مآثر قريش وخصائصها قبل الإسلام وبعده*

بواسطة | محمد رشيد رضا
2006/07/31
قال الثعالبي- رحمه الله- كما في كتابه ثمار القلوب : أهل الله كان يقال لقريش في الجاهلية : أهل الله ؛ لما تميزوا به عن سائر العرب من المحاسن والمكارم والفضائل والخصائص التي هي أكثر من أن تُحْصَى .
( فمنها ) مجاورتهم بيت الله تعالى وإيثارهم سكن حرمه على جميع بلاد الله ، وصبرهم على لأواء مكة وشدتها وخشونة العيش بها .
( ومنها ) ما تفردوا به من الإيلاف والوفادة والرفادة ( الرفادة شيء تترافد به قريش في الجاهلية تخرج فيما بينها مالاً تشتري به للحاج طعامًا وزبيبًا ) والسقاية والرياسة واللواء والندوة .
( ومنها ) كونهم على إرث من دين أبويهم إبراهيم و إسماعيل عليه السلام من قَرْيِ الضيف ورفد الحاج والمعتمرين والقيام بما يصلحهم وتعظيم الحَرَم وصيانته عن البغي فيه والإلحاد وقمع الظالم ومنع المظلوم .
( ومنها ) كونهم قبلة العرب وموضع الحج الأكبر ويؤتون من كل أَوْب بعيد وفج عميق ، فترد عليهم الأخلاق والعقول والآداب والألسنة واللغات والعادات والصور والشمائل ، عفوًا بلا كلفة ، ولا غرم ولا عزم ولا حيلة ، فيشاهدون ما لم تشاهده قبيلة ، وليس من شاهد الجميع كمن شاهد البعض ، ولا المجرب كالغمر ، ولا الأديب كالفضل ، فكثرت الخواطر واتسع السماع وانفسحت الصدور ، ورأوا الغرائب التي تُشْحَذ ، والأعاجيب التي تُحْفَظ ، فثبتت الأمور في صدورهم ، واختمرت وتزاوجت ، فتناتجت وتوالدت ، وصادفت قريحة جيدة وطينة كريمة ، والقوم في الأصل مرشحون للأمر الجسيم ؛ فلذلك صاروا أدهى العرب وأعقل البرية ، وأحسن الناس بيانًا ، وصار أحدهم يوزن بأمة من الأمم ، وكذلك ينبغي أن يكون الإمام ، فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يزن جميع الأمم .
( ومنها ) ثابت جودهم وجزالة عطاياهم واحتمالهم المؤن الغلاظ في أموالهم المكتسبة من التجارة ، ومعلوم أن البخل والنظر في الطفيف مقرون بالتجارة التي هي صناعتهم ، والتجار هم أصحاب التربيح ، والتكسب والتدنيق ، وكان في اتصال جودهم العالي على الأجواد من قوم لا كسب لهم من التجارة عجب من العجب ، وأعجب من ذلك أنهم من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشدد في الدين فتركوا الغزو ؛ كراهة للسبي واستحلال الأموال ، فلما زهدوا في الغصوب لم يبق مكسبة سوى التجارة فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم و النجاشي بالحبشة و المقوقس بمصر وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء ، فكانوا مع طول ترك الغزو إذا غزوا كالأسود على براثنها [1] مع الرأي الأصيل والبصيرة الناقدة فهذا يسير من كثير من خصائصهم في الجاهلية [2] .
فلما جاء الله تعالى بالإسلام وبعث منهم خير خلقه وأفضل رسله محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ، تظاهر شرفهم ، وتضاعف كرمهم ، وصاروا على الحقيقة أهلاً لأن يدعوا أهل الله ، فاستمر عليهم وعلى سائر أهل مكة ، وعلى أهل القرآن هذا الاسم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أهل القرآن هم أهل الله تعالى وخاصته ) وقال لعتاب بن أسيد لما بعثه إلى مكة : ( هل تدري على من استعملتك ؟ استعملتك على أهل الله ) وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه نافع بن عبد الحارث الخزاعي حين قدم عليه من مكة من اسخلفتَ على مكة ؟ قال : ابن أبزى .
قال : استخلفتَ على أهل الله مولى ؟ قال : إنه أَقْرَؤُهم لكتاب الله تعالى ، قال : ( إن الله تعالى يرفع بالقرآن أقوامًا ) .
