل عناصرها في نظر المسلمين ما لم تؤيده الخطبة له بالحرمين(4). فالحجاز مهبط الوحي والرسالة الإسلامية، ومركز الحج الذي يتوافد إليه المسلمون في كل عام؛ لأداء أحد أركان الإسلام. إضافة إلى أهميته الجغرافية كحلقة وصل بين جنوب الجزيرة العربية وشمالها، وبلاد الشام ومصر، حيث تمر القوافل التجارية من خلال طرقه(5). وكان العلويون بهذا النزاع الخصم الثالث الذي يأتي أخيراً، فيفوز بالغنيمة، فاستقل أمراء الأشراف من بني الحسن بمكة، كما استقل الأشراف من بني الحسين بالمدينة(6). وأصبح هؤلاء الأمراء سادة الحرمين(7) مستغلين التنافس بين الخلافتين؛ لتعزيز مركزهم في شرافة الحجاز. لذا كانوا لا يترددون في الخطبة لأي منهما بحسب ما يقدمه من أموال وأعطيات(8). بدأ التنافس المعلن بين العباسيين والفاطميين سنة (358هـ/ 968م)(9) بعد أن نجح الفاطميون في مد نفوذهم إلى إقليم الحجاز، حيث سارع شريف مكة جعفر بن محمد بن الحسن بالخطبة باسم الخليفة المعز لدين الله، معلناً تبعية بلاده للخلافة الفاطمية(10). كما أقيمت في العام التالي الخطبة للمعز بالمدينة المنورة، وحذف اسم الخليفة العباسي المطيع لله من الخطبة(11). ومقابل ذلك بعث المعز الفاطمي إلى شريف مكة بتقليده الحرمين وأعمالهما، وأرسل إليه عشرين حملاً من المال(12). استمرت الخطبة بعد ذلك للفاطميين في مكة والمدينة لمدة قرن من الزمان، التزم الفاطميون خلالها بدفع المستحقات المالية المترتبة عليهم تجاه أمراء الحرمين الشريفين(13). ورغم منافسة العباسيين الضعيفة للفاطميين، وحرصهم الشديد على أن تكون لهم السيادة على الحجاز، إلا أنهم فشلوا في ذلك؛ بسبب ضعف مركزهم السياسي، وتغلب العناصر الأجنبية على السلطة. ومع منتصف القرن الخامس الهجري ظهرت قوة سياسية عسكرية جديدة في المشرق الإسلامي، ونقصد بها السلاجقة(14) الذين استطاعوا تأسيس دولة مترامية الأطراف في المشرق، شملت إقليم بلاد ما وراء النهر(15) وطبرستان(16). وعلى الرغم مما كانت تتمتع به من نفوذ إلا أنها كانت بحاجة إلى دعم معنوي يقوي نفوذها، ويسبغ عليها الشرعية، ونقصد بذلك الاعتراف الرسمي من قبل الخليفة العباسي ببغداد. كان المسلمون السنة في العراق وغيره من الأقاليم ينظرون إلى السلاجقة (السنة) نظرة متفائلة، وأنهم حماة المذهب، بعد الذي تعرضوا له على أيدي البويهيين ببغداد(17)، والفاطميين الشيعة، الذين استغلوا ضعف الخلافة العباسية، فمدوا نفوذهم إلى بلاد الشام والعراق أيضاً(18). كان السلاجقة قادرين على دخول بغداد، لكنهم حرصوا على أن يكون دخولهم بدعوة من الخليفة العباسي حتى لا يظهر دخولهم على أنه اجتياح أو احتلال. ونتيجة للظروف الصعبة التي كانت تعيشها الخلافة العباسية اضطر الخليفة القائم بأمر الله إلى الاستعانة بالسلاجقة بزعامة طغرلبك لإنقاذه من محنته(19). وعندما قرر طغرلبك دخول بغداد عام (447هـ/ 1084م) علل أسباب قدومه بأنها لا تتعدى تقديم الولاء والطاعة للخليفة، ومساعدته على إقامة موسم الحج، وتأمين طريقه، ثم التوجه إلى مصر؛ لإعادة الخطبة للخليفة العباسي على منابرها(20). وكان تدهور أحوال الدولة الفاطمية في منتصف القرن الخامس الهجري عاملاً مهماً أسهم في تشجيع السلاجقة على إكمال مشروعهم التوسعي، وضم الحجاز إلى مملكتهم، فالدولة التي كانت ترعى الحرمين – الدولة الفاطمية – تعاني من الأزمات الاقتصادية المتعاقبة بدءًا من سنة (444هـ/ 1081م)، حيث عم القحط، وانقطع فيضان النيل؛ فقل الإنتاج الزراعي، وانتشرت المجاعات والأوبئة(21). وقد استمرت هذه الأزمة سبع سنين (446 – 454هـ/ 1054 – 1062م)(22). وقد انعكس هذا سلباً على أحوال الدولة الفاطمية في مصر والخارج، وخاصة الحجاز، تمثل بعجزها عن الإيفاء بالتزاماتها المالية تجاه أشراف الحجاز الذين كانوا يلحون في المطالبة برسومهم، وأعطياتهم التي اعتادوا على تلقيها من الدولة الفاطمية(23). استغل أشراف الحجاز هذه الظروف، فسعوا في إقامة علاقات ودية مع السلاجقة، معتمدين على فكرة ترسخت مع الأيام تتمثل في استعدادهم لتقديم الولاء والطاعة لمن يقدم الأموال والخلع من القوى المتنافسة لبسط سيطرتها على الحجاز. بعث شريف مكة محمد بن جعفر إلى السلطان ألب أرسلان سنة (464هـ/ 1071م) يخبره بإقامة الخطبة للخليفة العباسي القائم بأمر الله وللسلطان السلجوقي، وإسقاط اسم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله من الخطبة، وترك الآذان بـ"حي على خير العمل"(24). فبعث إليه السلطان بثلاثين ألف دينار وخلع، وأجرى له كل سنة عشرة آلاف دينار، ووعد أنه إذا قام أمير المدينة بحذف اسم الخليفة الفاطمي من الخطبة، وإقامتها للخليفة العباسي، فسوف يمنحه عشرين ألفاً، ويجري له كل سنة خمسة آلاف دينار(25). وقد شجع هذا