مجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم-

بواسطة | العلامة محمد الطاهر بن عاشور
2006/08/27

احتفاف العظيم بمظاهر العظمة في أعين ناظريه وتُبَّاعه وسيلة من وسائل نفوذ تعاليمه في نفوسهم، وتلقيهم إرشادَه بالقبول والتسليم، واندفاعِهم بالعمل بما يمليه عليهم.

وإن للعظمة نواحيَ جمةً، ومظاهرَ متفاوتةَ الاتصال بالحق: فمنها العظمة الحقة الثابتة، ومنها المقبولة النافعة، ومنها الزائفة التي إنْ نفعت حيناً أضرت أزماناً، وإن راجت عند طوائف عُدَّتْ عند الأكثرين بطلاناً، وفي هاته الأصناف معتاد وغير معتاد، وبينها مراتب كثيرة الأعداد، لا يعزب عن الفطن استخراجُها من خلال أصنافها، والحكمُ الفصلُ في آدابها وأُلاَّفها.

وبمقياس اتسام العظيم بسمات العظمة الحقة، يكون مقياس غُنْيته عن مخايل التعاظم الزائفة، كما أنه بمقدار خلوه من تلك السمات الحقة يقترب من الاحتياج إلى شيء من تلك المخايل، كالمصاب بفقر الدم لا يستغني عن زيادة التدثر بدثر الدفاء.
ولَكَثْرُ ما تحمَّل العظماءُ مشاقَّ التكلف، لما يثقل عليهم التظاهر به؛ مجاراةً لأوهام التُّبَّاع أولي المدارك البسيطة؛ حذراً من أن ينظروا إليهم بعين الغضاضة، أو يلاقوهم بمعاملة الفضاضة.
فهم يقتحمون ذلك الثقل، ولسان حالهم يقول: "مكره أخوك لا بطل" فلا غرو أن كان المتوسمون منذ القدم تقوم لهم من صفات مجالسِ السَّراة والجماعات دلائلُ منبئةٌ بأحوال أصحاب تلك المجالس كما قال:
ولما أن رأيت بني جُوَيْن * جلوساً ليس بينهم جليس
يئست من التي قد جئت أبغي * إليهم إنني رجل يؤوس
وإننا إذا تتبعنا ما يعد من هيئات المجالس أحوال كمالٍ حقَّاً أو وهماً نجد منها المتضاد الذي إن اشتمل المجلس على شيء منه لم يشتمل على ضده، مثل الحجاب والإذن، والوقار والهزل، ونجد بعضها غير متضاد بحيث يمكن اجتماعه كوضع الأرائك والطنافس النفيسة مع التزام الوقار والحكمة، وكالفخامة والزركشة مع إقامة الإنصاف؛ فقد كان مجلس سليمان -عليه السلام- مكسوَّاً بفخامة الملك، وهو مع ذلك منبع لآثار النبوة والحكمة، وكانت مدرسة أفلاطون الحكيم محفوفة بمظاهر الرفاهية والترف وهي مناخ كل أستاذ حكيم.
فأما الأوصافُ المتضادةُ فلا شبهةَ في كون مجالسِ العظماء حقًّا تُنَزَّه عما يضاد الحق منها، وأما غير المتضادة فلا يُعد تجردُ مجلسِ العظيمِ عما هو من هذا الصنف مهمَّاً إلا زيادةً في عظمته، وليس ذلك بلازم في تحقق أصل عظمته الحقة.
تجرى أشكال الدعوة الإلهية على حسب استعداد الأقوام؛ لتلقي مراد الله منهم، فيسن لهم من الأحوال والهيئات ما هم به أَحْرِياء؛ لنفوذ مراد الله فيهم؛ فقد يُتسامح لدعاتهم ببعض المظاهر التي لا حظ لها في التأثير الخلقي، أو التشريعي، ولا تحط من اعتبار صاحب الدعوة في أنظار أهل الكمال، وتعين على قبول دعوته بين العموم البسطاء؛ لموافقتها بساطة إدراكهم، وعدم منافاتِها الحقَّ؛ فإن بني إسرائيل لما فَتَنَتْهم مظاهرُ عبدةِ الأصنام وقالوا لموسى: [اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ] غضب عليهم رسولهم، ووبخهم على ذلك.
