نفوذ القواد العُمرة والحميضات لدى أشراف مكة المكرمة

بواسطة | عبدالرحمن بن مديرس المديرس
2006/03/12
تختص هذه الدراسة بالبحث في فئة كان لها دور كبير في الحياة العامة في مكة المكرمة خلال فترة الدراسة، وهي فئة القواد، وعلى وجه الخصوص العُمَّرة والحُميضَات. يتطلب الحديث في هذا الموضوع إعطاء تعريف لمدلول قواد؛ فالقواد لغةً مفردها قائد، ويراد به اصطلاحاً المتقدم(1). أما اصطلاحًا فهم "أكابر أتباع أشراف مكة"، "وهم بمثابة الأمراء للملوك"(2). ويمثل هؤلاء القواد طبقة مهمة من طبقات المجتمع المكي، فهم يأتون في الأهمية بعد طبقة الأشراف(3). غير أنهم في الواقع لا يملكون جيشاً خاصاً بهم، بل هم جزء من التركيبة السياسية العسكرية للسلطة في مكة المكرمة. وقد كان لهم قوة ونفوذ كبيران بحيث يستطيعون التأثير على الأوضاع السياسية في مكة المكرمة، وكان الأشراف بأمس الحاجة لدعم هؤلاء القواد ومساندتهم سياسياً وعسكرياً. وفي هذه الدراسة سأركز على فئتين من هؤلاء القواد، وهم من عرفوا بالقواد العُمَّرة، والقواد الحُمَيضات، ومدى نفوذهم وتأثيرهم على الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية في مكة المكرمة خلال الفترة الممتدة ما بين 737- 873هـ/ 1336- 1468م. غير أنه لابد أولاً من إعطاء فكرة عن أصل تسمية كلتا هاتين الفئتين.
ينتسب القواد العمرة إلى جدهم عمر بن مسعود المكي، وكان مسعود مولى لأبي سعد الحسن بن علي بن قتادة أمير مكة المكرمة (647- 651هـ/ 1250-1254م)(4).
أما القواد الحميضات فهم نسبة بالولاء إلى شريف مكة المكرمة حميضة بن أبي نمي محمد بن أبي سعد الحسن بن علي بن قتادة (701-720هـ/ 1301-1320م)(5). وقبل أن ندخل في سياق الحديث عن موضوع الدراسة يحسن بنا أن نعطي عرضاً سريعاً عن الأحوال العامة في مكة المكرمة خلال فترة الدراسة.
الأحوال السياسية:
في أواخر القرن السادس الهجري، وبالتحديد في سنة (597هـ/ 1200م) سيطر الشريف قتادة بن إدريس الحسني القادم من ينبع على مكة المكرمة، وأسس بذلك حكم أسرة بني قتادة(6). وتعد فترة حكم الشريف أبي نمي محمد بن أبي سعد الحسن بن علي بن قتادة أطول فترة في حكم هذه الأسرة حيث امتدت خمسين عامًا تقريبًا (652-701هـ/1254-1301م) واستطاع بفضل قوة شخصيته وحنكته السياسية أن يحافظ على استقلال مكة المكرمة في وجه مطامع الدولتين المملوكية والرسولية(7). ومن أبرز أمراء مكة المكرمة من أشرافها بعد وفاة أبي نمي، الشريف عجلان بن رميثة بن أبي نمي (744- 774هـ/ 1343- 1373م)، وابناه أحمد (774-788هـ/ 1373-1386م)، وحسن (798- 829هـ/ 1395 – 1426م). والأخير تولى إمارة مكة المكرمة أكثر من مرة، وابنه بركات (829- 859هـ/ 1426- 1455م)(8). ثم حفيده محمد بن بركات الذي تولى إمارة مكة المكرمة بين عامي (859- 903هـ/ 1455 – 1497م). وقد اتصفت العلاقات بين أمراء مكة المكرمة من الأشراف، والدولة المملوكية بالتذبذب وعدم الاستقرار؛ فتارة تكون العلاقات جيدة، وتارة تصبح سيئة، كما استغل سلاطين المماليك الصراع بين الأشراف؛ للتدخل في شؤونهم، وتوطيد نفوذهم في مكة المكرمة. الأوضاع الاقتصادية: تقع مكة المكرمة "بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ" كما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى:" ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة ، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم .. " [إبراهيم: 37] . وتحف بها جبال الحجاز، واشتهرت منذ القدم بقلة الزراعة عدا الوديان القريبة منها التي تعد مورداً أساسياً لتموينها بحاجاتها من المحاصيل الزراعية، ومنها وادي مر(9)، ووادي نخلة(10)، كما أن للطائف أثراً كبيراً في تزويد مكة المكرمة بحاجتها من الفواكه(11)، غير أنه نتيجة للقحط الذي واجه الحجاز في فترات مختلفة من تاريخه اعتمدت مكة المكرمة على المساعدات الاقتصادية التي تأتيها من داخل الجزيرة العربية، وفي مقدمة ذلك إقليم اليمامة، ومن خارجها مثل: الشام ومصر. كما كان بين الحجاز وتلك الأقاليم مبادلات تجارية(12). وتعد الحرف والصناعات من أبرز مناشط الحياة الاقتصادية في مكة المكرمة، ومن تلك الحرف العطارة، والخياطة، والنجارة، والدهان، والمعمار، والبناء، وغيرها. كما أن للتجارة أهمية كبيرة في حياة مكة المكرمة الاقتصادية، حيث اعتمدت على ميناء جدة في تجارتها، وعلى ما يحمله حجاج الجزيرة العربية والأقطار الأخرى من السلع، وتتصف مكة بوجود عدد من الأسواق قريبة من المسجد الحرام، مثل: سوق البزازين، وسوق العطارين، وسوق الحبوب، وسوق الفواكه، وغيرها(13).
الأحوال الاجتماعية:
كان المجتمع المكي يتألف من فئات عدة، يأتي على رأسها:
-الأشراف: الذين يمثلون الطبقة الحاكمة، وينتهي نسبهم إلى الحسن بن علي بن أبي طالب ]، ويستقر قسم منهم في داخل مكة المكرمة وخارجها، وخاصة في أوديتها، ويقطن قسم ثانٍ في وادي ينبع(14)، وقسم ثالث يستقر في الواديين(15).
- القواد: وهم طبقة متميزة في المجتمع المكي وهم مجال دراستنا.
- سكان مكة المكرمة الأصليون: وهم عرب ينتمون إلى قبائل الحجاز، وعلى رأسها قبيلة قريش.
- المجاورون: وهم أجناس مختلفة قدمت إلى مكة المكرمة بقصد الحج أو طلب العلم، واستقروا بها، واندمجوا في مجتمعها، وينتمي هؤلاء إلى أقطار عدة منها: اليمن، ومصر، والشام، والهند، وفارس، والمغرب وغيرها(16).
وكان الرجل في المجتمع المكي يلبس الثياب الفضفاضة، ويتحزم عليها، كما تلبس المرأة القنوع والبرقع، أما أكلاتهم المفضلة فتشمل اللحم والسمن والخبز(17)، ولهم عاداتهم الخاصة في الزواج(18). وبعض المناسبات العربية مثل: الاحتفال باستهلال الأشهر العربية، والخروج إلى العمرة ليلة هلال رجب، والاحتفال في الحرم الشريف بختم بعض أبناء أعيان مكة المكرمة القرآن الكريم، وكسوة الكعبة المشرفة(19).
بعد هذا التمهيد فإن هذه الدراسة تتركز حول نفوذ القواد العمرة والحميضات في مكة المكرمة، وقد قسمتها إلى عدد من المحاور على النحو الآتي: – النفوذ السياسي. – النفوذ العسكري. – النفوذ الاقتصادي. – النفوذ الاجتماعي.