العرض أمير مكة على الزحف إلى المدينة المنورة، وأخرج منها بني الحسين. وبذلك جمع بين إمارتي الحرمين، ودانت بلاد الحجاز مرة أخرى للعباسيين(26). ويلحظ خلال الفترة (462-550هـ/ 1069-1155م) تذبذب ولاء أمراء الحجاز في ولائهم، فتارة يخطبون باسم العباسيين، وتارة أخرى باسم الفاطميين، آخذين بعين الاهتمام قوة كل منهما، ومدى التزامه بدفع أعطياتهم(27). وكان سقوط الخلافة الفاطمية عام (567هـ/ 1200م)(28) نقطة النهاية، فلم يعد أمامهم إلا إعلان التبعية للخليفة العباسي ببغداد، خاصة إذا علمنا أن العباسيين في الفترة المتأخرة – نتيجة للظروف السياسية التي أصبحوا يعيشونها – لم تتعد مطامحهم بالنسبة للحجاز التبعية الاسمية، تاركين شؤون الحكم والإدارة لأمرائها من العلويين. ويستخلص من كل ما سبق أن أمراء الحجاز آثروا مصالحهم الخاصة على مصلحة البلاد التي يتولون الإمارة عليها، فاستغلوا التنافس بين العباسيين والفاطميين لإشباع مطامعهم، وصاروا يقيمون الخطبة للخلفاء الذين يواصلون إمدادهم بالأموال، ولا يعنون بإدخال ضروب الإصلاح في بلادهم، مما أدى إلى إضعاف شأنها وتأخيرها مادياً ومعنوياً، حتى إن المقدسي لما زار بلاد الحجاز في القرن الرابع الهجري لحظ قلة عدد سكانها، وقدرهم بألفين(29). وبعد هذه التوطئة، نتناول في الصفحات الآتية الجهود التي بذلتها الخلافة العباسية في رعاية الحرمين الشريفين، والمشاعر المقدسة في الحجاز. عمارة المسجد الحرام تعاقبت جهود الخلفاء العباسيين على عمارة المسجد الحرام، منهم من زاد في مساحته، ومنهم من بذل الأموال في عمارته وإصلاحه. وكانت أول عمارة للعباسيين تمت في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور. كان المنصور قد خرج عام (136هـ/ 753م) أميراً لقافلة الحاج، وعندما وصل إلى مكة لفت انتباهه صغر مساحة المسجد الحرام، مع تزايد أعداد الحجاج في كل عام(30). ويبدو أنه قرر العزم على نقل ما شاهده ورغبته في التوسعة إلى الخليفة أبي العباس السفاح، لكن نعي أخيه السفاح جاءه قبل أن يصل بغداد مقروناً بالبيعة له بالخلافة(31). فكان أول عمل قام به هو إصدار أوامره بتوسعة المسجد الحرام، وأوكل هذه المهمة إلى عامله على مكة زياد بن عبيدالله الحارثي. وقد بدأ العمل في التوسعة في العام التالي لخلافته (137هـ/ 754م)، فقام زياد الحارثي بشراء الدور الواقعة شمالي المسجد وغربه وهدمها، ثم ضمها إلى مساحة المسجد(32). كانت الزيادة من الجهتين: الشمالية الشرقية من المسجد الذي يلي دار الندوة إلى أن ينتهي إلى منارة باب العمرة، والجانب الغربي من المسجد. ولم يزد من الجهة الجنوبية؛ لاتصالها بمجرى سيل وادي إبراهيم، ولصعوبة البناء بها. وبنى في هذه التوسعة أول منارة في تاريخ المسجد الحرام. كما عمل المنصور رواقاً دائرياً في صحن المسجد بأساطين من الرخام، أقيمت حول المطاف، وزخرفت بالفسيفساء وماء الذهب، وزينت السقوف بأنواع من الزخرفة الإسلامية(33). وقام المنصور بكسوة جدران المسجد بالرخام من الداخل والخارج وبارتفاع الجدار نفسه(34). وهذه أول مرة تتم فيها تغطية جدران المسجد الحرام بكامله بالرخام؛ لوقايتها من السيول(35). وألبس حجر إسماعيل بالرخام من داخله وخارجه(36)، وأمر المنصور أيضاًَ بتظليل الصحن أيام الصيف بستور تنشر على حبال ممدودة على خشب؛ لتقي المصلين حرارة الشمس(37). وعلى ضوء هذه الزيادة أصبحت مساحة المسجد الحرام تقدر بحوالي (15440م2)، بزيادة قدرها (4700م2)، وبذلك بلغت الزيادة ضعف المساحة السابقة(38). وقد استمرت أعمال التوسعة ثلاثة أعوام (137-140هـ/ 754-757م)(39). وفي العام الذي انتهت فيه التوسعة حج الخليفة المنصور، فشاهد التوسعة، ولفت انتباهه بروز حجارة الحِجر(40)، فأمر عامله على مكة زياد الحارثي بتغطيتها بالرخام ليلاً، حتى إذا أصبح لا يراها إلا مغطاة، وقد فعل زياد ما أمره به الخليفة على سراج القناديل قبل أن يصبح الصباح(41). وقد خلد المنصور عمله بنقش يحمل اسمه فوق باب بني جمح(42). وحظي المسجد الحرام بعناية فائقة في عهد الخليفة المهدي، فشهد زيادتين: الأولى بعد توليه الخلافة بعام (160هـ/ 776م)؛ حيث حج ورأى ضيق مساحة المسجد ومعاناة الحجاج من الزحام، فأمر بتوسعته، وأوكل هذه المهمة إلى قاضي مكة محمد بن عبدالرحمن الأوقصي المخزومي، وكانت أول خطوة للتوسعة شراء الأراضي والدور المحيطة بالمسجد وإزالتها، وكان ثمن كل ذراع دخل في المسجد 25 ديناراً، وخمسة عشر ديناراً مما دخل في الوادي. وشملت التوسعة الجهتين الشمالية والجنوبية(43). وأمر الخليفة المهدي بنقل أساطين الرخام من الشام ومصر إلى ميناء جدة، ثم نقلت على عربات إلى مكة(44). أما الأروقة فقد عملها على أساطين الرخام، وسقفت بخشب الساج(45). وقد انتهت أعمال