ولما بهرتهم مظاهر الملك التي شاهدوها عند الأقوام الذين مروا بهم في تيههم، والذين جاوروا بلادهم وقالوا لنبيهم شمويل: [ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] لم ير نبيهم في ذلك بأساً؛ إذ رآه أعونَ لهم على الدفاع عن جامعتهم؛ فأقام لهم شاول ملكاً، ثم خلفه من الملوك من كان له وصف النبوة مثل داود وابنه سليمان الذي عظم سلطانه، وفخمت مَظاهرُ ملكه التي ما كانت تُنْقِصُ كماله النبوي.
وأظهر حجة على ذلك أن ملكة سبأ ما دانت له حين مجيء كتابه إليها بالدعوة إلى الإيمان بالله، والدخول في طاعة ملكه العادل، فقالت: [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ].
ثم هي لما وفدت عليه بمدينته، ورأت من عظمة سلطانه ما أبْهَتَها ودخلت الصرح الممرد فحسبته لجة – هنالك قالت: [رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ].
وكذلك فرعون موسى كان مما منعه أن يؤمن بموسى أنه لم ير عليه آثار العظمة الزائفة؛ إذ قال في تعليل كفره به: [فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ] وهي شعار الملوك في عرفهم.
وفي هذا ما يشرح لنا تلك المجادلة التاريخية العظيمة الجارية بين عظيمين من عظماء أمتنا عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان؛ إذ شاهد عمر حين مقدمه الشامَ فخامةَ إمارةِ معاويةَ هنالك فقال له: "أَكُسْرَوَيَّةٌ يا معاوية؟!".
فقال معاوية: "إننا بجوار عدو فإذا لم يروا منا مثل هذا هان أمرنا عليهم".
فقال عمر حينئذ: "خدعة أريب، أو اجتهاد مصيب لا آمرك ولا أنهاك".
الآن تهيأ لنا أن نفيض القول في صفة مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومتعلقاته، وهو مبحث جليل لم يسبق للعلماء الباحثين عن السيرة والشمائل النبوية تدوينُه، وتخصيصُه بالبحث والتبويب، واستيعابُ ما يتعلق به.
ومن العجب أن ذكر هذا المجلس الشريف ورد في القرآن، قال الله -تعالى-: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا].
قال جمهور العلماء من السلف ومن بعدهم: المراد بالمجلس في الآية هو مجلس رسول الله، وسأذكر ذلك في المبحث المناسب له.
ثم إني لم أر لأحد من الباحثين في السيرة من ذكر هذا المجلس سوى عياض في كتاب الشفاء؛ فإنه ذكره بكلمة واحدة في غرض آخر؛ إذ قال في فصل زيارة القبر الشريف هذه العبارة: "قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه: لم يزل مِنْ شأن مَنْ حجَّ المرورُ بالمدينة، والقصد إلى التبرك برؤية مسجد رسول الله، وروضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه" ا -هـ.
فكان حقَّاً علينا أن نخصه بمقال أتقصَّى فيه ما تناثر في خلال كتب الحديث والسيرة؛ فيجيء بحثاً أُنُفاً يبهج من كان بسيرة رسول الله كلفاً.
* صفة مجلس الرسول -عليه السلام -:
إن رسول الله هو أكمل البشر، وإن أصحابه هم أفضل أصحاب الرسل، وأفضل قوم تقوَّمت بهم جامعةٌ بشريةٌ حسبما بينته في مقال المدينة الفاضلة المنشور في الجزء العاشر من المجلد التاسع من مجلة الهداية الإسلامية، فأراد الله -تعالى- أن يكون أعظم المصلحين وأفضل المرسلين مقصوراً على التأييد بالدلائل الحقة الباقية على الزمان، وأن يجرد عن وسائل الخِلابة والاسترهاب؛ فتكون دعوتُه أكملَ الدعوات، وعِظَتُه أبلغَ العظات كما كان هو أكمل الدعاة والواعظين، وفي ذلك حكم جمة يحضرني الآن منها خمس:
الحكمة الأولى: أن لا يكون جلالُ قَدْرِه في النفوس ونفوذُ أمره في الملأ محتاجاً إلى معونة بوسيلة من الوسائل المكملة للتأثير الذاتي النفساني، بل يكون تأثيره الذاتي كافياً في نفوذ آثاره في قلوب أتباعه؛ إذ كانت نفسُه الشريفةُ أكملَ نفسٍ برزت في عالم الوجود الحادث، فتكون أغنى النفوس عن التوسل بغير صفاتها الذاتية؛ إذ لا نقص في تأثير نفسه.
