المبالاة بكلام الناس

بواسطة | محد الحمد
2007/08/06

السلامة من كلام الناس عزيزة المنال، وإن شئت فقل: هي ضربٌ من المُحال، خصوصاً إذا كان المرء ممن يتصدر ويقوم بجلائل الأعمال.
قال ابن حزم -رحمه الله- في كتابه "الأخلاق والسير في مداواة النفوس": "من قدر أن يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون".
والكلام في هذه الخاطرة يدور حول المبالاة بكلام الناس وعدمها، وهل ذلك محمود أوْ غير محمود؟
كما يدور حول التعامل الأمثل مع كلام الناس؛ إذ الأمر يحتاج إلى شيءٍ من التفصيل والبسط؛ فقد تكون المبالاة بكلام الناس ضرباً من الخور، وضعف الرأي، وضعة النفس، وذلك كحال من يدع الأعمال الجليلة، أو المشاريع النافعة بسبب نقد ظالم، أو كلمة ساخرة، أو جارحة، أو مخذلة.
وقد تكون المبالاة بكلام الناس دليلاً على القوة، وأصالة الرأي، والتجرد عن الهوى، كحال من يسمع نقداً هادفاً، أو تخطئة لعملٍ كان يقوم به، فجعل ذلك في حسبانه، وتقبله بقبول حسن، وتفادى خطأه، ولم يصرَّ على باطله.
وقل مثل ذلك في قلة المبالاة بكلام الناس؛ فقد تكون أثراً من آثار الصفاقة، والقِحة، والبلادة، وذلك كحال من لا يترفع عن المباذل، ولا يتحرج من وضع نفسه في مواضع الريب، ولا يأنف من المجاهرة بالفسوق، ولا يبالي بظلم الآخرين، والاستهانة بهم وما جرى مجرى ذلك، ثم إذا ولغ الناس في عرضه، ولاموه على سوء صنيعه، تمادى في غيّه، ومشى في غلوائه غير مبالٍ بما يواجَه به، ولا عابئ بما يقال عنه – فذلك مذموم، ممقوت، معدود في جملة السِّفلة.
وفي تفسير ابن عطية: "قيل للقمان: أي الناس شر؟ فقال: الذي لا يبالي أن يراه الناس محسناً أو مسيئاً".
وقد تكون قلة المبالاة بكلام الناس محمودةً، دالةً على عظمةٍ وألمعية.
وذلك كما إذا كان الإنسان يقوم بما تقتضيه الحكمة من استفراغ الجهد، وتحري الصواب، ومداراة الناس، ونحو ذلك ثم نال ما ناله من الطعن، والقدح، والنقد الظالم، فأعرض عن ذلك كله، ومضى فيما هو بصدده من الأعمال التي ترضي الله، وتنفع الناس، مستشعراً أن كلام الناس لا يضره إلاّ إذا اشتغل به، مستحضراً بأن النقد الظالم إنما هو اعتراف ضمني بقدرته، وعلوِّ كعبه – فذلك دليل كبر النفس، وسعة الصدر، وبعد الهمة، وحسن التدبر للعواقب.
وعلى ذلك يُحمل كل ما جاء من الوصايا والحكم التي توصي باطراح المبالاة بكلام الناس، وبألاّ يجعل الإنسان مراقبتهم، والحذر من لمزهم حائلاً بينه وبين تحقيق مآربه النافعة له ولأمته ووطنه.
قال بشار بن برد:
من راقب الناسَ لم يظفرْ بحاجته وفاز بالطيباتِ الفاتكُ اللَّهِجُ
وقال سَلْم الخاسر:
من راقب الناس مات همَّاً وفاز باللذة الجسورُ
وقال ابن حزم -رحمه الله- في الأخلاق والسير: "العقل والراحة هو اطراح المبالاة بكلام الناس، واستعمال المبالاة بكلام الخالق -عز وجل- بل هذا هو باب العقل والراحة كلها".
ولا يعني اطراح المبالاة بكلام الناس أن يتقصد المرء مخالفة الناس أو أن يعمد إلى مخاشنتهم، والإغلاظ عليهم؛ لأن الحكمة -كما مر- مداراة الناس، ومعرفة أحوالهم، وإنزالهم منازلهم؛ فالحكيم الحازم العاقل يزن عقول من يلاقونه، ويحس ما تكن صدورهم، وتنزع إليه نفوسهم، فيصاحبهم وهو على بصيرة مما وراء ألسنتهم من عقول، وسرائر، وعواطف، فيتيسر له أن يسايرهم إلاَّ أن ينحرفوا عن الرشد، ويتحامى ما يؤلمهم إلاَّ أن يتألّموا من صوت الحق.
فإذا قام المرء بما تقتضيه الحكمة – فليقدم على ما قصد إليه دونما التفات أو مبالاة بكلام أحد؛ فلا لوم ولا تثريب عليه حينئذ.
ولا ريب أن توطين النفس على هذا الأمر يحتاج إلى دُربَة، وتمرين، وصبر، قال موسى بن عبد الله بن أبي طالب:

إذا أنا لم أْقبَلْ من الدهر كلَّ ما تكرَّهْتُ منه طال عَتْبي على الدَّهرِ
إلى اللهِ كلُّ الأمر في الخلق كلهم وليس إلى المخلوق شيءٌ من الأمرِ
تعودْتُ مَسَّ الضرِّ حتى أَلِفْتُهُ وأَسلمني طولُ البلاءِ إلى الصبرِ
ووسَّع صدري للأذى الأنسُ وإن كنت أحيانًا يضيقُ به صدري
وصيَّرني يَاْسي من الناس راجياً لسُرْعَةِ لطف الله من حيثُ لا أدري