التوسعة الأولى عام (164هـ/ 780م)(46)، وبلغت حوالي (7950م2)، فصارت مساحة المسجد (23390م2)(47). وفي العام الذي انتهت به أعمال التوسعة قدم الخليفة المهدي إلى مكة؛ لأداء فريضة الحج، ومشاهدة أعمال التوسعة. فلحظ أن الكعبة المشرفة لا تتوسط المسجد بسبب صغر المساحة الواقعة بين الكعبة والرواق النبوي(48). وقد تأكد من ذلك بعد أن صعد إلى جبل أبي قبيس(49)، ثم دخل المسجد مرة أخرى، ولحظ الصعوبات التي تواجه الحجاج، فكانوا يسلكون الوادي خارج المسجد، ومنه إلى زقاق ضيق حتى يخرجوا إلى الصفا(50)؛ فقرر إصلاح ذلك. وقد استشار الخليفة المهدي المهندسين في إجراء التوسعة، فاستقر رأيهم على استحالة إجراء التوسعة لوقوعها في مجرى السيل، لكن المهدي أصر على التوسعة فقال: "لابد لي من سعة المسجد، حتى تكون الكعبة في وسطه، ولو أنفقت فيه ما في بيوت المال"(51). ولم يكن أمام المهندسين إلا الرضوخ لرغبة الخليفة المهدي، فعادوا من جديد إلى إجراء القياسات اللازمة، فرأوا أن ذلك يتطلب اقتطاع جزء من مجرى السيل من جهة المسجد مع توسعة مجرى السيل من الجهة الأخرى(52). كما احتاطوا للسيل إذا زاد عن منسوبه بأن جعلوا أمام باب الهواشم (باب علي) بابا يقابله، فإذا دخل السيل من الأول خرج من الثاني، وهو باب الحزوزة (باب الوداع)(53)، ووسع مجرى السيل من الجهة المقابلة بعد شراء الدور المطلة عليه(54). وبعد هذه التوسعة صارت الكعبة تتوسط المسجد الحرام(55). ودخل بهذه التوسعة جزء كبير من المسعى في المسجد، فقد كانت منطقة المسعى في صدر الإسلام عريضة، فبنى بعض السكان دورهم في جزء من عرضها، بينها وبين المسجد، فاستعيدت تلك الأرض بشراء الدور التي عليها. وبانتهاء أعمال التوسعة أصبح المسجد مطلاً على المسعى لا تفصله البيوت(56). أنشأ المهدي للمسجد الحرام ثلاث منارات: الأولى في الجهة الشرقية الشمالية عند باب السلام، والثانية في الجهة الشرقية الجنوبية عند باب علي، والثالثة في الجهة الجنوبية الغربية عند باب الوداع(57). وقد خلد الخليفة المهدي هذا العمل على أحد جدران المسجد، وأشار إلى ذلك ابن بطوطة: "وكتب اسمه على مواضع من المسجد"(58). لكن الموت داهم المهدي قبل إتمام أعمال الإعمار كافة للمسجد الحرام، فتكفل ابنه الخليفة الهادي بإتمام العمل، فبنى الأساطين من الحجارة، ثم طليت بالجص، لكن عمله لم يكن بإتقان عمل والده(59). وأصبحت مساحة المسجد بعد الزيادة الثانية للخليفة المهدي (25750م2)(60). ولم تقتصر عمارة المهــدي على التوسعة للمسجد، بل كانت هناك إضافات أخرى لمرافقه، فقد أضاف خمسة أبواب للمسجد، هي: باب دار شيبة بن عثمان، والباب الكبير الذي كان يدخل منه الخلفاء، ويعرف بباب بني شيبة الكبير، والباب الذي في دار القوارير، وباب النبي [، وباب العباس بن عبدالمطلب الذي عند العلم، الذي يسعى منه من أقبل من المروة يريد الصفا، فصار للمسجد تسعة عشرة باباً، تنفتح على ثمانية وثلاثين طاقاً(61). وفي خلافة المعتمد على الله تصدعت بعض جدران المسجد من الجهة الغربية؛ لأن داراً بجوار باب إبراهيم سقطت على سطح المسجد، فتكسرت بعض أخشابه، وانهدمت أسطوانتان من أسطوانات المسجد، فصدر أمر الأمير الموفق وكان المتغلب على الخلافة عام (271هـ/ 884م)(62) إلى والي مكة بعمارة ما تهدم من جدران المسجد، فأعيد البناء، وأقيمت الأسطوانتان، وبنيت عقودهما(63). وظل المسجد الحرام بعد أعمال المهدي على حدوده التي وصفناها حتى نهاية العصر العباسي. ولكن كانت هناك زيادتان للمسجد دون أن تخلا بتربيعه، تمثلتا بإضافة ما تبقى من دار الندوة الواقعة في الجهة الشمالية في عهد الخليفة المعتضد(64) عام (284هـ/ 897م)؛ حيث جعل سقفها مساوياً لسقف المسجد، وجعل فيها منارة جديدة، كما أضاف باباً للمسجد عرف بباب الزيادة، ثم قام بصيانة عامة للمسجد ومرافقه(65)، وكان مقدار الزيادة نحو (1250م2)(66). وبعد توليه الخلافة، أمر الخليفة المقتدر عام (306هـ/ 918م) بوصل مسجد دار الندوة بالمسجد الحرام حتى أصبحت جزءاً منه(67). كما أمر بالاستفادة من الساحة التي كانت بين دارين لزبيدة، فهدمتا، وألحقتا بالمسجد من الجهة الغربية، وعرفت هذه الزيادة بزيادة باب إبراهيم(68)، وكان مقدارها (850م2)(69). عمارة الكعبة كانت أول عملية تعمير وإصلاح في العصر العباسي لأرضية الكعبة وجدرانها من الداخل في عهد الخليفة المتوكل على الله سنة (240هـ/ 854م) بعد أن كتب إليه ولي عهده الأمير أبو جعفر المنتصر – وكان واليه على الحجاز – يصف حال الكعبة، وما لحق أرضيتها وجدرانها: "إني دخلت الكعبة، فرأيت الرخام المفروش به أرضها قد تكسر وصار قطعا، وأن الرخام الموجود على جدرانها قد تهدم"(70). وكتب للخليفة بمثل ذلك صاحب بريد مكة(71). فاستجاب الخليفة