من أجل ذلك ادخر الله لرسوله التأييد بأوضح الدلائل، وأغناها عن العوارض التي تصطاد النفوس، وتسترهب العيون؛ حتى لا يكون شأنه جارياً على الشؤون المألوفة.
ولعل هذا مما يلوح إليه قوله -تعالى-: [وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ].
أي هذه دعوة الحق المحض الغَنِيَّةُ عن البهرجةِ الزائلة والله أعلم؛ فيكون هذا من المعجزات الخفية التي هي آيات للمتوسمين على كُرور الأيام والسنين.
الحكمة الثانية: أن يكون الرسول غيرَ مشارك لأحوال أصحاب السيادة الباطلة من الجبابرة والطغاة؛ حتى لا يكون من دواعي إيمان بعض الفرق به وطاعتهم له ما بهرهم من تلك الزخارف، كحال الذين استكبروا من قوم نوح إذ قالوا: [ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ].
وهذا معنى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيرت بين أن أكون نبيَّاً عبداً أو نبيَّاً ملكاً فاخترت أن أكون نبيَّاً عبداً ".
الحكمة الثالثة: أن يحصل له – مع ذلك – أعظمُ جلال في نفوس أعدائه بله أوليائه؛ فيكون فيه دليل على أن جلاله مستمد من عناية الله – تعالى – وتأييده.
روى الترمذي أن قيلة بنت خرمة جاءت رسول الله وهو في المسجد قاعداً القرفصاءَ قالت: "فلما رأيت رسول الله المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق".
فقولها: المتخشع في الجلسة أَوْمَأَ إلى أن شأن المتخشع في المعتاد ألا يرهب، وهي قد أَرْعَدَتْ منه؛ رهبة.
ووصف كعب بن زهير رسول الله حينما دخل عليه المسجد في أصحابه مؤمناً تائباً وكان كعب يومئذ أقرب عهداً بالشرك وأوغل في معرفة مظاهر ملوك العرب وسادتهم؛ إذ هو الشاعر ابن الشاعر؛ فإذا هو يقول بين يدي رسول الله يصف مجلسه:
لقد أقوم مقاماً لو أقوم به * أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له * من الرسول بإذن الله تنويل
ثم يقول في صفة الرسول:
لَذاك أهيبُ عندي إذ أُكَلِّمُه * وقيل: إنك منسوب ومسؤول
من خادر من ليوث الأسد مسكنه * من بطن عَثَّرَ غِيلٌ دونه غيلُ
الحكمة الرابعة: أن رسول الله بعث بين قوم اعتادوا من سادتهم وكبرائهم أن يكونوا محفوفين بمظاهر الأبهة والفخامة، والرسول سيد الأمة، وقد جاء بإبطال قوانين سادتهم وكبرائهم؛ فناسب أن يشفع ذلك بتجرده عن عوايد سادتهم؛ ليريهم أن الكمال والبر ليس في المظاهر المحسوسة، ولكنه في الكمالات النفسية، وأن الكمال – كما يحصل بالتخلق والتحلي – يحصل بالتجرد والتخلي، ولذلك قال رسول الله: "أما أنا فآكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد".
الحكمة الخامسة: أن مجلس رسول الله هو مصدر الدين الموسوم ببساطة الفطرة؛ فكان من المناسب أن تكون هيئةُ ذلك المصدرِ على بساطة الفطرة؛ ليحصل التماثل بين الحالِّ والمحل، ولتكون أحوال الرسول مظاهرَ كمالٍ ماثلةً لجميع الأجيال على اختلاف المدارك والأذواق؛ ليكون التاريخ شاهداً على ما لرسول الله من الكمال الحق، الذي لا تختلف فيه مدارك الخلق؛ فإن الفخامة – وإن كانت تبهر الدهماء- فالبساطة تُبهج نفوس الحكماء، وإن بينها وبين ناموس الفطرة أشدَّ انتماء.
