نقابة الأشراف والمجلس الأعلى لآل البيت

بواسطة | د. عبير سلامة
2005/04/26
تنشأ المؤسسات التطوعية بهدف تحقيق مصلحة عامة, ويشترط القانون أن تضفي الدولة هذه الصفة على مؤسسة ما, بعد التحقق من قدرتها الفعلية على النفع العام, لأن ذلك هو الدافع لكي تتنازل لها السلطة العامة عن جانب من اختصاصاتها, لذلك يشرك كثير من الدول هذه المؤسسات في تنفيذ بعض مشروعات الإدارة العامة, اعترافاً بأن رسالتها امتداد لرسالة الدولة في دعم الاستقرار الاجتماعي وسيادة القانون, وترسيخ قبول التعددية والتسامح المتبادل بين المختلفين.
تراجع مستوى العمل الأهلي واستشراء عدم القبول العام للاختلاف في مصر, على مدى العقدين الماضيين, لابد أن يثيرا كثيراً من التساؤلات المتشككة عن جدوى ما تمارسه المؤسسات غير الحكومية, وعن دور الدولة في متابعة نشاطاتها, ومن ثم توجيهها نحو ما يكمل دورها في خدمة المجتمع وإذا بدا أن نشاط بعض هذه المؤسسات مكرس لإرساء التعصب ضد المختلفين ونشر العداء بين أبناء المجتمع الواحد, فلابد من وقفة جادة لتدارك الأمر قبل أن يستفحل خطره, وأخص بالذكر هنا الخلاف بين "السادة" في "نقابة الأشراف" و"المجلس الأعلى لآل البيت" في مصر, والذي يكشف عن طابع تنافسي عدائي للعلاقة بين مؤسستين تطوعيتين تخدمان جماعة واحدة.
لا توجد حتى اليوم إحصائية دقيقة لعدد الأشراف في مصر, وإن كانت تقديرات مختلفة تشير إلى أن العدد يتراوح من 7 إلى 10 ملايين نسمة, وقد وجدت أسر وبطون منهم منذ بدايات القرن الأول الهجري, لكن الظهور الأكبر لهم, بوصفهم قبيلة كبرى في مكان مستقر, بدأ في القرن السابع الهجري بهجرة ذرية الشريف جمال الدين جماز من الحجاز إلى مصر, كان الشريف جماز قد تولى إمارة المدينة المنورة بعد أبيه عز الدين القاسم بن مهنا, وشارك معه في الحروب الصليبية, فنشأت بينه وبين العزيز عثمان بن صلاح الدين مودة, دفعت الأخير في لقاء معه بالشام سنة 590هـ إلى أن يوقف عليه وذريته من بعده 8750 فداناً من أراضي قنا.
توفي جمال الدين جماز سنة 600هـ, ودفن بالبقيع في المدينة, ثم نشب صراع على الإمارة بين أولاده وبني عمومتهم أولاد الشريف شيحة بن هاشم بن عز الدين القاسم, فاضطروا بعد تنازلهم عن الحكم سنة 647هـ للهجرة إلى مصر, دخلوها عن طريق سيناء, لأسباب تتعلق بمراسم استقبال الأعيان ونزلوا في محافظة الشرقية قرب الزقازيق, في المكان المعروف منذ ذلك الحين بكوم الأشراف, ثم رحلوا إلى قنا عدا الشريف نائل بن جماز الذي استقر هناك مع جزء من ذريته.
حرص الأشراف في مصر, منذ العصر الفاطمي (358 – 567هـ) ولأسباب سياسية, على تماسك هوية جماعتهم عن طريق منع زواج بناتهم من خارج القبيلة, بالرغم من أن مصادر التاريخ تؤكد أن أسلافهم كانوا يندمجون حيثما ارتحلوا مع السكان الأصليين بالتصاهر, مما أدى إلى توزعهم في قبائل كثيرة, مع احتفاظهم بنسبهم, سواء من جهة الأب أو الأم, توجد على سبيل المثال, في تاريخ القبائل العربية بمصر مرحلة شديدة الدلالة على إشكالية نقاء النسب وهي مرحلة الأحلاف السياسية, إما لمعاداة السلطة الحاكمة, وإما لمناصرتها.
بدأت ظاهرة الأحلاف منذ عصر الطولونيين حتى عصر المماليك الشراكسة (254-933هـ) أي منذ القرن التاسع الميلادي حتى أوائل السادس عشر, ونجد في المصادر التاريخية –عقب هذه المرحلة- توجهاً واضحاً للاقتصار على لفظ عرب أو عربان بدون ذكر أسماء القبائل والبطون, وهي دلالة مهمة على اختلاط الأحلاف واندماج عناصرها السلالية إلى حد أن صارت نسبتهم للعروبة عامة أيسر على المؤرخين من نسبتهم إلى أصولهم السبئية والقيسية.