لهذه الرغبة، وأسند مهمة الإصلاح إلى أحد شيوخ الحرفة ببغداد إسحاق بن سلمة الصائغ، ووجه معه ثلاثين من الصناع الذين اختارهم بنفسه، وزوده بمئة لوح من الرخام، وما يحتاجه من الذهب والفضة(72). وابتدأ العمل بالإصلاح في رجب من عام (241هـ/ 855م)، فقلع الصناع الرخام المتساقط من جدران الكعبة، ووضعوا مكانه الرخام الجديد، وألصقوه بجبس صنعاني أحضر من صنعاء لهذه الغاية. كما أصلح عتبة باب الكعبة التي كانت من خشب الساج الذي تلف، فاستبدلها بقطع جديدة، ثم ألبسها بصفائح من الفضة(73)، وقام إسحاق أيضاً بتلبيس زوايا الكعبة من الداخل بالذهب(74). بعد أن أعيد ترميم الكعبة عمل إسحاق على حمايتها وحماية البيت الحرام من السيول التي كثيراً ما كانت تداهمه، فعمل جداراً لحجز السيل، ثم هدم الجزء الذي تضرر من المسجد، وأعاد بناءه(75)، وأصلح الطريق التي سلكها الرسول [ مع عمه العباس التي يقال لها: شعب الأنصار، والتي أخذ بها الرسول البيعة من الأنصار. وكانت هذه الطريق قد اندثرت حتى زالت الجمرة من موضعها (بفعل عامة الناس)، فردها إلى موضعها، وبنى من خلفها جداراً؛ لئلا يصل إليها من أراد الرمي من أعلاها(76)، وكانت تكاليف الإصلاح قد كلفت الدولة مبالغ كبيرة(77). وجُدد رخام الكعبة مرة أخرى في عهد الخليفة المقتفي لأمر الله(78)، كما استبدل ميزاب الكعبة بآخر جديد(79). كذلك لقي باب الكعبة عناية خاصة من قبل الخلفاء العباسيين، فاهتموا به من حيث التجديد والتحلية والتغيير. ويعد الخليفة الأمين أول خليفة عباسي قام بتحلية باب الكعبة بالذهب، فقد بعث إلى واليه على مكة بثمانية عشر ألف دينار، عمل منها صفائح من ذهب وألصقها على باب الكعبة(80)، وأرسل الخليفة المعتصم بالله للباب قفلا من الذهب، قدرت تكاليفه بألف دينار(81). وكان باب الكعبة من خشب الساج، ولحمايته أمر الخليفة المتوكل عام (237هـ/ 851م) بتلبيس الباب بالفضة، كما جعل له غلقاً من الفضة، وعلى الباب ملبن ساج ملبس بالفضة، وعمل على الباب حلقة من الفضة بقفل من حديد(82). وجدد الخليفة المقتفي باب الكعبة سنة (552هـ/ 1157م)، فقلع الباب القديم، واتخذ باباً من العقيق(83)، وصفحه بالفضة المذهبة، وطلب من أمير مكة قاسم بن فليته أن يرسل له الباب القديم، ليعمل منه تابوتاً له(84). ويعد الحجر الأسود من أهم أركان الكعبة. ولهذه الأهمية لقي اهتماماً خاصاً من قبل حكام المسلمين عبر العصور، فعلى إثر حريق أصاب الكعبة، قام عبدالله بن الزبير بربطه بالفضة، بعد أن قام بهدم الكعبة حتى انتهى إلى أساسها، ثم بناها على قواعد إبراهيم(85). ولكن من كثرة مس الطائفين للحجر تزعزعت الفضة من مكانها حتى خشي على الركن الأسود أن ينهار. فلما اعتمر الخليفة هارون الرشيد عام (189هـ/ 804م) أمر بثقب الحجارة التي حول الحجر الأسود، ثم صُب سائل الفضة فيها(86). وقد تعرض الحجر الأسود للسرقة عام (317هـ/ 929م) على يد القرامطة. فبعد أن أسسوا دولتهم في بلاد البحرين، أخذت أعينهم ترنو إلى التوسع على حساب الدولة العباسية، مستغلين حالة الضعف التي وصلت إليها بعد سيطرة العناصر الأجنبية على مقاليد السلطة، فقد سار أبو طاهر القرمطي في 7 ذي الحجة عام (317هـ/929م) إلى مكة، لانتزاعها من عامل العباسيين، وما أن وصل إلى مكة حتى دخل الحرم، واستباحه، وقتل من فيه من الطائفين(87)، وركض أبو طاهر وهو سكران شاهراً سيفه، ودخل المطاف، فبالت فرسه فيه، ثم صعد إلى باب الكعبة وهو يقول: أنــــــا باللــــه وباللـــه أنـــــــا يخلق الخلـق وأفنيهم أنا(88) وفي 14 ذي الحجة قلع الحجر الأسود من مكانه، وذهب به إلى بلاده، وبقي موضعه خالياً يضع فيه الناس أيديهم للتبرك نحو اثنتين وعشرين سنة. ورغم ما بذله لهم بجكم التركي(89) من الأموال مقابل إعادة الحجر الأسود إلى مكانه، إلا أنهم رفضوا، ولم يعيدوه إلا بعد عشرين عامًا بوساطة الشريف أبي علي بن عمر بن يحيى العلوي في خلافة المطيع لله(90)، قائلين: "أخذناه بقدرة الله، ورددناه بمشيئة الله"(91). وقد أحضر إلى الكوفة، ثم نقل إلى مكة ليوضع مكانه في جدار الكعبة(92). وخوفا على الحجر الأسود من مثل هذا العمل، قام سدنة الكعبة سنة (340هـ/ 951م) بقلع الحجر من موضعه، وجعلوه في جوف الكعبة. ثم أعيد إلى مكانه بعد أن صنعوا له طوقاً من الفضة، وقيل: إن قيمة ما جعلوه على الطوق من الفضة ثلاثة آلاف وتسعة وتسعين درهماً(93). ومقابل باب الكعبة مقام سيدنا إبراهيم ، وقد اهتم به الخلفاء كاهتمامهم بالبيت، وكان الخليفة المهدي أول من حلّى المقام سنة (161هـ/ 777م). روى الأزرقي عن عبدالله بن شعيب، قال: "ذهبت أرفع المقام في خلافة المهدي، فانثلم، قال: وهو حجر رخوة، فخشينا أن يتفتت، فكتبنا في ذلك إلى المهدي، فبعث إلينا بألف دينار، فضببنا