* مكان مجلس الرسول:
إن من مارس الحديث والسيرة لا يَشُكُّ في أن مجلس رسول الله الذي يلتف حوله فيه أصحابه، وتجرى فيه معظم أعماله في شؤون المسلمين – إنما كان بمسجده، وأن ما عداه من الأمكنة التي ورد في الآثار حلوله فيها إنما هي مقاعد كان يحل فيها قبل البعثة، وبعدها قبل الهجرة، وبعدها قبل أن ينتظم أمر المسلمين، أو بعد ذلك فيما بعد الهجرة؛ لعوارض تعرض من زيارة، أو ضيافة، أو عيادة، أو قضاء مصالح، أو نحو ذلك؛ فقد جلس قبل البعثة وهو بمكة في دار ابن جُدعان، وفي المسجد الحرام، وآوى إلى غار حراء يَتَحَنَّث بإلهام من الله -تعالى- استئناساً بالوحي، وجلس بعد البعثة في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وفي شعب أبي طالب مدة القطيعة، وسكن دار أبي أيوب الأنصاري عند مقدمه المدينة، وجلس بمسجد قباء قبل بناء المسجد النبوي، ولم يلبث أن بنى مسجده؛ فكان مجلسه بَعْدُ في ذلك المسجد فيما عدا أحوالاً تعرض مثل خروجه إلى بني عمرو بن عوف؛ للإصلاح بينهم.
وقد أرشدنا إلى ذلك ما في الصحيح عن أبي موسى الأشعري أنه قال: "توضأت يوماً وخرجت من بيتي فقلت: لألزمن رسول الله يومي هذا، ولأكونن معه، فجئت المسجد فسألت عنه، فقالوا: خرج" إلخ.
فقوله فجئت المسجد، فسألت عنه ينبئ بأن مَظِنَّةَ لقاءِ الرسول هي المسجد.
ثم إن تعيين مكان جلوسه من المسجد لم يَجْرِ له ذكر في كلامهم.
والذي يظهر لي أنه كان يلزم مكاناً معيناً للجلوس؛ لينتظره عنده أصحابه والقادمون إليه.
والظاهر أن هذا المكان المعين هو ما بين المنبر وحجرة عائشة – رضي الله عنها -، وهو الملقب بالروضة، ويدل لذلك أربعة أدلة:
الدليل الأول: ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".
وللعلماء في معنى ذلك تأويلات أظهرها والذي مال إليه جمهورهم أنه كلام جرى على طريقة المجاز المرسل؛ فإن ذلك المكانَ لما كان موضع الإرشاد والعلم كان الجلوس فيه سبباً للتنعم برياض الجنة؛ فأطلق على ذلك المكان أنه روضة من رياض الجنة بإطلاق اسم المسبب على السبب.
أو جرى على طريق الاستعارة بأن شَبَّه ما يصدر في ذلك المكان من الإرشاد والتشريع والعلم والموعظة والحكمة المنعشة للأرواح بما في رياض الجنة من الثمار والأزهار والأنهار ذات الإنعاش الخالد، فأطلق اسم المشبه به على المشبه.
وفي هذا إنباء بأن موضع الروضة مجلس رسول الله الذي كان فيه معظم إرشاده وتعليمه الناس.
الدليل الثاني: أنا نجد أحاديث كثيرة روتها عائشة -رضي الله عنه- تتضمن ما دار بين رسول الله وبين سائليه، ولم نجد مثل ذلك لبقية أمهات المؤمنين؛ فعلمنا أن ذلك انفردت به عائشة؛ من أجل قرب بيتها من مجلس الرسول، وقد كان بيتها بقرب الروضة.
الدليل الثالث: قوله-صلى الله عليه وسلم-: "خذوا شطر دينكم عن عائشة".
وهو كلام جار مجرى البلاغة في غزارة علمها بالدين، ومن جملة أسباب ذلك اطلاعها على ما يجري في مجلس رسول الله، وبذلك امتازت على بقية الأزواج.
الدليل الرابع: ما رواه الترمذي عن أبي هريرة أنه قال: "لقد رأيتني وإني لأَخِرُّ فيما بين منبر رسول الله وحجرة عائشة؛ فيجيء الجائي، فيضع رجله على عنقي يرى أن بي جنوناً وما بي جنون، وما هو إلا الجوع".