أولاً: النفوذ السياسي :
بداية لابد من القول: إن النفوذ السياسي لأي جماعة أو فئة أو فرد يتمثل في أوجه عدة، يأتي على رأسها ممارسة الضغوط السياسية أو الانحياز إلى طرف من أطراف الصراع السياسي أو التأثير في القرار السياسي لتلك الفئات. منذ أواخر القرن السادس الهجري برز القواد بصفتهم عنصراً أساساً في موازين القوى السياسية المختلفة في مكة المكرمة، في ظل الصراع على السلطة بين الأشراف الحسنيين، وبخاصة الهواشم أمراء مكة المكرمة والشريف قتادة(20) المسيطر على ينبع، وتمثل ذلك بصورة واضحة في الدعمين السياسي والعسكري اللذين قدمهما القواد للشريف قتادة الذي قدم من ينبع، ودخل في صراع مع أسرة الهواشم ممثلة في أميرها مكثر بن عيسى(21)، مستغلاً الظروف التي تمر بها تلك الأسرة من انهماك باللهو، وتبسط في الظلم؛ مما أثار عليها جماعة من قوادها؛ فاستمالهم قتادة لصفه؛ مما أدى إلى تحقيقه النصر على مكثر(22)، وسيطرته على مكة المكرمة سنة (597هـ/ 1200م) على أرجح الأقوال(23). ولم يحدد الفاسي أو غيره فئات هؤلاء القواد أو أسماءهم، كما لم تشر المصادر إلى دور لهم طوال القرن السابع الهجري، وربما يرجع ذلك إلى أمور عدة، منها قوة شخصية الشريف قتادة، وسيطرته التامة على السلطة خلال فترة حكمه التي امتدت بين عامي (597 – 617هـ/1200-1220م)، ثم محاولة الأيوبيين الهيمنة على السلطة في مكة المكرمة، وما تلاه من صراع أيوبي رسولي للسيطرة على مكة المكرمة، وهيمنة أبي نمي على مقاليد الأمور في مكة المكرمة، والذي امتاز بشخصية قوية لم تمكن القواد من إبراز دورهم في الحياة السياسية خلال تلك الفترة(24). وبعد وفاة الشريف أبي نمي (701هـ/ 1301م) انقسم أبناؤه إلى جناحين هما: جناح حُميضَة ورميثة، وجناح عطيفة وأبي الغيث، وقد تولى الجناح الأول الممثل في حميضة ورميثة السلطة في مكة المكرمة وحكماها مشاركة بينهما، بحيث تمكنا من السيطرة على الأوضاع بدعم من بعض الأشراف والقواد، فيما مالت طائفة منهم إلى أخويهما عطيفة وأبي الغيث، ونلحظ أن دور القواد بدأ في البروز في ظل الصراع على السلطة، وهو سمة من سمات الضعف في الأوضاع السياسية في مكة المكرمة. وقد خسر عطيفة وأبو الغيث ذلك الصراع؛ فقبض عليهما، "وأقاما في الحبس مدة، ثم احتالا؛ فخرجا، وركبا إلى بعض الأشراف والقواد، فمنعوا منهما؛ ثم توجها إلى ينبع"(25). إلاّ أن عطيفة ما لبث أن عاد إلى مكة المكرمة سنة (719هـ/ 1319م) متولياً للسلطة بأمر من السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، وبعد أن استقر له الأمر كتب للسلطان المملوكي يخبره "أن القواد في طاعته، وأن حميضة نزح إلى اليمن، وفارقه بنو شعبة(26) وغيرهم، وكثر الأمن والعدل، ورخصت الأسعار"(27) وفي سنة (730هـ/ 1330م) انضم بعض القواد إلى مبارك بن عطيفة أمير مكة المكرمة ضد أمير الركب العراقي، فقتله(28). ومن هنا يتضح مدى تعاظم نفوذ القواد بعد وفاة أبى نمي. غير أن المصادر لم تحدد نسبة هؤلاء القواد وأصولهم، ولعل أول إشارة إلى القواد العُمَّرة كانت على وجه التحديد في سنة (737هـ/ 1337م) حينما أشار الفاسي إلى أحد أعيان القواد العمرة، ويدعى منصور بن عمر بن مسعود المكي(29)، الذي لم يتضح دوره في الصراع السياسي في تلك الفترة. وفي أثناء الصراع الدائر بين الشريفين عطيفة ورميثة للسيطرة على مكة المكرمة برز قائد آخر من القواد العمرة هو محمد بن عبدالله بن عمر بن مسعود المكي، وبعد مقتله على يد الشريف مبارك بن عطيفة انضم القواد العمرة إلى الشريف رميثة(30). ونلحظ أن القائد المذكور هو ابن أخ منصور بن عمر سابق الذكر وحفيد عمر بن مسعود الذي ينسب القواد إليه، ويعرفون بذوي عمر. وقد انتقم الشريف مبارك بن عطيفة من القواد العمرة على انضمامهم لعمه الشريف رميثة بأن أرسل أخاه مسعودًا إلى وادي ساية(31) لقطع نخيل القواد ذوي عمر(32). ونرى صورة أخرى للنفوذ السياسي للقواد من وجودهم إلى جانب أمير مكة المكرمة وزعماء الأشراف في استقبال القيادات الإسلامية القادمة إلى مكة المكرمة بقصد أداء فريضة الحج، ومن هؤلاء على سبيل المثال السلطان الرسولي الملك المجاهد علي(33) صاحب اليمن الذي قام بزيارة مكة المكرمة سنة (742هـ/ 1342م)، وكان في خدمته الشريف ثقبة ابن صاحب مكة المكرمة الشريف رميثة بن أبي نمي، فخرج الجميع إلى يلملم(34) لاستقباله، وبعد أدائه فريضة الحج غادر إلى اليمن، وكان الأشراف والقواد في خدمته طوال إقامته بمكة المكرمة إلى أن عاد إلى بلاده(35). كما تمثل النفوذ السياسي للقواد في تدخلهم لوقف الصراع بين زعماء الأشراف، ومن ذلك ما حدث في سنة (750هـ/ 1349م) حينما "حصل بين الشريفين عجلان وثقبة وحشة، وكان عجلان بمكة المكرمة، وثقبة بالجديد(36)، ثم خرج عجلان إلى الوادي لقتال ثقبة، فلما أن بلغ الدكناء(37) وأرض خالد(38) رام المسير إلى ثقبة؛ فمنعه القواد من ذلك"(39). وحينما اصطلح الشريفان عجلان وثقبة سنة (757هـ/ 1356م) على اقتسام الإمرة بينهما اقتسما أيضاً المماليك الذين كانوا بحوزة الشريف عجلان، وعددهم خمسون، كما انقسم الأشراف والقواد في ولائهم ودعمهم للشريفين(40)، بحيث اتخذ فريق منهم جانب الشريف عجلان، وفريق آخر انضم إلى أخيه ومنافسه على السلطة ثقبة. عاد الصراع من جديد بين عجلان وثقبة، واستطاع الشريف عجلان استمالة القواد إلى جانبه؛ مما حدا بثقبة للخروج من مكة المكرمة سنة (758هـ/ 1357م)؛ لإحساسه بفقد الدعم السياسي من جانب الأشراف والقواد، غير أن الشريفين ما لبثا أن اصطلحا في أواخر ذي القعدة (758هـ/ 1357م)(41). ثم انفرد عجلان بالإمرة بمكة المكرمة بعد وفاة أخيه ثقبة سنة (762هـ/ 1361م)(42)، ودعم مركزه السياسي بأن جعل لابنه أحمد "ربع المتحصل لأمير مكة يصرفه في خاصة نفسه"(43)، وكان يقصد من وراء ذلك إشراك ابنه في الإمرة بعد وفاة أخيه ثقبة، وأمر ابنه سنة (762هـ/ 1361م) أن يقصد أخواله القواد ذوي عمر ليدعموه"(44). فنجح الابن في مسعاه؛ وبذلك قوّى الشريف عجلان من مركزه السياسي في مواجهة إخوته، وبخاصة الشريف سند الذي انتقل بعد هذا التطور في موازين القوى السياسية إلى وادي نخلة، ثم إلى الطائف، ثم إلى المدينة، ثم إلى ينبع(45). ولم يكن الوضع السياسي في مكة المكرمة يسير على وتيرة واحدة، بل إن القواد كانوا في بعض مراحل الصراع ينضمون لأحد الأطراف على حساب طرف آخر، فحينما تدخلت السلطة المملوكية بين الشريف عنان بن مغامس بن رميثة والشريف علي بن عجلان بن رميثة، وتمكنت من التوصل إلى اتفاق بينهما للمشاركة في السلطة بمكة المكرمة سنة (792هـ/ 1390م) اتفق الطرفان على أن يكون القواد مع عنان والأشراف مع علي، كما جُعِلَ لكل منهما نواب، واقتسما الإيرادات(46)؛ وذلك لإيجاد نوع من التوازن السياسي والعسكري والاقتصادي بينهما. غير أن الأوضاع السياسية ما لبثت أن تغيرت حينما استطاع آل عجلان سنة (794هـ/ 1392م) إفساد العلاقة بين الشريف عنان والقواد الذين كانوا إلى جانبه، ولذلك تخلوا عن نصرته حين طلب منهم ذلك(47). وقد انعكست تلك الخلافات على أعيان الأشراف والقواد الذين لم يتمكنوا من الحج في سنة (794هـ/1392م) نتيجة مواقف الشريف علي بن عجلان الذي اعتقل كثيرًا من أعيان الأشراف والقواد العمرة والحميضات، وطالبهم بما وهبهم من الخيل والدروع، ثم أطلق سراح أكثرهم بعد أن استجابوا لذلك(48). لكنه أبقى بعضهم وخاصة من الأشراف، ومنهم محمد بن سيف بن أبي نمي، وقد تمكن أحد القادة العمرة ويدعى كبيش بن سنان بن عبدالله العمري من التوسط لإطلاق سراح محمد بن سيف ومن معه؛ وهذا يدل على مدى نفوذ القواد في الحياة السياسية في مكة المكرمة خلال تلك الفترة(49). كما يؤكد الدور الفاعل للقواد العمرة والحميضات ومدى نفوذهم السياسي ما حدث في سنة (795هـ/ 1393م) حينما استولى بعض الأشراف آل أبي نمي، ويحتمل أن بينهم محمد بن سيف بن أبي نمي على جدة، وحاولوا الاستيلاء على مركب وصل إليها من مصر محملاً بالقمح والشعير والفول؛ فتدخل القواد العمرة والحميضات، وأقنعوا الشريف علي بن عجلان لإعطائهم أربعمئة غرارة(50)، فلم يرضوا بذلك، فزادها مئة؛ فرحل الأشراف عن جدة(51)، وكان رحيل الأشراف عن جدة أمرًا طبيعيًا لكونهم دخلوا بهدف السلب والنهب. ومن هنا نلحظ الدور الحاسم للقواد العمرة والحميضات في إقناع الأشراف على الرحيل من جدة. ولتدعيم سلطته كان شريف مكة المكرمة يقوم بزيارات لبعض المناطق القريبة من مكة المكرمة والخاضعة لنفوذه، وكان يصطحب معه في زياراته أعيان الأشراف والقواد تأكيدًا لقوته واستقرار الأوضاع السياسية لإمارته، ومن ذلك ما حدث في سنة (804هـ/ 1401م) حينما توجه الشريف حسن بن عجلان(52) أمير مكة المكرمة إلى حلي بن يعقوب(53) نتيجة صراع بين قبيلة كنانة وصاحب حلي دريب بن أحمد بن عيسى. وقد صحب أمير مكة المكرمة في زيارته القواد العمرة والحميضات إضافة إلى الأشراف آل أبي نمي، ومن انضم إليهم من زُبيد(54)، وكلما مر على منطقة أخذ كل من له نفوذ معه إلى حلي(55).