قال بعض السلف : حسبك من قريش أنهم أهل الله وأقرب الناس بيوتًا من بيت الله ، وأقربهم قرابة من رسول الله ، ولم يسم الله تعالى قبيلة باسمها غير قريش وصارت فيهم ولهم الخصال الأربع التي هي أشرف خصال الإسلام – النبوة ، والخلافة والشورى والفتوح – فليس اليوم على ظهر الأرض وممالك العرب والعجم في جميع الأقاليم السبعة ملك في نصاب نبوة ، وإمامة في مغرس رسالة إلا من قريش ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الأئمة من قريش ) وقال عليه السلام : ( قَدِّمُوا قريشًا ولا تَتَقَدَّمُوهَا وتعلموا منها ولا تعلموها ) وأنشد : (إن قريشًا وهي من خير الأمم*** لا يضعون قدمًا على قدم) أي يُتَّبَعُونَ ولا يَتَّبِعُونَ ، وقال الأعشى وهو يعاتب رجلاً ويخبر أنه مع شرفه لم يبلغ مبلغ قريش :( فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا*** ولا لك حق الشرب في ماء زمزم ) وسيمر بك في هذا الكتاب من نكت فضائلهم ، وغرر غرائبهم ، ما تكثر فائدته وتطيب ثمرته ، وإن كان لا مزيد على وصف الجاحظ لهم ومدحه إياهم وتخصيصه بني هاشم منهم فإنه رحمه الله ألقى جمة فصاحته واستنزف بحر بلاغته في فصل له وهو قوله : العرب كالبدن وقريش روحها ، وهاشم سرها ولُبُّها ، وموضع غاية الدين والدنيا منها ، وهاشم ملح الأرض وزينة الدنيا ، وحلي العالم ، والسنام الأضخم ، والكاهل الأعظم ولباب كل جوهر كريم ، وسر كل عنصر شريف ، والطينة البيضاء ، والمغرس المبارك ، والنصاب الوثيق ، ومعدن الفهم ، وينبوع العلم ، ومناهل الظامي إلى الحلم ، والسيف الحسام في العزم ، مع الأناة والحزم ، والصفح عن الجرم ، والإغضاء عن العثرة ، والعفو عند القدرة ، وهم الأنف المقدم ، والسنام الأكوم ، والعزم المشمخر ، والصبابة والسر ، وكالماء الذي لا ينجسه شيء ، وكالشمس لا تخفى بكل مكان ، وكالنجم للحيران ، والماء البارد للظمآن .
ومنهم العمران والأطيبان والشيخان والشهيدان ، وأسد الله وذو الجناحين وسيد الوادي وساقي الحجيج ، وحليم البطحان ، والبحر والحبر ، والأنصار أنصارهم ، والمهاجر من هاجر إليهم أو معهم ، والصديق من صدقهم ، والفاروق من فرق بين الحق والباطل منهم ، والحواري حواريهم ، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم ، ولا خير إلا هم أو فيهم أو معهم أو يضاف إليهم ، وكيف لا يكونون كذلك وفيهم رسول رب العالمين ، وإمام الأولين والآخرين ، وسيد المرسلين وخاتم النبيين ، الذي لم تتم لنبي نبوة إلا بعد التصديق به ، والبشارة بمجيئه ، الذي عم برسالته ما بين الخافقين ، وأظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون ، فقال : [ نَذِيراً لِّلْبَشَرِ ]( المدثر : 36 ) وقال : [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ]( الأعراف : 158 ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( بعثت إلى الأحمر والأسود وإلى الناس كافة ) وقال : ( نُصِرْتُ بالرعب من مسيرة شهر ، وأعطيت جوامع الكلم ، وعُرِضَتْ عليَّ مفاتيح خزائن الأرض ) وقال : ( أنا أول شافع ومُشَفَّع وأول من تنشق عنه الأرض ) .
وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بحياته في القرآن فقال : [ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ]( الحجر : 72 ) وقال : [ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ]( القلم : 1 ) فأكد القسم وفسَّر المعنى ثم قصد نبيه فقال : [ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ]( القلم : 4 ) ولا عظيم أعظم ممن عظَّمه الله كما أنه لا صغير أصغر ممن صغَّره الله فأيُّ ممدوح أعظم وأفخر وأسنى وأكبر من ممدوح مادحه الله ، وناقل مديحه ، وراوية كلامه جبريل ، والممدوح محمد صلى الله عليه وسلم اهـ .
________________________
*نشر المقال في المجلد(29) الجزء الخامس صـ (322) ربيع الأول (1347هـ) بتصرف يسير من موقع آل البيت
(1) براثن الأسد أظافره ، ولا يظهر هنا ، فلعل الأصل فرائسها .
(2) وصف البصيرة بالنقد صحيح ؛ إذ بها يتميز ويعرف الجيد والرديء ويحتمل أن تكون الكلمة (النافذة) .

بحث سريع