مع ما رواه البخاري وغيره أن أبا هريرة قال: "يقول الناس أكثر أبو هريرة، وإن إخواننا المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان إخواننا من الأنصار يشغلهم العمل في أموالهم، وكنت ألزم رسول الله على شبع بطني؛ فأسمع ما لا يسمعون، وأشهد ما لا يشهدون".
فينتج من ذلك أن مقام أبي هريرة كان في الروضة، وأن ملازمته رسول الله كانت في ذلك المقام، وأن الروضة هي مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا وقد رأيت في كلام شهاب الدين الخفاجي في شرحه على شفاء عياض كلمة تقتضي الجزم بأن مجلس رسول الله هو الروضة؛ فإنه لما بلغ إلى قول عياض: "لم يزل من شأن مَنْ حج المرورُ بالمدينة والقصد إلى التبرك برؤية مسجد رسول الله وروضته ومنبره وقبره ومجلسه" إلخ… قال: "ومجلسه أي موضع جلوسه في الروضة المأثور ا – هـ." ولم أقف على مستنده الصريح فيما جزم به.
* كيفية التئام مسجد الرسول وخروجه إليه:
كان أصحاب رسول الله إذا قصدوا مسجده يحضرون المكان الذي اعتاد الجلوس فيه، فإذا قدموا قبل خروج الرسول يجلسون ينتظرونه حتى إذا خرج رسول الله كانوا يقومون له، فنهاهم عن ذلك، روى أبو أمامة قال: "خرج علينا رسول الله فقمنا له فقال: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعض" فصار القيام منسوخاً على الأصح.
وعندما يخرج رسول الله على أصحابه يبقون جلوساً؛ فلا يرفع أحد منهم بصره إلى رسول الله إلا أبو بكر وعمر؛ فإنهما كانا ينظران إليه، وينظر إليهما، ويبتسمان إليه، ويبتسم إليهما، كذا في الشفاء.
وفي الشفاء أنه كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ويجلس بين أصحابه مختلطاً بهم.
والظاهر أن معنى ذلك أنه حين يخرج إليهم لا يتخطى رقابهم، ولكن يجلس حيث انتهى به المجلس؛ ففي صحيح البخاري عن أبي واقد الليثي أن رسول الله بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان منهم إلى رسول الله وذهب واحد، فوقفا على رسول الله، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله – أي من كلامه – قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهما فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه".
وفي أسباب النزول والتفسير أن رسول الله كان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، وأن ناساً منهم جاؤوا إلى مجلسه فلم يجدوا موضعاً فقاموا مواجهين له ولم يوسع لهم أحد، فقال رسول الله لبعض من حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان ويا فلان، وفي ذلك نزل قوله -تعالى-: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ] الآية.
وسيأتي تفصيله في ذكر آداب مجلسه.
وربما وقف السامع إلى حديث رسول الله. وفي البخاري: باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، وأخرج حديث أبي موسى الأشعري: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله؟ فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العلي"، قال الراوي: وما رفع رأسه إليه إلا أن السائل كان قائماً.
وكان الملازمون مجلسَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه من الرجال.
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "قال النساء للنبي غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً لنفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن"…إلخ.
وظاهر ترجمة البخاري لهذا الحديث أن اليومَ المجعولَ للنساء لم يكن يوماً مفرداً وحيداً، بل جعل لهن نوبة من الأيام؛ فيحتمل أنه جعل لهن يوماً في الأسبوع، أو في الشهر، أو بعد مدة غير معينة يعين لهن موعده من قبل، والله أعلم.
* هيئة المجلس الرسولي:
تدل الآثار على أن مجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان على صورة الحلقة الواحدة، أو الحِلَق المتداخلة كما ورد في حديث أبي واقد الليثي في صحيح البخاري؛ إذ قال فيه: "فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم".
وقد تقدم آنفاً، بل صرح بعض الرواة بأن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانوا يجلسون حوله حِلَقاً.
أما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكان مجلسه في وسطهم؛ ففي الصحيح عن أنس ابن مالك – رضي الله عنه – أن ضماماً بن ثعلبة السعدي – رضي الله عنه – لما دخل المسجد قال: أيكم محمد؟ قال أنس والنبي متكئ بين ظهرانيهم، وسيأتي الحديث، ومعنى بين ظهرانيهم أنه في وسطهم.