ويبدو أن الشريف حسن بن عجلان كان يرغب من وراء اصطحابه هؤلاء تحقيق هدفين أساسيين:
1 – تأكيد قوته ومدى نفوذه وسيطرته على المنطقة.
2 – خشيته من استغلال بعض هؤلاء القادة والزعامات انشغاله وغيابه عن مكة المكرمة للثورة ضده أو دعم أجنحة مضادة له.
وفي خضم الصراع السياسي والعسكري بين الأشراف ممثلة في أمير مكة المكرمة والمناوئين له توصل الشريف حسن بن عجلان سنة (804هـ/1401م) إلى صلح بينه وبين الأشراف آل أبي نمي، وهم شميلة بن حازم وعلي بن أبي سويد وابن أخيه. فوجد القواد العمرة أن هذا الصلح لا يخدم مصالحهم إن لم يدخلهم فيه؛ فذكروا ذلك للشريف، فأخبرهم "أنه إنما صالحهم عن نفسه وجماعته"(56). ومن مظاهر النفوذ السياسي للقواد العمرة ما حدث سنة (815هـ/1412م) حينما رغب الشريف حسن بن عجلان، أمير مكة المكرمة، في إخراج جابر الحراشي(57) من ينبع حينما حاول إقناع صاحب اليمن تحويل السلع والبضائع إلى اليمن؛ فخرج الحراشي إلى مصر، وأخذ في شن الحملات على أمير مكة المكرمة، فقبض عليه، وصودرت أمواله، وبعث به معتقلاً إلى صاحب مكة المكرمة، وبقي بمنزله بمكة المكرمة حتى توسط له أحد القادة العمرة، ويدعى مكي بن راجح العمري لصداقة بينهما، فأجاره، وجمعه بالشريف حسن بن عجلان، فعفا عنه، وفوض إليه أمر جدة(58). غير أنه رغم النفوذ السياسي الواضح للقواد، وبخاصة العمرة والحميضات إلا أن بعض أمراء مكة المكرمة كانوا يعرضون عن وساطتهم في بعض حالات الصراع بين أمير مكة المكرمة ومعارضيه من الأشراف، ففي سنة (815هـ/1413م) ضرب الشريف أحمد بن محمد بن عجلان، مسعود الصبحي، نائب عمه أمير مكة المكرمة الشريف حسن بن عجلان على جدة، لخلاف مالي بينهما، يتعلق بمماطلة مسعود ببقية حوالة عليه، مما أدى إلى غضب الشريف حسن، وأمر بإخراج ابن أخيه أحمد من البلاد، فغضب لذلك إخوته، وخاصة الشريف رميثة، فخرجوا، واتجهوا نحو القواد العمرة الذين تدخلوا للصلح بين الشريف حسن وأبناء إخوته غير أن أمير مكة المكرمة لم يستجب لتلك الوساطة، فمضوا إلى ينبع، ثم إلى مصر(59). وفي خضم التنافس السياسي والصراع العسكري بين أعيان الأشراف والقواد للاستئثار بالنفوذ في مكة المكرمة نرى أن بعض الظروف السياسية قد دعت الطرفين إلى الاتحاد في مواجهة أمير مكة المكرمة، ففي سنة (820هـ/1417م)؛ ونتيجة لانضمام القواد العمرة والحميضات في العام السابق للشريف رميثة ابن أخ الشريف حسن بن عجلان أمير مكة المكرمة الذي قرر حفظ القواد العمرة والحميضات، فأخذ ما معهم من الخيل والدروع(60)، ويبدو أن الهدف من ذلك الرغبة في إضعاف شأنهم والحد من نفوذهم، وكرد فعل لذلك اتصل القواد بأعيان الأشراف ذوي أبي نمي وذوي عبدالكريم، وكما يشير الفاسي إلى ذلك بقوله: "فتلطف القواد بالشرفاء، وخضعوا لهم، وخوفوهم من غائلة هذا الأمر لما فيه من إضعاف الفريقين، فإن الشرفاء كانوا وافقوه على تسليم خيلهم ودروعهم إذا فعل ذلك القواد، وقصد الشرفاء بذلك إضعاف القواد، فمال الشرفاء لقول القواد -إلى أن يقول- وتحالف الفريقان على كف الأذى"(61). من النص السابق يتضح مدى التوافق بين الفريقين؛ نتيجة تضررهما من الإجراءات التي اتخذها ضدهم الشريف حسن، وبهذا بات موقف أمير مكة المكرمة صعباً. ومن جانب آخر تدخل أمير مكة المكرمة للصلح بين الأشراف والقواد غير أن هذا التدخل كان في بعض الأحيان يميل لصالح طرف على آخر، ففي سنة (822هـ/1419م) تدخل أمير مكة المكرمة الشريف حسن بن عجلان في الصراع بين بعض القواد العمرة والأشراف حينما قتل القائد مقبل بن هبة بن أحمد بن سنان بن عبدالله بن عمر العمري الشريف جلبان بن أبي سويد بن أبي دعيج بن أبي نمي الحسني، فضربه بالسيف ليلاً وهو متوجه إلى مكة المكرمة، فاستنفر قوم جلبان، وخشي القواد أن يحدث احتكاك بينهم وبين الأشراف، وما أن وصل الشريف حسن بن عجلان من الشرق حتى توسط بين الطرفين، ومال نحو القواد العمرة، فأمر الأشراف وحلفاءهم من القواد أن لا ينزلوا بحَدَّا(62) بطريق جدة، فرحلوا بعد أن صرف لهم نحو ألف وخمسمئة إفرنتى(63)، ورغم توسط أمير مكة المكرمة للصلح بين الطرفين إلا أن ميله نحو القواد العُمرة عمّق الخلاف بين الطرفين المتخاصمين. ومن مظاهر النفوذ السياسي للقواد أن الشريف حسن بن عجلان أمير مكة المكرمة فشل سنة (824هـ/1421م) في تعيين ابنه إبراهيم مشاركاً لأخيه بركات في حكم مكة المكرمة نتيجة اعتراض القواد على ذلك لأسباب اقتصادية، وذلك حينما اقترح لكل منهما ثلث الحاصل يصرفه في جماعته على ما يراه، وجعل الثلث الباقي من الحاصل لأمير مكة المكرمة يصرفه في مصالحه وخاصته، ويظهر أن هذا التوزيع قد جاء على حساب القواد الذين اعترضوا على إبطال ما كان قرره لهم من الرسوم في كل سنة(64). وقد دفع هذا الاعتراض الشريف حسن إلى مغادرة مكة المكرمة مع ابنه إبراهيم تجاه اليمن(65). وقد مارس القواد العمرة نفوذاً سياسياً بين الأشـراف أنفسهـم فحينمـا قتـل الشريـف علي بن حسن بن عجلان خمسة من كبار قبيلة حرب سنة (841هـ/1437م) فر خوفاً من أخيه أمير مكة المكرمة الشريف بركات بن حسن بن عجلان إلى القواد العمرة بالعُد(66)، ثم توجه إلى بني شعبة، وعندما علم الشريف بركات بما عمله أخوه لحق به غير أن القواد العمرة أخرجوه من بني شعبة، فتوجه هارباً إلى جهة اليمن، ثم اصطلح بعد ذلك مع أخيه بركات(67). ويظهر أن سبب إيواء القواد العُمَّرة للشريف حسن بن عجلان يعود لخلافهم مع أمير مكة المكرمة الشريف بركات الذي هدم الدكة التي يجلسون عليها بالقرب من فرضة جدة سنة (840هـ/ 1436م)(68). كما أسهم القواد العمرة في السلطة بصورة مباشرة في مراحل من تاريخ حكم الأشراف لمكة المكرمة، فحينما زار الشريف بركات بن حسن بن عجلان سنة (841هـ/1437م) المدينة المنورة استخلف على مكة المكرمة نائبه بوادي الآبار(69) الشريف أبا القاسم بن حسن بن عجلان وجعل معه القواد ذوي عمر كما جعل بجدة أخاه علياً، وجعل معه الأشراف وبعض القواد(70)، وخلال غياب الشريف بركات مارس أخوه الشريف إبراهيم بن حسن بن عجلان تعسفاً على الرعية، وحينما قدم الشريف بركات هرب الشريف إبراهيم ناحية اليمن، وكان معه الشريف إبراهيم، وبعض جماعة من ذوي حميضة، فتبعه الشريف بركات، وتمكن من استمالة القواد الحميضات، فاصطلح معهم، فيما بقي أخوه إبراهيم منفرداً ناحية اليمن، ثم اصطلح مع أخيه، وعاد إلى مكة المكرمة بعد موسم الحج سنة (842هـ/1438م)(71). وقد انقسم ولاء القواد العمرة للأشراف في بعض فترات تاريخ حكمهم لمكة المكرمة تبعاً لمصالحهم السياسية والاقتصادية، فنجد بعضهم مع أمير مكة المكرمة، وبعضهم الآخر مع منافسيه من الأشراف، ففي سنة (847هـ/1443م) حدث خلاف بين أمير مكة المكرمة الشريف أبي القاسم بن حسن بن عجلان وابنه زاهر، فأراد الشريف زاهر الانتقام، فأخذ إبلاً لوالده، ولبعض رعاياه في الركاني(72)، وتوجه بها مع جماعة من القواد ذوي عمر وصبيانهم نحو بني شعبة، جنوب مكة المكرمة، وكان يهدف من ذلك إغاظة والده، فلحقهم جناح آخر من القواد العمرة، واستخلصوها منهم بثمانمئة دينار أشرفي(73). وقد تنوعت الوظائف والمناصب التي تولاها القواد العمرة والحميضات وغيرهم بين نواب ووزراء ومبعوثين. ومن هؤلاء قائد يدعى قنيد بن مثقال الحسني أشير إليه بنائب البلد ووالي مكة المكرمة في سنة (851هـ/1447م)(74)، وخلفه في منصبه ابنه مسعود بن قنيد الحسني(75). ومن الوظائف السياسية منصب الوزارة وقد تولاه في عهد أمير مكة المكرمة، الشريف أحمد بن عجلان، القائد علي بن سنان بن عبدالله بن عمر بن مسعود العمري المتوفى سنة (805هـ/ 