فيه المقام أسفله وأعلاه"(94). وكان من جملة أعمال المتوكل العمرانية في المسجد الحرام عام (236هـ/ 846م) تحلية المقام بالذهب، واستبدال صفائح الرصاص التي كانت تلبس الكرسي الذي عليه المقام بالفضة، كما اتخذ له قبة من خشب الساج(95). وبعد أن قام والي مكة جعفر بن الفضل العباسي سنة (251هـ/865م) بخلع الذهب الذي على المقام؛ ليستعين به على حرب إسماعيل(96) بن حسين العلوي، أمر المتوكل سنة (256هـ/ 870م) بتحلية المقام بالذهب من جديد(97). كسوة الكعبة حظيت كسوة الكعبة برعاية واهتمام حكام المسلمين، فقد تواترت الروايات على اهتمام الخلفاء العباسيين الذين ساروا على نهج الصحابة والخلفاء الأمويين في كسوة الكعبة، وما يشهد للخلفاء العباسيين بهذا الأمر أنهم كسوا الكعبة خلال أربع وأربعين سنة مئة وسبعين ثوباً، "إلا أنه كان يخفف عنها الشيء بعد الشيء حتى لا تثقل الكعبة، فتهدم جدرانها"(98). كانت أول إشارة إلى كسوة الكعبة في العصر العباسي تعود إلى الخليفة المهدي، حيث استغل القائمون على رعاية المسجد الحرام وجود الخليفة المهدي بمكة لأداء فريضة الحج عام (160هـ/ 776م)، فرفعوا إليه خوفهم على جدران الكعبة من كثرة الكسوة التي عليها، وسألوه التخفيف عنها(99)، فاستجاب الخليفة لرغبتهم بعد أن شاهد ذلك بعينه(100)، ثم ضمخها بالمسك والعنبر من الداخل والخارج، وأمر بكسوتها ثلاث كُسًا: قباطي وخز وديباج(101). وبعد أن كانت تكسى في كل سنة كسوتين: كسوة ديباج، وكسوة قباطي، كسوة الديباج يوم التروية، وكسوة القباطي يوم السابع والعشرين من رمضان، رفع سدنة الكعبــة إلى الخليفــة المأمون أن الديبــاج يبلى قبــل بلــوغ عيــد الفطـر، فاستشار المأمون مبارك الطبري صاحب بريد مكة في أي الكسوة تكون الكعبة أحسن؟ فأجابه بالبياض، فأمر بكسوة جديدة من الديباج الأبيض، فصارت الكعبة تكسى ثلاث كُسًا: الديباج الأحمــر يــوم الترويـة، والقباطي يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم السابع والعشرين من رمضان(102). وفي عهد المتوكل، رفع إليه سدنة الكعبة أن الإزار الأحمر يبلى قبل بلوغ هلال رجب من لمس الناس له، فأمر الخليفة بزيادة إزارين مع الإزار الأول(103). وإبان السيطرة السلجوقية على بغداد، تولى كسوتها السلاطين السلاجقة، فقد كسا السلطان محمود بن سبكتكين الكعبة ديباجاً أصفر(104). وبعد تخلص الخلافة العباسية من السيطرة السلجوقية، عادت الكسوة؛ لتصبح من واجبات الخليفة العباسي، فقد كساها الخليفة الناصر لدين الله (622هـ/ 1225م) كسوة سوداء وأخرى خضراء(105)، يقول السيوطي نقلاً عن الفاسي: "وقد استمرت إلى الآن"(106)؛ أي: عام 812هـ. وكان الخليفة يعهد بحمل الكسوة، وإيصالها إلى مكة إلى أحد العلماء(107)؛ ويكون خروجه مع خروج الحاج من بغداد(108)، وجرت العادة أن ترسل مع الكسوة كل سنة آنيتان من النحاس مملوءتان بماء الورد النقي لغسيل الكعبة قبل الكسوة(109). تحلية الكعبة كان الخليفة أبو العباس السفاح أول من حلى الكعبة، فقد أرسل صحيفة خضراء من الزبرجد، لتعلق على باب الكعبة(110). أما الخليفة المأمون فقد أرسل إلى الكعبة السرير الذي أهداه له ملك التبت بعد إسلامه(111). وفي عام (245هـ/859م) أمر الخليفة المتوكل بتحلية الكعبة بالذهب من الداخل، وبلغت قيمة التحلية ثمانية عشر مليون دينار(112). وكانت الشمسة(113) من جملة الهدايا التي ترسل إلى الكعبة، ويعد الخليفة المتوكل من أكثر الخلفاء اهتماما بها، حتى قيل: إنه أول من بعث بها إلى الكعبة، فكان يبعث بها كل عام مع قافلة الحج لتعلق على بابها بعد الكسوة(114). وكان للخليفة المقتدر إسهام في تحلية الكعبة، فقد صفح أساطينها بالذهب، كما أمرت والدته السيدة شغب سنة (310هـ/922م) بإلباس الإسطوانة التي تلي باب الكعبة بصفائح من الذهب من أسفلها إلى أعلاها(115). وبعث الخليفة المطيع سنة (359هـ/ 969م) قناديل من الفضة، وقنديلاً من الذهب، علقت في جوف الكعبة(116). إنارة المسجد الحرام ومشاعر الحج في مكة ومن الخدمات التي حرص الخلفاء العباسيون على توفيرها في المسجد الحرام والمشاعر الإضاءة، وكانت إضاءة المسجد الحرام والمشاعر تعتمد في البدايات على الجهود الفردية لسكان مكة، من إيقاد النيران خارج مكة، أو تعليق الأسرجة على سطوح منازلهم، إلى أن كانت ولاية خالد القسري في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان، فوضع مصباحاً واحداً على عمود عند بئر زمزم مقابل الركن الأسود. استمر الوضع على ذلك إلى خلافة المأمون، فأمر واليه على مكة محمد بن سليمان سنة (216هـ/ 831م) بوضع عمود مقابل عمود زمزم بحذاء الركن الغربي. فلما ولي مكة محمد بن داود أضاف عمودين آخرين؛ أحدهما بحذاء الركن اليماني، والآخر بحذاء الركن الشامي، فأصبح