ومن الغريب ما ذكره القرطبي في كتاب المفهم على صحيح مسلم عن مسند البزار عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: "كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أهو هو حتى يسأل، فطلبنا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن نجعل له مجلساً كي يعرفه الغريب، فبنينا دكاناً من طين يجلس عليه" ا-هـ.
وهذا غريب، إذ لم يذكر هذا الدكان فيما ذكروه من تفصيل صفة المسجد النبوي في الكتب المؤلفة في ذلك.
وكانت هيئة جلوس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مجلسه غالباً الاحتباء، فقد ذكر الترمذي في كتاب الشمائل عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا جلس في المجلس احتبى بيديه" ا-هـ.
وقول الراوي: كان يفعل، يدل على أنه السُّنةُ المتكررة.
والاحتباء هو الجلوس وإيقاف الساقين، فتجعل الفخذان تجاه البطن بإلصاق، ويلف الثوب على الساقين والظهر، فإذا أراد المحتبي أن يقوم أزال الثوب.
وأما الاحتباء باليدين هو أن يجعل المحتبي يديه يشد بهما رجليه عوضاً عن الثوب، فإذا قام قالوا حلَّ حُِبوته (بكسر الحاء وضمها).
وكان الاحتباء أكثر جلوس العرب، وربما جلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القُرْفُصَاء -بضم القاف وسكون الراء بالمد والقصر- وهي الاحتباء باليدين، وربما جعلت اليدان تحت الإبطين وهي جلسة الأعراب والمتواضعين.
وقد وُصِف جلوس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القرفصاء في حديث قيلة بنت مخرمة -رضي الله عنها- وقد تقدم آنفاً، وربما اتكأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مجلسه في المسجد.
وفي الصحيح عن أبي بكرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "ألا أحدثكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس وقال: ألا وقول الزور…الخ.
وفي حديث جابر بن سمرة – رضي الله عنه – رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – متكئاً على يساره وربما اتكأ على يمينه، وفي حديث جابر بن سمرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جلس متربعاً.
ويؤخذ ذلك من حديث جبريل في الإيمان والإسلام من صحيح مسلم.
وقد تجعل له وسادة، روى الترمذي عن جابر بن سمرة – رضي الله عنه -أنه رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – متكئاً على وسادة سوداء.
وعددُ جُلساء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا ينضبط، بل كان يختلف باختلاف الأيام وأوقات النهار، فربما اشتمل المجلس على أربعين رجلاً كما ورد في الصحيح من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: "أرسلني أبو طلحة الأنصاري – رضي الله عنه -أدعو له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خامس خمسة لطعام صنعه لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوجدت النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسجد معه ناس فقمت، فقال: أأرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم، قال: لطعام؟ قلت: نعم، فقال لمن معه: قوموا وكانوا نحو الأربعين".
وربما كان مجلسه يشتمل على عشرة، ففي الصحيح عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ أتى بجمار نخلة فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشجرة لما بركته كبركة المسلم"، فأردت أن أقول هي النخلة ثم التفت، فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم فسكتُّ"… إلخ.
* ما كان يجري في مجلس رسول – صلى الله عليه وسلم -:
نبعت ينابيع الهدى والحكمة والتشريع من مجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن منبره، ولقد كان أكثر ما رواه أصحابه عنه مما سمعوه منه في مجلسه؛ لذلك يكثر أن تجد في الأحاديث المروية عن الصحابة أن يقول الصحابي: "بينما نحن جلوس عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم -".
وكان يقع التحاكم عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مجلسه، وقد حكم فيه بين المسلمين كثيراً، وبين اليهود في قصة الرجم؛ إذ جاءه اليهود برجل وامرأة زنيا فأمر بهما، فرجما في موضع الجنائز من المسجد.
وكانت تفد عليه الوفود وهو في مجلسه، ويأتيه سفراء المشركين من أهل مكة، ويَعْتَوِرُه العُفاة، وأصحاب الحاجات.
في الشفاء أن أعرابيَّاً جاء يطلب من النبي – صلى الله عليه وسلم – شيئاً فأعطاه ثم قال له: أأحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا ولا أجملت، فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أَنْ كُفُّوا، ثم قام ودخل منزله وأرسل إليه وزاده، فقال له: أأحسنت إليك؟ قال: نعم.