1403م)(76). ومن المبعوثين القائد محمد بن عبدالكريم العمري الذي أرسله الشريف بركات إلى أمير الركب بمكة المكرمة سنة (850هـ/ 1446م)(77). وقد حدث خلاف شديد بن الشريف بركات بن حسن بن عجلان والقواد العمرة لأسباب لم تحددها المصادر، مما حدا بشريف مكة المكرمة أن يطلب من القواد العمرة أن يرحلوا عن مكة المكرمة صوب اليمن، وكانوا قد طلبوا أولاً الرحيل صوب الشام غير أن أمير مكة المكرمة رفض ذلك وقال: "إن عزمتم على الشام فأنتم مني في القنا"(78)، فما كان منهم إلا أن ارتحلوا صوب اليمن سنة (857هـ/ 1453م)(79). وقد بقيت من ذوي عمر بقية في مكة المكرمة حتى سنة (873هـ/1468م) حينما أمر الشريف محمد بن بركات أمير مكة المكرمة بالقائد محمد بن بديد بن شكر الحسني، وخاله أحمد بن منيف فقتلا بحضرته بين وادي عروة والجموم(80) ونفى الشريف جماعة بديد، وذوي عمر؛ فباع ذوي عمر جميع أموالهم، وخرجوا كلهم إلى ناحية اليمن(81). غير أن القواد العمرة قد استخدموا فيما بعد كورقة ضغط عسكري وسياسي من قبل القوى السياسية المناوئة لأمير مكة المكرمة وعلى رأسهم صاحب جازان؛ مما أدى إلى وقوع أحداث سنوردها في القسم الخاص بالنفوذ العسكري(82). وبعد نهاية حديثنا عن هذه الجزئية يتضح أن أمراء مكة المكرمة من الأشراف قد استعانوا بالقواد، وبخاصة العمرة والحميضات للحد من نفوذ أعيان الأشراف المنافسين لهم على السلطة، كما استعانوا بهم للتوسط في النزاع القائم بينهم وبين منافسيهم، غير أن هؤلاء القواد قاموا بأدوار أخرى أضرت بشريف مكة المكرمة نفسه. ثانياً: النفوذ العسكري يمثل الدعم العسكري الذي يتلقاه أشراف مكة المكرمة أهمية أساسية في موازين القوى السياسية بين أطراف الصراع على السلطة في مكة المكرمة، ومن أبرز العناصر التي ظهرت على مسرح الأحداث في مكة المكرمة، وشكلت ثقلاً عسكرياً القــواد، وعلى رأسهم القواد العمرة والحميضــات. ولم يكن القواد بشكل عام والعمرة والحميضات بشكل خاص يمثلون كتلة واحدة، وإنما كانوا أجنحة عدة انضم كل منها إلى أحد أطراف الصراع السياسي من الأشراف والأمراء، ويمكن القول: إن هناك أسبابًا عدة وراء ذلك الانقسام:
- اختلاف المصالح بين القــواد أنفسهم، ورغبة كل جناح الحصول على مكاسب سياسية واقتصادية من وراء انضمامه إلى أحد الأطراف.
- إيجاد نوع من التوازن بين الأمراء والأشراف في ظل صراعهم على السلطة، وهو بذلك نوع من توزيع الأدوار بين هؤلاء القواد. وقد حفلت تلك الفترة بمعارك وصراعات بين أمراء مكة المكرمة من الأشراف من جهة، وبينهم وبين القوى السياسية والقبلية في المنطقة من جهة أخرى، ويمكن القول: إن تلك الصراعات كان لها أثر كبير في إضعاف النفوذ السياسي لأشراف مكة المكرمة، وتعاقب كثير من الأشراف على حكمها، كما شجع السلطنة المملوكية على التدخل في شؤون الحكم في مكة المكرمة(83). وفي هذه الدراسة سأعرض بعض جوانب الصراع العسكري، ودور القواد العمرة والحميضات في ذلك الصراع، وأبرز القواد الذين قاموا بأدوار مهمة في تلك الفترة. إن أول إشارة إلى النفوذ العسكري للقواد كان مع مجيء الشريف قتادة بن إدريس الحسني من ينبع، وسيطرته على مكة المكرمة سنة (597هـ/1200م)(84). وتشير المصادر إلى أن كفة الشريف قتادة قد رجحت عندما تخلت جماعة من القواد عن أمير مكة المكرمة مكثر بن عيسى نتيجة ما ذكر من "انهماك أمرائها الهواشم بني فليته على اللهو وتبسطهم في الظلم"، وقد لحظ الشريف قتادة هذا الموقف من القواد؛ فتمكن من استمالتهم، ومن هنا يتضح أن هؤلاء القواد قد قدموا الدعم العسكري اللازم للشريف قتادة الذي مكنه من انتزاع مكة المكرمة من الهواشم(85). وبعد وفاة الشريف أبي نمي محمد بن أبي سعد الحسن بن علي سنة (701هـ/ 1301م)(86) انقسم أبناؤه فيمن يتولى الإمارة، ودخلوا في صراع فيما بينهم، وساندت أجنحة من القواد أبناء أبي نمي، وكان للضغط العسكري أثره في انسحاب بعضهم من مكة المكرمة ومن السلطة لصالح آخرين من الإخوة، كما كان لدعم السلطان المملوكي والقواد أثر كبير في ترجيح كفة أحدهما على الآخر، ففي سنة (719هـ/ 1319م) ولى السلطان المملوكي الناصر محمد الشريف عطيفة بن أبي نمي مكان أخيه حميضة، وتلقى عطيفة دعماً عسكرياً وسياسياً من القواد الذين لم تحدد المصادر أسماءهم أو انتماءاتهم، واضطر الشريف حميضة نتيجة لذلك للنزوح ناحية اليمن(87). ثم قتل الشريف حميضة في العام التالي (720هـ/ 1320م) حينما حاول استعادة السلطة(88). ورغم أن الشريفين رميثة وعطيفة قد اصطلحا واتفقا على المشاركة في الإمرة سنة (737هـ/ 1337م) إلا أن الصراع ما لبث أن وقع بين الأخوين ممثلاً في ابنيهما مبارك بن عطيفة، ومغامس بن رميثة اللذين تركاهما في مكة المكرمة، وغادرا إلى الواديين، فحصل بين الشريفين خلاف، فاستعد مبارك لقتال مغامس فزحف نحو الجديد في سنة (737هـ/ 1337م)، وسانده أصهاره من قبيلة بني عمير(89) وبعض القواد العمرة، فيما ساند قواد آخرون مغامس، ودخل الطرفان في صراع عسكري انتهى بانتصار الشريف مبارك، وبلغ الصراع ذروته حينما منع الشريف مبارك عمه الشريف رميثة من دخول مكة المكرمة بعد عودته من ناحية اليمن، ثم سمح له بعد ذلك بالدخول، وغادر الشريفان رميثة وعطيفة بعد ذلك مكة المكرمة إلى مصر(90). وقد حدث تحول أثناء الصراع بين الطرفين تمثل في ترك القواد – وبخاصة العمرة – الشريف عطيفة، ومالوا إلى الشريف رميثة نتيجة مقتل أحد أبرز زعاماتهم، وهو القائد محمد بن عبدالله بن عمر بن مسعود العمري على يد الشريف مبارك بن عطيفة في سنة (737هـ/ 1337م)، لخلاف وقع بينهما، كما انتقم من القواد العمرة نتيجة خروجهم على والده؛ فأرسل أخاه مسعوداً إلى وادي نخلة لقطع نخيلهم(91). إن ما قام به الشريف مبارك يرمي لإضعاف النفوذ الاقتصادي للقواد العمرة، وبالتالي تقليص نفوذهم السياسي والعسكري، غير أن القواد العمرة لم يسكتوا على ما وقع لهم، بل انتقموا بأن هاجموا، ومعهم الشريف ثقبة بن رميثة، أخاه مسعودًا في جهة اليمن؛ فقُتِل مسعود بن عطيفة واثنا عشر رجلاً من أصحاب مبارك، ولم يكن الشريف مبارك حاضراً في تلك المعركة، وحينما سمع بمقتل أخيه ولى منهزماً مع صاحب له فلحقهما القواد العمرة فلم يتمكنا منهما(92). ومن دلائل نفوذ القواد العسكري تدخلهم لمنع القتال بين الأشراف من الأمراء، فقد اشترك الشريفان عجلان وثقبة بن رميثة في حكم مكة المكرمة غير أن خلافاً وقع بينهما سنة (750هـ/1349م)، وكاد يقع قتال بين الطرفين حينما خرج الشريف عجلان لقتال أخيه الشريف ثقبة بالجديد، وحينما بلغ الدكناء وأرض خالد منعه القواد من قتال أخيه وتدخلوا، وأصلحوا بين الأخوين(93). وفي خضم الصراع على السلطة في مكة المكرمة أصدر السلطان المملوكي الملك الظاهر برقوق(94) في سنة (789هـ/1387م) أمرًا بعزل الشريف عنان بن مغامس، وتولية الشريف علي بن عجلان إمرة مكة المكرمة، ووصل إلى السيد علي تقليد وخلعة؛ فامتنع الشريف عنان وأصحابه عن تسليم السلطة لعلي بن عجلان، فجمع أخوه الشريف كبيش بن عجلان جيشاً ضم عدداً كبيرًا من القواد العمرة والحميضات لمحاربة عنان وإخراجه من مكة المكرمة، وحاول الشريف كبيش دخول مكة المكرمة ومعه القواد العمرة من جهة ثنية الأذاخر، على مقربة من الأبطح(95)، غير أن الشريف عنان تمكن من إلحاق الهزيمة بذلك الجيش بعد مقتل كبيش بن عجلان، وفرار آل عجلان إلى وادي مر(96)، ويظهر أن هزيمة جيش كبيش نتيجة عوامل عدة:
- إصرار الشريف كبيش على مبارزة الشريف عنان؛ مما أدى إلى خروج أحد أصحاب عنان ومبارزته ومقتل كبيش مما أثر في معنويات الجيش فتقهقروا.