المسجد الحرام يضاء من جهاته الأربع(117). أما الخليفة المعتصم، فقد كان أول من أشعل النفاطات في ليالي موسم الحج بين الصفا والمروة، يقول الأزرقي: إن الأعمدة التي وضعت عليها النفاطات أحضرت من قصر بابك الخرمي بعد القضاء على حركته(118). وفي خلافة الواثق بالله أمر بعمل عشرة أعمدة جعلت حول المطاف، وتضيء كذلك ما بين الصفا والمروة، كما علقت ثمان ثريات، اثنتان في كل جهة من واجهات المسجد الحرام(119). عمارة المسجد النبوي بالمدينة المنورة نال المسجد النبوي في المدينة المنورة الاهتمام نفسه الذي ناله المسجد الحرام من حيث الرعاية والإعمار في جميع مراحل التاريخ الإسلامي. كان الخليفة أبو جعفر المنصور قد عزم على توسعة المسجد النبوي، لكنه توفي قبل أن ينفذ ما عزم عليه، ولكن كان له إسهام في إعماره، فقد أمر والي المدينة الحسن بن زيد بن علي بتجديد رخام جدران المسجد سنة (151هـ/ 767م)(120). وفي خلافة هارون الرشيد أجريت إصلاحات في سقف المسجد من جهة قبر الرسول [ عام (193هـ/ 809م)(121). ولم تحدث زيادات للمسجد النبوي إلا في عهد الخليفة المهدي (158-169هـ/ 775-785م)؛ وذلك أنه عندما حج المهدي عام (160هـ/ 777م)، رأى الزحام في المسجد، فقرر التوسعة بعد أن استشار زعماء أهل المدينة. ولأجل هذه الغاية استعمل على المدينة جعفر بن محمد بن سليمان العباسي، وأوكل إليه مهمة الإشراف على الزيادة، ومعه كل من عبدالله بن عاصم بن عمر بن عبدالعزيز وعبدالملك بن شبيب الغساني(122)، وأوصاهما بأن تبدأ عمليات التوسعة والبناء بعد رحيل الحجاج عن المدينة، على أن يرسل لهم الأموال اللازمة للبناء إذا عاد إلى بغداد. ثم توفي عبدالله بن عاصم أحد المكلفين بالعمارة، فكتب جعفر بن محمد بن سليمان إلى الخليفة بذلك، فأرسل عوضاً عنه عبدالله بن موسى الحمصي(123). قام المكلفون بالعمارة بتحديد الدور المراد هدمها بغرض إدخالها في التوسعة، ومن تلك الدور دار مليكة، ودار شرحبيل بن حسنة، وبقية دار عبدالله بن مسعود، ودار المسور بن مخرمة الزهري، التي تم تثمينها وشراؤها من أصحابها، ثم هدمها(124). وجاءت الزيادة في الجهة الشمالية من المسجد فقط، وكانت الزيادة بحدود (2450م2)، فأصبحت المساحة الكلية للمسجد (8890م2)(125). وقد انتهت أعمال العمارة في سنة (165هـ/ 783م)(126). وأجريت في عهد الخليفة المأمون عملية إصلاح وترميم عامة للمسجد النبوي(127). وفي عام (246هـ/ 860م) أمر الخليفة المتوكل على الله بترميم بعض الجدران التي ظهر عليها التلف، كما أعيدت كسوة عقود الأعمدة بالفسيفساء، وتبليط أرض الأروقة من جديد بالرخام الأبيض، وإنشاء حزام من الرخام على الجدران من الداخل بارتفاع قامة الإنسان، وقد أشرف على هذا العمل إسحاق بن سلمة(128). وقام الخليفة المقتفي عام (458هـ/ 1153م) بإرسال الأموال إلى والي المدينة القاسم بن مهنا الحسيني، وذلك لتجديد الوِزرة الخارجية لجدار قبـر الرسول [(129). ولم يشهد المسجد النبوي عمارة بعد ذلك حتى خلافة الناصر لدين الله (575 -622هـ/1179-1255م)، حيث أمر بعمل قبة في وسط الصحن، لحفظ ذخائر المسجد، مثل: مصحف عثمان عام (576هـ/ 1180م)(130). كذلك جدد الحائط الشرقي من المئذنة الشمالية الشرقية سنة (589هـ/ 1193م)(131)، وجدد المنبر الأموي في سنة (593هـ/ 1196م)(132). كما أن الخلفاء العباسيين كانوا يرسلون باستمرار القناديل وزيوتها والشموع لإنارة المسجد النبوي، والطرقات المحيطة به، وينفق عليها من بيت مال المسلمين(133). ونلحظ استمرار الإصلاحات والتعمير في المسجد النبوي طوال العصر العباسي، ولم تظهر الحاجة لإعادة البناء أو التوسعة إلا بعد أن احترق سقف المسجد النبوي بكامله، وتلف المنبر والأبواب والخزائن والشبابيك، ولم يسلم من الحريق إلا الحجرة النبوية والقبة التي في وسط الصحن، وكان ذلك أول شهر رمضان من سنة (654هـ/ 1254م). وسبب ذلك أن أحد فراشي المسجد النبوي دخل إلى مخزن المسجد، وكان بيده مصباح موقد، فوضعه فوق أحد الأقفاص، وكان به بعض الأقمشة، فاشتعلت النار بالقفص، وانتقلت بسرعة إلى جميع نواحي المسجد، وعلقت بالسقف والحصر والبسط، فاجتمع الناس، وحاولوا إطفاء النار، فلم يستطيعوا إلا إبعاد النار عن الحجرة الشريفة(134). ولما علم الخليفة المستعصم بالله (640 -656هـ/ 1242-1258م) أرسل في العام نفسه الصناع والمؤن مع ركب الحاج العراقي، وابتدأ في العمارة في سنة (655هـ/ 1257م)، وقد أخذ العمال في إعادة بناء المسجد النبوي من جديد، إلا أن العمارة توقفت بنهاية الدولة العباسية في بغداد باستيلاء المغول عليها عام (656هـ/ 1258م)، غير أنه في هذه الفترة عمل سقف الحجرة النبوية وما حولها إلى الحائط الشرقي إلى باب جبريل، ومن الجنوب إلى حائط القبلة، ومن الغرب