ثم هو – أيضاً – مجلس أدب ينشد فيه الشعر وتضرب فيه الأمثال.
ولقد أنشد كعب بن زهير قصيدته المشهورة فلما بلغ إلى وصف راحلته فقال:
قنواء في حرتيها للبصير بها * عِتْقٌ مبينٌ وفي الخدين تسهيل
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه: ما حرتاها؟ فقال بعضهم: عيناها، وسكت بعضهم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: هما أذناها.
ولما بلغ كعب قوله في مدح المهاجرين:
لا يقع الطعن إلا في نحورهم * وما لهم عن حياض الموت تهليل
نظر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى من حوله من قريش نظر من يومئ إليهم أن اسمعوا هذا المدح.
وروى الترمذي عن جابر بن سمرة – رضي الله عنه – قال: جالست رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكثر من مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون من أمر الجاهلية وهو ساكت، وربما تبسم معهم.
وقد ورد في الأثر أن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا دخلوا عليه كانوا لا يفترقون إلا عن ذَواق، ويخرجون أدلة.
للعلماء اختلاف في تأويله، فحمله بعضهم على ظاهره، أي لا يفترقون إلا بعد أن يطعموا طعاماً قليلاً؛ ولذلك عبر عنه بذَواق، وهو بفتح الذال الشيء المَذُوق من تمر أو نحوه أو ماء.
وقد ورد في حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ أتى بِجُمَّار نخلة…إلخ. أي أتى به ليؤكل في مجلسه، ولذلك ترجم البخاري هذا الحديث: باب أكل الجمار، وفي حديث الموطأ عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يذكر أنه وقع على أهله في نهار رمضان إلى أن قال: فبينما نحن على ذلك إذ أُتي النبي – صلى الله عليه وسلم – بعرق فيه تمر… إلخ.
والعَرَِق بفتح العين وفتح الراء ويجوز كسرها هو المكتل أي الزنبيل.
وتأوله الأنباري، وابن الأثير، وغير واحد أنه أراد أنهم لا يتفرقون إلا عن علم تعلموه يَقُوْم لأنفسهم مقامَ الطعامِ والشراب للأجسام في الانتعاش والالتذاذ؛ فجرى الكلام على طريقة الاستعارة.
* وقت المجلس الرسولي:
أحسب أن معظم جلوس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للناس كان في أوقات تفرغ معظم الصحابة من العمل، فكان يجلس لهم بعد صلاة الصبح كما يشهد لذلك حديث كعب بن مالك – رضي الله عنه – وتوبته، قال كعب: "وأتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو في مجلسه بعد الصلاة ثم قال: فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا سمعت صوت صارخ يا كعب بن مالك أبشر، وانطلقت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جالس حوله الناس… إلخ".
وكذلك حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – المتقدم إذ يقول: توضأت يوماً وخرجت من بيتي فقلت: لألزمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومي هذا وأكون معه فجئت المسجد… إذ لا شك أن ذلك وقت صلاة الصبح، وما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستغرق الصباح كله في المجلس فإن أصحابه كانوا يذهبون إلى أعمالهم وحاجاتهم، ولأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يدخل بيوت أزواجه، فقد قالت عائشة -رضي الله عنها- كان يكون في بيته في مَهَنَةِ أهله.
وفي حديث علي – رضي الله عنه – من رواية الترمذي ورواية عياض: كان دخوله لنفسه فكان إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس، فيرد ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدخر عنهم شيئاً.
أي كان له في بيته وقت يجلس إليه فيه خاصة أصحابه ومن له حاجة خاصة.
ومعنى يرد ذلك على العامة أنه تحصل منه منفعة للعامة بما يرويه الخاصة من علمه للناس، وفي هذا دليل على أن معظم ما عدا وقت دخوله إلى منزله كان وقت مجلسه إلا إذا عرضت حاجة يذهب إليها.
* آداب مجلس رسول الله:
كيف لا يكون مجلس يحتله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ميدان تسابق الآداب إلى غاياتها، وجوَّاً ترفرف فيه الكمالات راقبةً إلى سماواتها.