- انحياز فئة من القواد العمرة لعنان؛ مما أضعف الموقف العسكري لكبيش.
- مقتل عدد كبير من القواد العمرة؛ مما أثر على التوازن العسكري بين الطرفين.
- مبادرة الشريف عنان بمقاتلة جيش الشريف كبيش قبل وصول بقية الجيش إلى الأبطح. وممن قتل في تلك المعركة من القواد العمرة لقاح بن منصور ونحو عشرين من عبيد الأشراف آل عجلان. وبعد فترة من النزاع بين الشريفين عنان بن مغامس وعلي بن عجلان وصل الشريف عنان إلى مكة المكرمة قادماً من مصر عن طريق ينبع سنة (792هـ/1390م)، وتوصل الطرفان إلى اتفاق بينهما على اقتسام إمرة مكة المكرمة وكذلك مواردها، وأن يكون القواد مع الشريف عنان، والأشراف مع الشريف علي(97). ويظهر أن النفوذ السياسي والعسكري للقواد قد وصل إلى درجة الخروج عن طاعة أمير مكة المكرمة، ومحاولة التعدي على الحجاج، واتخذ البعض من الخلافات مع أمراء ركب الحج ذريعة لذلك، ففي سنة (797هـ/ 1394م) وفي يوم التروية وقع خلاف بين بعض القواد العمرة وأمير الركب الحلبي ابن الزين، فاضطربت الأوضاع، فهاجم القواد الركب الحلبي، كما نهبوا أموالاً كثيرة للحجاج، وقتل بعضهم(98). ومن هنا يتضح اختلال الأمن في تلك السنة، وعدم قدرة أمراء مكة المكرمة من الأشراف على ضبط الأوضاع فيها وفي المشاعر. ونتيجة لسوء العلاقة بين أمير مكة المكرمة الشريف حسن بن عجلان والأشراف فقد صمم على كسر شوكتهم متخذاً من تحالفه مع القواد العمرة والحميضات ركيزة أساسية في مواجهته لهم. كان الأشراف قد اجتمعوا إلى دريب بن أحمد بن عيسى صاحب حلي، وهم في طريقهم إلى وادي مر، فحذَّرهم من صاحب مكة المكرمة، غير أنهم استهانوا به، وخرج الشريف حسن بن عجلان من مكة المكرمة للقائهم بوادي مر، والتقى الفريقان بمكان يقال له: الزبارة(99) سنة (798هـ/1395م)، وتعد هذه المعركة من أبرز المعارك التي جرت بين الشريف عجلان ومنافسيه من الأشراف آل أبي نمي، ويظهر أن الأشراف قد استهانوا بقوة أمير مكة المكرمة وحلفائه من القواد العمرة والحميضات، ولكي يحقق الأشراف الانتصار عمدوا إلى الانفراد بالقواد العمرة والحميضات فهاجموهم، وأجبروهم على الانسحاب من مواقعهم، وكادوا أن يهزموهم، غير أن الشريف حسن وبعض قيادات العمرة والحميضات الذين كانوا في قلب الجيش هاجموا الأشراف، وتمكنوا من إلحاق الهزيمة بهم، وقتلوا سبعة من أبرز زعمائهم، كما قُتِل ثلاثون من أتباع الأشراف(100). وفي محاولة للانتقام لما حل بهم في معركة الزبارة أغار الأشراف على إبل للقواد العمرة بمكان يقال له الشعيبة(101)، وقتلوا القائد ودي بن أحمد بن سنان بن عمر بن مسعود العمري(102) مع غيره؛ فلحقهم القواد، وتمكنوا من قتل بعض الأشراف، ومنهم فياض بن سويد بن أبي دعيج بن أبي نمي(103) والشريف واصل بن شميلة بن(104) أبي نمي وغيرهما(105). وقد أدى سوء العلاقات بين أمير مكة المكرمة وبعض القواد إلى انضمام هؤلاء القواد إلى بعض المناوئين له من الأشراف؛ مما دعم مركزهم السياسي والعسكري، ففي سنة (799هـ/1396م)، ونتيجة لغضب القواد الحميضات على الشريف حسن بن عجلان، أمير مكة المكرمة، انضموا إلى الأشراف الطامعين في أموال التجار في جدة حيث استولوا عليها وتمكن الشريف حسن من إخراجهـم منهـا، فهربوا إلى خليص(106)، فأجارهم بعض القواد، ثم اصطلح معهم أمير مكة المكرمة بإعطائهم خمسين ألف درهم على ألا يتعرضوا للتجار(107). من خلال ما سبق يتضح أن العلاقات بين الشريف حسن بن عجلان والقواد العمرة والحميضات من جهة والأشراف من جهة أخرى كانت متذبذبة، وتعكس تضارب المصالح السياسية والاقتصادية بين مختلف الأطراف، فلم تكن التحالفات ثابتة، بل تتغير حسب مصالح كل طرف، فتارة ينضم القواد إلى أمير مكة المكرمة ضد الأشراف، وأحياناً أخرى ينضمون للأشراف ضد شريف مكة المكرمة. ورغم ذلك فقد شكل القواد العمرة والحميضات ركيزة أساسية في مجال النفوذ العسكري في مكة المكرمة، بل امتد الاحتكاك العسكري إلى قوى سياسية وعسكرية أخرى كان لها نفوذ في مكة المكرمة ومنها أمير ركب الحج المصري الذي كان يمارس نفوذاً سياسياً وعسكرياً في مكة المكرمة والمشاعر أثناء موسم الحج استمده من سلطة السلطة المملوكية ونفوذها. ففي سنة (817هـ/ 1414م) وقع قتال بين أمير الركب المصري جقمق(108) المؤيدي والقواد العمرة في المسجد الحرام؛ نتيجة منعه أحد غلمان القواد العمرة، ويدعى جراد من حمل السلاح بمكة المكرمة، وحينما رفض بادر إلى اعتقاله وسجنه مما أثار عليه القواد العمرة الذين وسطوا الشريف حسن بن عجلان أمير مكة المكرمة لإطلاق سراحه غير أن وساطته لم تنجح؛ مما حدا بالقواد العمرة لاستخدام القوة العسكرية لتخليصه، فدخلوا في معركة مع أمير الركب المصري بسوق العلاّفة(109) أسفل مكة المكرمة، ورجحت كفة الركب المصري على القواد، وبعد أن قتل وجرح عدد من الفريقين توقف القتال بعد وساطة أمير مكة المكرمة الشريف حسن بن عجلان الذي أقنع القواد العمرة بالذهاب لأمير الركب المصري والاعتذار لما وقع، كما أرسل ابنه أحمد لهذا الغرض، وانتهى الأمر بإطلاق سراح الغلام(110). وكان للمصالح الاقتصادية دور مهم في الصراع السياسي على النفوذ وفي الدعم العسكري، ففي سنة (818هـ/1415م) صدر أمر السلطان المملوكي الملك المؤيد شيخ(111) بعزل الشريف حسن بن عجلان من نيابة السلطنة بالأقطار الحجازية(112)، وعزل ابنيه بركات وأحمد من إمرة مكة المكرمة، وأصدر مرسوماً بتولية ابن أخيه الشريف رميثة بن محمد بن عجلان هذين المنصبين، ويعود قرار السلطان المملوكي لأسباب عدة، منها:
- عدم وصول عشرة آلاف مثقال المقررة للسلطان المملوكي في كل سنة من مال القاضي كمال الدين موسى بن جميع.