إلى المنبر(135). وبعد ذلك أصبح إكمال البناء من واجبات السلطان المملوكي في مصر(136). توفير المياه في المشاعر المقدسة اهتم الخلفاء العباسيون بتوفير المياه في مكة لأجل سكانها من جهة، وللحجاج القادمين من شتى أرجاء المعمورة من جهة أخرى، وذلك من خلال المحافظة على ما كان متوفراً من المصادر وصيانتها، وتجهيز مصادر جديدة من آبار وعيون. كانت بئر زمزم على رأس المشاريع المائية التي حرص الخلفاء على صيانتها وترميم آبارها، لأهميتها الدينية(137)، ولوجودها في المسجد الحرام(138). وكان الخليفة أبو العباس السفاح أول من اهتم ببئر زمزم، فلأجل رعايته أمر ببناء حجرة قريبة من البئر تكون مقراً لمن يتولى السقاية والإشراف على الماء(139). وقام الخليفة المنصور بفرش الأرضية بالرخام، وبنى قبة على البئر، وكانت قبل ذلك مكشوفة(140)، وقد جددت القبة في عهد الخليفة المهدي(141). وحرص الخليفة هارون الرشيد أثناء تأديته فريضة الحج عام (173هـ/ 789م) على توفير المياه للحجاج، فأمر بزيادة عدد أحواض المياه داخل المسجد الحرام، وخصص خمسين غلاماً من الخرسانيين لسقاية الحجاج بالقرب والروايا المجلوبة من ماء زمزم(142). وفي عام (220هـ/ 835م) أوعز الخليفة المعتصم لواليه على مكة عمر بن فرج الرخجي بعمارة بئر زمزم، فسقف زمزم كلها بالساج المذهب من الداخل، كما علق بها قناديل للإضاءة، وعمل لها باباً من حديد(143). وقد أشار الأزرقي إلى أن بئر زمزم في عام (223هـ/ 837م) قل ماؤه "حتى كادت أن تجم"، فتم الحفر فيها بعمق تسعة أذرع، ثم جاءت الأمطار في العام التالي، فتدفقت من جديد(144). أما الخليفة المتوكل، فقد أمر ببناء مظلة المؤذنين الواقعة فوق زمزم، وأصلح البرك المتصدعة داخل الحرم(145). كما جدد تلك البرك الخليفة المهتدي عام (256هـ/ 869م)، وأعاد ترميم الباب الذي صنعه المعتصم(146). ولم تقتصر جهود الخلفاء على بئر زمزم، بل اهتموا بمختلف مصادر المياه من آبار وعيون، فقد قام الخليفة الرشيد بتجديد العيون التي طمرت، وأجرى مياهها في عين واحدة عرفت بعين الرشا(147)، وأمر بتجهيز البرك في أعلى مكة وأسفلها، لتصب فيها مياه العين(148). مع مرور الأيام، لم تعد عين الرشا قادرة على توفير المياه لأهل مكة حتى جفت عام (193هـ/ 808م) وكان لجفافها أثر عظيم، مما دفع أهل مكة للخروج إلى الآبار وجلب الماء، لبيعها للحجاج بأسعار باهظة "حتى بيعت الروية بعشرة دراهم"(149). وصادف في هذا العام أداء السيدة زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد فريضة الحج، ورأت ما يعانيه الحجاج من أجل الحصول على الماء، فأمرت بجر الماء إلى مكة، وكلفت بعض المهندسين بهذه المهمة، الذين وجدوا أن أفضل وسيلة لتوفير الماء هو جرها من عين حنين، فاشترت الأرض المحيطة بالعين، وبنت قنوات لتنقل بها المياه إلى أطراف مكة(150). وأصلحت البرك الموجودة في مكة، وبنت عدداً من البرك على طول مجرى القناة حتى وصلت المياه إلى الحرم(151). وكانت نفقات السيدة زبيدة على هذه الأعمال عظيمة، "وأنفقت في ذلك من الأموال ما لم يكن تطيب به نفس كثير من الناس"(152). وبعد انتهاء أعمال البناء، حضر المتولون إلى قصر السيدة زبيدة لعرض تفاصيل الحساب، فأمرت بإلقاء الدفاتر بنهر دجلة، وقالت: "تركنا الحساب ليوم الحساب، فمن بقي عنده من المال شيء فهو له، ومن بقي له عندنا شيء أعطيناه"(153). ولأجل استمرارية أعمالها الخيرية في الحرمين قامت بتخصيص الأوقاف اللازمة للإنفاق عليها(154). ويبدو أن المياه لم تصل إلى جميع أحياء مكة، فقد رفع صالح بن العباس إلى الخليفة المأمون عام (210هـ/ 825م) شكوى أهل السوق، وبعض الأحياء، والمتمثلة بعدم وصول ماء عين حنين إلى أحيائهم، فأمره الخليفة بعمل بازانات(155) تغذى من العين مباشرة، فأنشأ خمس برك: جعل الأولى عند شعب ابن يوسف، والثانية عند الصفا، والثالثة عند سوق الخياطين، والرابعة عند سوق الحطب، والخامسة عند ماجل أبي صلابة(156). وقد أزعج هذا العمل السيدة زبيدة، ووجهت اللوم إلى صالح بن العباس بقولها: "إنما قمت به من عمل ما أريد ألا أن أكمله"، فقدم صالح اعتذاره قائلاً: "إنما قمت به من عمل ما هو إلا إكمالاً لعملك الخيري"(157). وقد استمرت عين حنين في التدفق والجريان، لكنها كانت بحاجة دائمة للإصلاح والترميم، ففي عام (252هـ/ 866م) أرسل الخليفة المعتز إلى والي مكة الأموال اللازمة لإصلاح ما تهدم من العين وقنواتها(158). ولحمايتها نجد الخليفة المعتمد على الله بعد قيامه عام (270هـ/ 883م) ببعض الإصلاحات يتخذ ثلاثمئة من الحراس يحرسونها ليلاً ونهاراً(159). ولم تقتصر جهود الخلفاء على توفير المياه في مكة والمسجد الحرام، بل شملت جهودهم بتوفيرها في المشاعر؛ لذا قام الخلفاء العباسيون الأوائل