فإن صاحبه هو الذي أدبه ربه بأحسن تأديب، وجلساءه هم أولئك الغُرُّ المناجيب، وناهيك بأن ورد بعض آدابه في الكتاب المجيد، قال الله – تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا).
قال الواحدي، وابن عطية عن مقاتل وقتادة وزيد بن أسلم: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يجلس في المسجد فجلس يوماً وكان في المجلس ضيق؛ إذ كان الناس يتنافسون في القرب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وفي سماع كلامه، والنظر إليه، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكرم أهل بدر، فجاء أناس من أهل بدر فلم يجدوا مكاناً في المجلس فقاموا وِجَاهَ النبي – صلى الله عليه وسلم – على أرجلهم يرجون أن يوسع الناس لهم، فلم يوسع لهم أحد، فأقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أناساً بقدر من جاء من النفر البدريين، فعرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الكراهية في وجوه الذين أقامهم فنزلت الآية.
فقوله: (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ) فيما إذا كان في المجلس ضيق، فيتفسح الناس بدون أن يقوم أحد، وقوله: (وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا) أي إذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا عن المجلس فافعلوا، أي إذا أمركم الرسول – صلى الله عليه وسلم – في مجلسه بالقيام فلا تتحرجوا، وهو ضرب من التفسح.
وقيل التفسح يكون بالتوسعة من قعود أو من قيام، فهما داخلان في قوله: تفسحوا، والنشوز هو أن يؤمروا بالانفضاض عن المجلس، فإذا أمروا بذلك فلا يتحرجوا؛ لأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحب أحياناً الانفراد بأمور المسلمين؛ فربما جلس إليه القوم فأطالوا؛ لأن كل أحد يحب أن يكون آخر الناس عهداً بالنبي – صلى الله عليه وسلم -، وكل ذلك من فرط محبتهم إياه، وحرصهم على تلقي هداه.
ومن آدابه المذكورة في الكتاب المجيد ما في قوله – تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)، وقوله: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً).
قال علماء التفسير: نزلت هاتان الآيتان بسبب محاورة جرت بين أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مجلسه، وذلك حين قدم وفد بني تميم أشار أبو بكر – رضي الله عنه – على النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يؤمَّ على بني تميم القعقاع بن معبد، فقال عمر – رضي الله عنه – بل أمِّر عليهم الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماديا، وارتفعت أصواتهما، فنزل القرآن بهذه الآية، قالوا: فكان أبو بكر بعد ذلك لا يكلم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا كأخي السرار – أي كصاحب السر والمسارة – وكان عمر – رضي الله عنه – بعد ذلك إذا كلم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يكاد يسمعه حتى إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لَيَسْتَفْهِمه.
ومن آداب مجلسه أن أصحابه يكونون فيه على غاية التؤدة والسكينة؛ فقد روى أصحاب السنن عن أسامة بن شريك – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، ومثله في حديث هند بن أبي هالة في صفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
ومعنى كأنما على رؤوسهم الطير: أي في حالة السكون؛ لأن الطائر ينفر من أدنى تحرك.
وفي حديث هند بن أبي هالة – رضي الله عنها -: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعطي كل جلسائه نصيبه لا يحسب أحد أن أحداً أكرم عليه منه.
وفيه أن مجلسه مجلس وقار، وحلم، وحياء، وخير، وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته.
ومعنى لا تؤبن فيه الحرم: أي لا تذكر فيه حرمات الناس بسوء، يقال أبَنه إذا ذكره بسوء، والمراد بالحرم هنا أعراض الناس وما يحرِّمون تناوله منهم، ومعنى لا تثنى فلتاته: لا تعاد، مأخوذٌ من التثنية وهي الإعادة، والفلتات جمع فلتة وهي الزلة من القول والفعل إذا جرت على غير قصد بغتة؛ يعني أن أهل ذلك المجلس أهل حفظ للسر، وإعراض عن اللغو، فلو صدرت من أحد فلتة لم يتناقلها جلساؤه بالتسميع والتشنيع، وهذا أدب عربي رفيع، وفي هذا المعنى قال وداك بن ثميل من شعراء الحماسة:
وأحلام عاد لا يخاف جليسهم *  إذا نطق العوّارَ غربُ لسان

بحث سريع