- الخلاف الذي وقع بين شريف مكة المكرمة وأمير الحاج المصري في موسم حج سنة (817هـ/ 1414م).
- العلاقة الوطيدة التي تربط الشريف رميثة بن محمد بن عجلان بالسلطنة المملوكية(113). غير أن الشريف حسن لم يقبل بقرار العزل، وصمم على استعادة سلطته؛ فطلب الدعم من الأشراف، فلم يتم له ذلك، واستغل القواد العمرة المأزق الذي وقع فيه الشريف حسن، فوعدوه بالدعم العسكري، واستدعوه إلى مكة المكرمة، وقرر الذهاب إلى الوادي(114) لمحاربة ابن أخيه بدعم من القواد العمرة، غير أن القواد لم يستجيبوا لطلبه الذهاب معه إلى الوادي إلا بعد الحصول على منافع اقتصادية لم تحدد، فلم يوافق، وخرج من مكة المكرمة متجهاً نحو الشرق، ثم ذهب إلى المدينة المنورة، وعاد إلى مكة المكرمة، ومنها إلى جدة حيث استولى عليها، فهرب الشريف رميثة شمالاً(115)، وفي فترة لاحقة من سنة (818هـ/ 1415م) تمكن الشريف حسن من إقناع السلطان المملوكي المؤيد شيخ بالعودة لإمارة مكة المكرمة بعد ما التزم له بثلاثين ألف دينار، كما انتقم من ابن أخيه رميثة والقواد العمرة والحميضات الذين تخلوا عنه بإخراجهم من مكة المكرمة في سنة (819هـ/ 1416م) بالقوة العسكرية بعد أن رفضوا الخروج بصفة سلمية. غير أنه صالح بعض القواد العمرة، واستمالهم بشرط تخليهم عن ابن أخيه رميثة. ومن هنا يتضح مدى ما تمتع به الشريف حسن من دهاء سياسي مكنه من كسب قلوب بعض القواد العمرة رغم تخليهم عنه في السابق، كما تمكن من إجبار ابن أخيه الشريف رميثة على مغادرة مكة المكرمة إلى ناحية اليمن(116) .
ومما سبق يتضح أهمية جدة لإمارة مكة المكرمة التي تمثل:
- بوابة مكة المكرمة الاقتصادية، حيث يتم من خلالها جلب البضائع الواردة من خارج الحجاز، عبر البحر بوصفها إحدى أهم منافذ التموين الغذائي لمكة المكرمة.
- وسيلة للضغط السياسي والعسكري والاقتصادي من قبل المعارضين لأمير مكة المكرمة، وبخاصة الأشراف والقواد. ونتيجة للقتال السابق توفي سنان بن راجح بن محمد بن عبدالله بن عمر بن مسعود العمري سنة (819هـ/ 1416م)، وهو أحد القادة البارزين من القواد العُمَّرة، وكان قد انضم للشريف رميثة ضد عمه الشريف حسن(117). وفي العام التالي التقت مصالح القواد والأشراف على التحالف ضد شريف مكة المكرمة حسن بن عجلان بعد أن تصالح الطرفان، وأعطى القواد الأشراف دية قتيل شريف قتله بعض القواد في أعوام سابقة، وتمكن هذا التحالف السياسي والعسكري من الاستيلاء على جدة، كما استولوا على بعض الغلال ومنها الذرة، غير أن الشريف حسن استطاع السيطرة على جدة بعد أن أرسل ابن أخيه الشريف رميثة الذي صالحه في وقت سابق على رأس قوة عسكرية، فاستولى عليها، ورحل الأشراف والقواد إلى الدكناء، ثم استجمعوا قواهم، وزحفوا نحو مكة المكرمة، فخرج إليهم مفتاح الزفتاوي(118) نائب الشريف حسن، واستطاع الأشراف والقواد الانتصار على جيش الشريف حسن في موقع يعرف بعين أبي سليمان(119)، وقتل نائبه، وعدد من جنـــود شريف مكة المكرمة، وكان لهــذا الهجــوم وقعه السيئ على الشريف حسن(120). ويبدو أن التحولات في التحالفات السياسية والعسكريــة لم تتوقف طــوال فتــرة حكم الشريف حسن بن عجلان. وقد تمثلت في مرحلة لاحقة بانضمام الأشراف والقواد للشريف رميثة، واستطاع هذا التحالف الاستيلاء على جدة سنة (824هـ/ 1421م)(121). ووصلت التحالفات السياسية والعسكرية ذروتها في عهد شريف مكة المكرمة حسن بن عجلان في سنة (825هـ/1422م) حينما وصل الشريف مقبل بن مخبار، أمير ينبع، إلى مكة المكرمة لدعم الموقف العسكري لأميرها ضد ابن أخيه الشريف رميثة والقواد العمرة الذين انضموا للشريف رميثة فيما انضم الأشراف آل أبي نمي للشريف حسن، غير أن أمير مكة المكرمة لم يكن فيما يظهر واثقاً من صدق أمير ينبع في دعمه، وبالتالي ظهرت منافرة بين الطرفين. وتمكن الشريف رميثة وحلفاؤه من القواد العمرة من الاستيلاء على جدة انطلاقاً من وادي مر. غير أن جناحاً من القواد العُمَّرَة حاولوا إقناع الشريف حسن بدعمه عسكرياً لاستعادة جدة، إلا أن أمير مكة المكرمة لم يكن واثقاً من إخلاصهم خشية أن تكون تلك مكيدة منهم، فرفض اقتراحهم(122). يتضح مما سبق كيف تغيرت التحالفات السياسية والعسكرية تبعاً للمصالح المتضاربة للأطراف المتصارعة، وشكلت إمارة مكة المكرمة ممثلة في أميرها الركيزة الأساسية لتلك التحالفات. ونظراً لأهمية مكة المكرمة للدولة المملوكية فإن أي تذمر من جانب الحجاج تجاه معاملتهم من قبل شريف مكة المكرمة يؤدي إلى تحول في سياسة السلطان المملوكي الأشرف برسباي(123) تجاه أميرها، وهذا ما حدث في سنة (827هـ/1424م) حينما اشتكى الحجاج المصريون وبعض الأتراك من الشريف حسن؛ فتغير خاطر السلطان المملوكي على الشريف حسن بن عجلان؛ فعزله، وعين مكانه الشريف علي بن عنان بن مغامس سنة (827هـ/1424م)، وأرسله من مصر مع قوة عسكرية لضمان سيطرته على السلطة، وحينما علم الشريف حسن بذلك غادر مكة المكرمة مع أنصاره، وتوجهوا صوب اليمن. وعندها بادر الأشراف والقواد العمرة والحميضات والمولدون المنسوبون لعجلان، وابنه لتغيير تحالفاتهم السياسية، وانضموا مع القوة العسكرية التي دخلت مكة المكرمة، وقرئ التوقيع بإمرة الشريف علي بن عنان، والأمان لمن دخل في طاعته، ومن لم يدخل فلا أمان له بعد شهر(124). ورغم محاولة الشريف حسن وابنه بركات استعادة السلطة إلا أن محاولتهما تلك باءت بالفشل وحلت بهما الهزيمة العسكرية على يد الشريف علي بن عنان، وقتل في تلك المحاولة ولد للقائد البارز ودي العمري المتحالف مع الشريف حسن(125). غير أن السلطان المملوكي برسباي اتضح له أن مكة المكرمة لن تستقر لعلي بن عنان بن مغامس؛ فأصدر أمراً في سنة (829هـ/ 1426م) بعزله، وتولية الشريف حسن بن عجلان، وجهزه من مصر إلى مكة المكرمة، لكنه توفي في الطريق، وطلب السلطان من ابنيه بركات وإبراهيم الحضور للقاهرة، فخرجا من مكة المكرمة، وجعلا عليها أخاهما الشريف أبو القاسم بن حسن، وحاول أنصار الشريف علي بن عنان استعادة السلطة في مكة المكرمة؛ فخرج لهم الشريف أبو القاسم ومعه القواد العمرة والحميضات وذوو عجلان وذوو حسن، ودخل معهم في قتال في خيف بني شديد(126)، وتمكن من الانتصار عليهم، وقُتِل من جيش الشريف عنان عدد كبير، بينهم عدد من الأشراف ومحمد بن رشيد نائب الشريف علي بن عنان في مكة المكرمة، وهرب من بقي منهم إلى ينبع، والتجؤوا عند الشريف عقيل بن مخبار صاحب ينبع(127). وفي ظل الصراع على السلطة بعد وفاة الشريف حسن نرى أن بعض أبنائه يسعى للحصول على مغانم اقتصادية دعماً لنفوذه السياسي والعسكري، فقد أصدر السلطان المملوكي برسباي سنة (829هـ/ 1426م) أمراً بتعيين الشريف بركات بن حسن بن عجلان أميراً على مكة المكرمة بعد أن استدعاه وأخاه إبراهيم إلى القاهرة، وأن يدفع للسلطنة المبلغ المتفق عليه سنوياً(128)، وأن يكون أخوه السيد إبراهيم في طاعته(129). غير أن الشريفين إبراهيم وأبا القاسم بن حسن بن عجلان قد خرجا عن طاعة أخيهما؛ مما اضطره لإرسال رسول إلى السلطان المملوكي سنة (831هـ/1428م) يطلب دعماً عسكرياً ضد أخويه(130). وحينما علما بذلك لم يدخلا مكة المكرمة خوفاً من جيش السلطان(131)، وبدأ الشريف أبو القاسم بشن الغارات طمعاً في الحصول على مغانم اقتصادية، فهاجم جدة، وأخذ بعض التجار(132)، كما هاجم بعض القواد خارج مكة المكرمة(133)، واستولى على بعض أموالهم. وفي سبيل تدعيم سلطته السياسية أرسل الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة المكرمة سنة (837هـ/1433م) جيشاً نحو بلاد شهران(134) بقيادة ابن عمه الشريف رميثة، ومعه بعض القواد العمرة والحميضات، غير أن هزيمة مريرة لحقت بذلك الجيش، وقتل قائده الشريف رميثة وبعض القواد العمرة والحميضات، من بينهم