بتخصيص عدد من الغلمان لجلب المياه بالقِرب من خارج مكة إلى المشاعر(160)، كما اهتموا بإصلاح الآبار الموجودة فيها، فقد أمر أبو جعفر المنصور عام (138هـ/ 755م) بإصلاح بئر الياقوتة(161)، كما أمر المهدي عام (159هـ/ 775م) بإصلاح بئر السقيا، وأوكل هذه المهمة إلى مولاه خالص؛ لذا اصطلح على تسمية البئر ببئر خالصة(162). وكان من جملة أعمال السيدة زبيدة في مكة، جر مياه عين النعمان إلى عرفة(163)، وإنشاء صهاريج تجتمع فيها مياه الأمطار في مزدلفة(164). وفي عهد السيطرة السلجوقية على الخلافة ببغداد عمرت عين النعمان على يد الوزير أبي نصر الأستراباذي عام (466هـ/ 1074م)(165). كما نشر إبراهيم رفعت أربعة نقوش أثرية كانت موجودة في زمانه على أربع لوحات رخامية أسفل جبل الرحمة بعرفة، ثلاثة تشير إلى إصلاح عين النعمان في عهد الخليفة الناصر لدين الله (ت622هـ/ 1225م). والإصلاح الرابع في عهد الخليفة المستنصر بالله، حيث عمرها ثلاث مرات في أعوام: (625هـ/ 1228)، (627هـ/ 1229م)، (633هـ/ 1235م)(166). وإذا أنهى الحجاج أداء مناسك الحج في مكة، توجهوا إلى المدينة المنورة لزيارة مسجد الرسول [ والسلام عليه، ونظراً لطول المسافة؛ حرص الخلفاء على الاهتمام بالطريق وإصلاحها، وتوفير المياه للحجاج. فبعد عام من توليه الخلافة، أمر أبو العباس السفاح واليه على مكة بإصلاح الآبار الموجودة واستحداث أخرى، كما أمره بوضع علامات على الطريق ليسترشد بها الحجاج(167). وأضاف الخليفة المنصور بركتين؛ الأولى: في عسفان، والأخرى: في بدر(168). وأنشأت السيدة زبيدة صهاريج للمياه في منطقة الحاجر قبل المدينة المنورة(169). وكانت إصلاحات الخليفة المهدي إضافة نوعية على طريق الحاج بين مكة والمدينة، حيث أمر بإضاءة الطريق بالشموع، كما أمر صاحب البريد ببناء محطات للبريد على طول الطريق، حتى يكون على علم بأحوال الحجاج طوال رحلتهم بين المدينتين(170). وفي العام التالي أمر بزيادة عدد البرك في تلك الطريق(171). أما في المدينة فلم ترد في مصادرنا إشارات إلى وجود مشكلة في توفير المياه، ويعود ذلك إلى طبيعة موقعها، حيث تكثر بها العيون والآبار(172). كما أنها لم تتعرض للسيول كمكة التي كانت تطمر عيونها وآبارها. وقد توافرت المياه في المدينة من خلال الآبار الموجودة في الأحياء والبيوت، إضافة إلى العيون التي من أشهرها: عين الحيف الواقعة شمال المدينة. لكن الاستفادة منها كانت مقصورة على حجاج الركب الشامي(173). وتشير المصادر إلى أن هذه العين تم إصلاحها في عهد الخليفة المنصور عام (141هـ/ 758م)(174)، ثم في عهد الخليفة هارون الرشيد(175). وكانت عين الزرقاء الواقعة جنوب غرب المدينة هي العين الرئيسة؛ لإيصال المياه إلى أحياء المدينة المنورة، إذ تتجمع مياهها في ثلاثة بازانات داخل المدينة(176). وفي عهد المنصور، أمر بزيادة البازانات في شمال المدينة وغربها، وأوصلها بقناة عين الزرقاء(177). وعندما علم الخليفة المأمون عام (210هـ/ 825م) بالخراب الذي حل ببعض قنواتها، أصدر أوامره إلى والي المدينة بإصلاحها، وإعادتها إلى ما كانت عليه(178). الخاتمة بعد دراسة جهود الخلافة العباسية في رعاية الحرمين ومشاعر الحج في الحجاز يمكن استنتاج ما يأتي: 1 – لم تكن جهود الخلافة العباسية في عمارة الحرمين الشريفين ومشاعر الحج منتظمة، بل اعتمدت على الجهد الفردي لبعض خلفاء وأمراء البيت العباسي. كما أنه لم يكن هناك ديوان خاص يتولى مهمة الإشراف على رعاية المشاعر المقدسة في الحجاز. 2 – ارتبطت عمليات الإعمار والبناء بالحالة السياسية للدولة العباسية، فلما تراجعت قوتها برزت مطامع الدويلات المستقلة، وخاصة الدولة الفاطمية، التي أخذت تزاحمها في السيطرة على الحجاز؛ لما لها من مكانة في نفوس المسلمين. 3 – ازداد تمسك خلفاء الدولة العباسية بعمارة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة بعد أن اتضحت لهم أهمية تلك السيطرة الدينية على الحجاز في نفوس رعاياهم من المسلمين، فالحجاز مهبط الوحي والمركز الروحي لعامة المسلمين، ولا يجوز لحكامهم التخلي عن تلك السيطرة؛ لأن ذلك ينقص من عناصر سيادتهم. لذا نجد أن الخلفاء العباسيين ظلوا متمسكين بالحجاز وإدارتها – رغم انقطاع تلك السيطرة فترة من الزمن – حتى لو كانت تلك السيطرة اسمية، طالما أن اسم الخليفة يذكر على منابر الحرمين. 4 – إن أمراء الحجاز من الأشراف لم يكن لهم ذلك الدور الواضح في عمليات الإعمار للمشاعر المقدسة في بلادهم، معتمدين في ذلك على التنافس العباسي – الفاطمي، وما يقوم به الطرفان من أعمال الإعمار، مكتفين بما يقدمونه لهم من أعطيات وهبات، مُؤثرين مصالحهم الخاصة على مصالح البلاد.


مجلة الدارة ، العدد 3 ، سنة 1426

{moscomment}

بحث سريع