ومن خير من أشار إلى هذا المعنى اللطيف الأستاذ محمد كرد علي 1293-1372هـ -رحمه الله- في مذكراته؛ إذ أبدى وأعاد فيه وذكر عدداً من الوصايا التي أوصاه بها شيخه الشيخ طاهر الجزائري 1268-1338هـ -رحمه الله- والتي تدور حول هذا المعنى، وإليك طرفاً من ذلك.
يقول الأستاذ محمد كرد علي: "النقد شيء، والطعن شيء آخر، وقلَّ أن رأيت أحداً من المنورين اتسع صدره لنقد الناقدين، ومن هنا جاء إمساك النقاد على النقد النافع؛ لئلا ينزعج المنتقد عليه، ويتخذ من ناقده عدواً له".
وقال: "وفي النقد حياة المجتمعات، والمنتقد يزيد قدره إذا ما تلقى الانتقاد بالقبول.
ولقد بلغت القحة ببعض أصحاب النفوس الصغيرة أن توهمت أن كل أعمالها سديدة لا تستحق إلاّ الإعجاب والتقريظ".
وقال: "كثيراً ما سمعت من أستاذي الشيخ طاهر الجزائري أنه في اليوم الذي يجمع الناس على حبه يعتقد نفسه ساقطاً؛ ذلك لأن معنى الإجماع أن الممدوح ينافق كل إنسان، لا ينكر منكراً، ولا يدعو إلى معروف.
وصاحب الإصلاح في العادة يمقته فريق، ويرضى عنه آخر، ومن أراد تطبيق ما يعلم يتأفف منه السواد الأعظم".
وقال: "ولقد نصحني أستاذي الشيخ طاهر الجزائري نصيحة وَقَتْ أوقاتي من الضياع، وفكري من البلبلة، وكان ذلك لما بدأت بتحرير جريدة (الشام) قال: إذا أحببت النجاح في هذا البلد فلا تلقِ بأذنك لما يُقال فيك من خير وشر، وارمِ ببصرك فقط إلى الهدف الذي يعنيك الوصول إليه، ولا تلتفت ذات اليمين ولا ذات الشمال، وإذا وضع لك واضع حجراً في طريقك فتنحَّ عنه، وعد إلى سلوك محجّتك".
تقبلت هذه النصيحة، وما عبأت بعدها بسماع أقوال المثبطين، ولا بمصانعة المدّاحين، وعرفت مع الزمن أن أصوات أهل هذه الفئة تضيع في الهواء كالهباء، وإنهم كسالى لا يعملون، ويشق عليهم أن يروا أحداً يعمل، وما كنت أردّ على من يناقشني؛ لئلا أدخل في أخذ ورد؛ فإن كان ما قاله مما ينفع أنقله وأنشره وأشكره عليه، وإن كان من الهُراء المعتاد أتحول عنه، ولا أشغل الوقت بما كتب.
وأكثر من جَرَوا على هذه الطريقة إنما يكتبون للشغْب، والكشف عن المساوي، والظهور على الأقران، وكل صعلوك مغمور يحاول في العادة أن يشتهر بالنيل ممن هم أفضل منه.
وما أفلح من ساروا على هذه الطريقة، ودخلوا في الاعتراض، وبعدوا عن الاشتغال بخوَيصة أنفسهم.
الثرثارون الطعّانون يقضون أعمارهم في حسرة، ولا يأتون ما ينفعون به أنفسهم ولا غيرهم، ورأيت منهم جماعاتٍ ماتوا بغيظهم، وكان مَنْ نجحوا مِنَ الفريق الذي يقلل من الاعتراض".
وقال: "ونصح لي أستاذي لما أصدرت مجلة (المقتبس) في القاهرة ألاّ ألتفت إلى المشاغبين ولا أكترث بهم، وإن جَلَّوا؛ فان الحكيم من يسعى إلى تمام القصد، وأقل ما يستفيد المشاغبون إضاعة وقت من اكترث بهم، وإن قلَّ فالوقت ثمين، قال: أقبلْ على شأنك واعرفْ مقتضى زمانك، ولا يمنعك تنكيت المنكتين المكبتين من تنبيهك على غلط فرط منك فيما سلف، وكلما عثرت على شيء من ذلك في عدد فنبه عليه فيما يلي؛ فإن ذلك أقرب إلى الاعتماد على ما تكتب، وأكثر العلماء الذين انتفع الناس بكتبهم كانوا على هذه الطريقة".
وقال الأستاذ محمد كرد علي: "وإذا لاحظ الهجَّاؤون أَن هجاءهم مما تنخلع له قلوب المهجوين زادوا وأفرطوا، وإذا أيقنوا أن صاحبَ النَّفْسِ العظيمةِ لا يأبه كثيراً لما يُقال فيه يحاذرون صَرْفَ أوقاتِهم فيما لا يجدي عليهم.
وقد رأينا العلي المنزلة النزيه في ذاته لا يعبأ بثرثرة الثرثارين مدحاً كان أم قدحاً، ورأينا هذا الضربَ من الأقوال خفَّ الاهتمامُ به في عهدنا؛ لأن الناسَ تعلموا، والمتعلمُ يخجل أَن يصفِّق للباطل، وأن يهرب من الحق".

{moscomment}

بحث سريع