القائد جماز بن مقبل العمري، والقائد محمد بن جسار الحميضي، وعدد من العبيد والمولدين(135). وقد مارس بعض القواد العمرة نفوذاً خارج مكة المكرمة تمثل في حماية من يلتجئ إليهم، والدفاع عنهم دون العودة لأمير مكة المكرمة، وقد أدى ذلك إلى اصطدام مع بعض القوى السياسية والعسكرية، ففي عهد الشريف بركات وقع في سنة (840هـ/1436م) بين القواد العمرة والترك -وهم جنود السلطنة المملوكية- نزاع بسبب جلوسهم على دكة في جدة، "فإذا استجار بهم أحد من الناس لا يمكنون منه أحداً"(136)، وهذا أدى إلى الاصطدام بالجنود الأتراك، وحينما علم الشريف بركات بما حدث قدم إلى جدة، وهدم الدكة التي يجلس عليها القواد(137). ونتيجة للصراع على السلطة في مكة المكرمة واضطراب العلاقات بين السلطان المملوكي الظاهر جقمق(138)، والشريف بركات أصدر السلطان المملوكي سنة (845هـ/ 1441م) أمراً بتعيين أخيه الشريف علي بن حسن بن عجلان بدلاً منه أميراً على مكة المكرمة، وتلقى الشريف علي الذي عاد إلى مكة المكرمة من مصر دعماً من الأمير يشبك الصوفي(139). غير أن الشريف بركات لم يقبل بقرار عزله، وصمم على انتزاع السلطة من أخيه بالقوة العسكرية، فقام باستمالة القواد العمرة، وزحف أولاً نحو جدة سنة (846هـ/ 1442م)، وسيطر عليها، وأخذ العشور من أموال التجار إلاّ أن الشريف علي بادر بالزحف مع الجنود الأتراك نحو جدة حتى يحول بين الشريف بركات والهجوم على مكة المكرمة، والتحم الفريقان في معركة كبيرة وقعت خارج جدة عرفت بمعركة الحدبة، شارك فيها الأشراف ذوو أبي نمي الذين انضموا للشريف بركات، كما شارك فيها أيضاً إلى جانب الشريف بركات بعض القواد العمرة والحميضات، وأسفرت المعركة عن انتصار جيش الشريف علي، ومقتل عدد كبير من قادة جيش الشريف بركات، وعلى رأسهم بعض القواد العمرة الذين قطعت رؤوسهم وطيف بهم في جدة تنكيلاً بهم، وتحذيراً للشريف بركات، ومن بينهم أحمد بن علي بن سنان العمري(140)، وجسار بن أحمد بن عبدالكريم العمري(141)، ودبيس بن جسار بن سنان بن راجح العمري(142)، وعويد بن منصور بن راجح بن محمد بن عبدالله العمري(143)، ومقدم بن عبدالله العمري(144)، ووبير بن جويعد العمري وغيرهم من مولديهم، وجماعة من عبيد الشريف حسن وولده الشريف بركات(145). وفي أعقاب هزيمة الشريف بركات انسحب نحو العد(146) جهة اليمن(147). ونتيجة لفشل الشريف بركات في استعادة السلطة، ولحاجته للمال عمد إلى شن الغارات على القبائل، وإلى السلب والنهب مستعيناً في ذلك بجماعة من ذوي حميضة، ففي سنة (848هـ/1444م) هاجم عددًا من القبائل، ومنهم: عرب مطير، وعرب من بني سعد يقال لهم: يمن، وغنم منهم إبلاً وأغناماً، وتصدى له الشريف أبو القاسم بن حسن بن عجلان(148) بأن أرسل له القائدين مطيرق بن منصور بن راجح(149)، وسنان بن علي بن سنان(150) العمريين يحذرانه من مغبة مواصلة الغارات على القبائل، ويأمرانه برد الأموال التي سلبها منهم، ثم توصل الطرفان إلى الصلح بأن يتنازل الشريف بركات عن جزء مما سلبه فيما يدفع أبو القاسم جزءاً آخر للقبائل(151). ومن هنا يتضح أن الشريف بركات في تلك الغارات على القبائل حقق هدفين أساسيين:
- وسيلة للحصول على مكاسب اقتصادية.
- ممارسة ضغط سياسي وعسكري على أمير مكة المكرمة بإشاعة نوع من الفوضى الأمنية في البلاد تتيح له الفرصة لاستعادة سلطته في مكة المكرمة. ولعل النفوذ العسكري للقواد العمرة والحميضات كان واضحاً في الحياة السياسية في مكة المكرمة خلال العصر المملوكي، وانعكس أثره على موازين القوى السياسية في المنطقة بين الأمراء والأشراف.
ثالثاً: النفوذ الاقتصادي :
يمثل الاقتصاد أهمية كبرى لأي مجتمع من المجتمعات، كما يعد ركيزة أساسية لأي سلطة سياسية، وفيما يتعلق بالأوضاع في مكة المكرمة في العصر المملوكي فقد شكل النشاط الاقتصادي سمة مهمة في تاريخها سواء ما يتصل بالمناشط الاقتصادية المختلفة في مكة المكرمة، أو ما يتم أثناء موسم الحج مما يرد إليها من صدقات وهبات وسلع مختلفة وغيرها. وسأعرض في هذه الجزئية مدى النفوذ الاقتصادي للقواد العمرة والحميضات عبر محاولاتهم الحصول على مكاسب اقتصادية؛ لتدعيم نفوذهم السياسي والعسكري في مكة المكرمة أو عبر محاولة الأشراف، وبخاصة أمراء مكة المكرمة، تقليص ذلك النفوذ من خلال تقليل الدعم الاقتصادي للقواد أو مصادرة أموالهم. فيما يتعلق بمحاولة الأشراف إضعاف النفوذ الاقتصادي للقواد العمرة قام الشريف مبارك الذي ناب عن والده الشريف عطيفة في إمارة مكة المكرمة سنة (737هـ/1337م) بإرسال أخيه مسعود إلى الوادي لقطع نخيل القواد ذوي عمر(152)، ويظهر أن ما قام به الشريف مبارك كان عقاباً للقواد العمرة على انضمامهم إلى عمه رميثة بعد قتل مبارك للقائد محمد بن عبدالله بن عمر بن مسعود العمري(153). وفي مجال التأثير السياسي على الجانب الاقتصادي نرى أن أمير مكة المكرمة يستعين بالقواد من أجل كبح جماح الأشراف، وإضعاف نفوذهم السياسي والعسكري خاصة إذا كان لهؤلاء الأشراف مطامع اقتصادية، ففي سنة (795هـ/ 1392م) حصل خلاف بين أمير مكة المكرمة الشريف علي بن عجلان والأشراف سجن على أثره بعض قادتهم، ثم أطلق سراحهم، فاتجهوا نحو بحرة بين مكة المكرمة وجدة، ثم نحو جدة واستولوا عليها، وحاولوا الاستيلاء على مركب وصل من مصر محمل بالقمح والشعير والفول مرسل من السلطان المملوكي، ويبدو أنه كان سيوزع على أهل مكة المكرمة والحجاج؛ فرغب الأشراف في الاستيلاء عليه وحاول الشريف التوجه لقتالهم فمنعه القواد الحميضات، وأقنعوه بأن يدفع لهم أربعمئة غرارة قمح من المركب على أن يرحلوا من جدة، فوافق على ذلك الاقتراح غير أنهم بعد أن تسلموا تلك الحبوب امتنعوا عن الرحيل(154)؛ طمعاً على ما يبدو في المزيد. ونتيجة للتحالفات السياسية والعسكرية بين أمير مكة المكرمة والقواد حصل هؤلاء القواد وعلى رأسهم العمرة والحميضات على مقررات سنوية نقدية وعينية نظير ولائهم وطاعتهم له، غير أن تلك الأموال كانت تحجب في بعض الفترات نتيجة للظروف السياسية، ومنها الصراع على السلطة بين أشراف مكة المكرمة، كما حدث سنة (824هـ/ 1421م) حينما "خرج كثير من القواد والأشراف عن طاعة الشريف حسن، وانضموا إلى ابن أخيه الشريف رميثة، واستولوا على جدة"(155)، وقد أدى ذلك إلى غضب أمير مكة المكرمة، فانتهز فرصة وفاة السلطان المملوكي المؤيد شيخ، فقرر أن ينزل عن الإمرة لابنيه الشريفين بركات وإبراهيم، ويخصص لكل منهما ثلث الحاصل، والثلث الباقي للشريف حسن مع إبطال الرسوم المقررة للأشراف والقواد في كل سنة؛ مما أثار القواد؛ فاعترضوا على ذلك القرار، فلم ينفذ(156). وقد أسهم بعض القواد الذين تمتعوا بمكانة اقتصادية في النشاط المالي والاجتماعي الخيري من خلال بعض الوقفيات، ومن هؤلاء أحمد بن سنان بن راجح بن محمد بن عبدالله بن عمر بن مسعود العمري كان من أعيان القواد العمرة وصف بأنه صاحب مروءة وثروة من نقد وعقار ومسالفة، أنشأ سبيلاً بدار له في المعلاة، فأوقف الدار عليه رغبة في استمرار السبيل بعد وفاته، وقتل في وقعة الحدبة خارج جدة سنة (846هـ /1442م)(157)، ومن هؤلاء أيضاً القائد بطيح بن أحمد بن عبدالكريم النصيح العمري الذي وصف بأنه ذو ثروة، ويقرض الناس، توفي بجدة سنة (855هـ/ 1451م) ودفن بمكة المكرمة(158). وظهر من القواد العمرة من تمتع بمكانة اقتصادية أهلته لمكانة اجتماعية رفيعة، ومن هؤلاء تبل بن منصور بن راجح بن محمد بن عبدالله بن عمر بن مسعود العمري المكي القائد(159). ومن هنا يظهر مدى دور العامل الاقتصادي في التأثير على العاملين السياسي والعسكري في ظل الصراع على السلطة بين أشراف مكة المكرمة، ومحاولة القواد التدخل من خلال نفوذهم الاقتصادي أو الضغط للحصول على الميزات الاقتصادية لترجيح كفة على أخرى.
رابعاً: النفوذ الاجتماعي :
رغم أن القواد في معظمهم هم موالٍ للأشراف، وعلى رأس هؤلاء القواد العمرة والحميضات إلا أنهم تمتعوا بمكانة اجتماعية رفيعة في المجتمع المكي وخارجه، ويمكن القول: إن مكانتهم الاجتماعية قد استمدوها من عاملين أساسيين:
- قربهم من أمراء مكة المكرمة والأشراف.
- نفوذهم السياسي والعسكري.
ومن أبرز جوانب النفوذ الاجتماعي المصاهرات، ويلحظ أن القواد العمرة رغم كونهم موالي للأشراف قد ارتبطوا بصلة مصاهرة مع أمراء مكة المكرمة وغيرهم من الأشراف، وهذا أدى لتقوية مركزهم السياسي، فقد صاهر أمير مكة المكرمة الشريف عجلان بن رميثة القواد العمرة، وأنجب من تلك المصاهرة ابنه الشريف أحمد، وأصبح لأخواله دور سياسي مهم. نرى ذلك واضحاً حينما توفي الشريف عقبة بن رميثة سنة (762هـ/1361م)، وخلفه في منصب الإمارة أخوه الشريف عجلان منفرداً، ثم سعى لإشراك ابنه أحمد في الإمرة، فطلب منه أن يقصد أخواله القـواد ذوي عمـر لنصرتـه(160)، وكـان مـن بينهم خالـه جماز بن صبيحة المتوفى سنة (783هـ/1381م)(161). وعمد القواد العمرة إلى مصاهرة بعض أعيان مكة المكرمة، فقد أشار نجم الدين بن فهد إلى مقتل المقرئ المؤدب سلمان بن حامد بن غازي بين يحيى بن منصور العامري الغزي سنة (808هـ/1405م)، واتهم في ذلك بعض أصحاب حسب الله بن راشد أحد أعيان مكة المكرمة، وكان السيد سلمان قد شكا إلى الشريف حسن، حسب الله بن راشد الذي اختفى بعد مقتل المؤدب لمدة سنتين مع كونه صهراً لبعض أعيان القواد العمرة(162)، وأمر الشريف حسن بن عجلان بهدم بيته عقاباً له(163). وفي مرحلة لاحقة صاهر أمير مكة المكرمة الشريف بركات بن حسن بن عجلان أحد القواد العمرة، ويدعى أحمد بن وبير العمري بزواجه من ابنته حجلة (ت 899هـ/1493م) التي أنجبت له ابنه رميثة(164). ووصلت المصاهرات بين الأشراف والقواد العمرة ذروتها بأن أصبح بعض القواد العمرة أخوة للأشراف من جهة الأم، ومن هؤلاء علي بن جسار بن عمر بن مسعود العمري المكي (ت 028هـ/ 7141م) أخٌ لأمير مكة المكرمة الشريف أحمد بن عجلان من جهة الأم، وقد كان من أعيان القواد العمرة ومن أغنيائهم، اشتهر بالعقل والوفاء(165). وشملت تلك المكانة الاجتماعية القواد الحميضات، ومن هؤلاء محمد بن كحل العزي المكي الملقب بالجمال، كان أبوه من موالي السيد عز الدين حميضة بن أبي نمي، وكان يتمتع بمكانة اجتماعية رفيعة، "وله علاقات واسعة بأعيان الأشراف، وكان مقبول الشهادة عند الحكام وغيرهم"(166). كما أسهم بعض القواد العمرة في أوجه النشاط الاجتماعي؛ فأنشؤوا بعض المنشآت الاجتماعية، ومن هؤلاء القائد أحمد بن علي بن سنان العمري (ت 846هـ/1442م) الذي سبقت الإشارة إليه حيث أنشأ سبيلاً بدار له بالمعلاة، بالقرب من مسجد الراية بمكة المكرمة، وأوقف الدار عليه(167). الخاتمة:
من خلال الدراسة السابقة يتضح مدى النفوذ الذي تمتع به القواد عامة والقواد العمرة والحميضات خاصة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ودورهم العسكري، ويمكن إجمال النتائج التي توصلت إليها من خلال هذه الدراسة فيما يأتي:
1 – مثل النفوذ السياسي للقواد العمرة والحميضات العنصر الأساسي في نفوذ هؤلاء القواد بما تمتعوا به من قدرة على التدخل في الصراع السياسي بين أشراف مكة المكرمة للسيطرة على السلطة، ونلحظ أن هؤلاء القواد لم يكونوا كتلة سياسية وعسكرية واحدة، بل انقسموا في ولائهم بين الأمراء من الأشراف؛ مما يدل على غلبة المصالح السياسية والاقتصادية في ولاء كل فئة منهم في دعم الأجنحة المتصارعة من الأشراف، وربما يكون ذلك نوعاً من توزيع الأدوار فيما بينهم؛ حتى يتمكنوا من كسب رضا الجميع والاحتفاظ بنفوذهم داخل البنية السياسية للسلطة.
2 – شكل النفوذ العسكري الوجه الآخر للصراع بين الأشراف، وتمثل النفوذ العسكري بالدعم الذي قدمه القواد العمرة والحميضات لأطراف الصراع، وقد استمدوا هذا النفوذ من قربهم من السلطة، وما حازوه من أموال وأتباع وموالٍ وعبيد وأسلحة؛ مما أهلهم للتدخل في الصراع العسكري، وشاركوا في كثير من المعارك التي خاضها الأشراف فيما بينهم مثل معركتي الزبارة، والحدبة، وقد قتل في تلك المعارك عدد كبير من القواد. وقد انعكس هذا النفوذ العسكري للقواد على النفوذ السياسي، فمن خلال انتصار الجناح الذي يدعمه طرف من القواد يتعزز الدور السياسي لذلك الطرف.
3 – في مجال النشاط الاقتصادي انعكس تعاظم نفوذ القواد السياسي وقوتهم العسكرية على نفوذهم الاقتصادي، فأسهموا في بعض مناشط الحياة الاقتصادية خاصة في المجالين الزراعي والتجاري؛ فامتلكوا المزارع في الأودية المحيطة بمكة المكرمة، كما حازوا الثروات والعقارات.
4 – يشكل الجانب الاجتماعي أهمية أساسية في علاقات القواد مع شرائح المجتمع المكي؛ مما انعكس بصورة واضحة على دورهم في الحياة الاجتماعية. ونلحظ ارتباط القواد وبخاصة العمرة بعلاقات مصاهرة مع أشراف مكة المكرمة؛ مما أكسبهم نفوذاً سياسياً واقتصادياً متزايداً. كما أدى ذلك إلى تدخلهم بصورة مباشرة في دعم تعيين بعض الأشراف على إمارة مكة المكرمة أو عزلهم عنها، كما أسهم بعضهم في دعم المشاريع الخيرية فأنشؤوا الأسبلة، وأوقفوا أوقافاً عدة للصرف عليها؛ مما انعكس بصورة إيجابية على النشاط الاقتصادي في مكة المكرمة.

{moscomment}

بحث سريع