وكان التحول الأهم في هذه المرحلة متعلقاً بامتداد النسب ومفهوم الشرف السلالي, إذ فضل كثير من الجماعات العربية في صعيد مصر, خصوصاً الجماعات القرشية, الامتداد بالنسب إلى الرسول أو الصحابة والخلفاء فحسب وأخذ لفظ الشريف يتسع في مفهومه أو يضيق تبعاً لاختلاف الظروف على مر الأجيال والعصور, فكان شريفاً كل من كان من أهل البيت سواء أكان حسنياً أم علوياً من ذرية محمد بن الحنفية وغيره من أولاد علي بن أبي طالب أم جعفرياً أم عقيلياً أم عباسياً.
ثم قصر الفاطميون بمصر اسم الشريف علي ذرية فاطمة الزهراء, وفي عصور متأخرة اندرج أبناء الخلفاء الراشدين تحت لواء الأشراف, ومنهم جميعاً تتألف قبائل الأشراف في مصر الآن, مع الالتفات إلى ما كان لمرحلة الأحلاف من تأثير لا ينكر في ضياع بعض الأسباب وذوبان ما بقي منها نتيجة المجاورة والمصاهرة والتأثير نفسه تقريباً نتج بعدما استقرت وظيفة النقابة على الانتساب منذ العصر الفاطمي, وتوالت على حكم مصر عناصر عرقية مختلطة حرصت على أن تضيف لتعربها الثفافي شرفاً سلالياً.
النقابة … والمجلس…
تأسست نقابة ذوي الأنساب في العصر العباسي, لكن تقاليدها استقرت في مصر منذ العصر الفاطمي (358-567هـ) ولم تكن وظيفتها تتجاوز التمثيل العقيدي والسياسي الذي أراده الرسول, عندما جعل من الأنصار الذين بايعوه في ليلة العقبة اثنى عشر نقيباً, يمثلون قومهم ويعرفونهم شروط الدين, "النقيب العريف وهو شاهد القوم وضمينهم, الذي يتعرف أخبارهم وينقب عن أحوالهم", لذلك كان يتم اختياره في مصر من بين أجلّ شيوخ الطائفة قدراً, كما يقول القلقشندي, وكان يخلع عليه, فيسير بالطبل والبوق والجنود مثل الأمراء, له ديوان ومشارف وعامل ونائب ومخصصات مالية, وتتمثل وظيفته في التصرف في أمور المنتسبين إلى آل البيت وحمايتهم من الأدعياء وعيادة مرضاهم والسير في جنائزهم وقضاء حوائجهم.
النقابة على الأنساب من وظائف الخلافة التي ذهبت بذهاب ما ينظر فيه بواسطتها, حسب تعبير ابن خلدون, إذ نشأت لكي يتوصل بها إلى الخلافة أو الحق في بيت المال, وقد "بطلت لاندثار الخلافة ورسومها", وبرغم هذا الاندثار استمرت وظيفة النقابة, واستمر النزوع السياسي لنشاطها قائماً, فبلغ أوج وطنيته في عهد النقيبين عمر مكرم (1750-1822) ومحمد توفيق البكري (1870-1932), وكان اضطرابه –النزوع- أحد أسباب وقف نشاطها في عهد الرئيس جمال عبد الناصر, حتى السنوات القليلة الماضية عندما صدر قرار جمهوري بإعادتها.
أما "المجلس الأعلى لآل البيت" فقد تأسس من خلال "جمعية الحوراء الخيرية" المشهرة في وزارة الشؤون الاجتماعية, منذ أربع سنوات تقريباً, لمواجهة ما أسماه بالفساد داخل "نقابة الأشراف" وبالرغم من كثرة أخبار المجلس على شبكة الانترنت, لا تجد منشوراً منسوباً إليه يتناول أوضاع الجماعة التي يدّعي نيابته عنها !! أو يعد بمشروعات تصلح أحوالها, التي لا تختلف كثيراً عن أحوال المصريين جميعاً, فعلى مدى هذه السنوات لم يبرز للمجلس نشاط عدا إصدار البيانات التي تهاجم النقابة والأزهر والتليفزيون المصري من جانب, او تساند المتهمين في قضايا تنظيمات شيعية, من جانب آخر ؟!!
تدخل النزوع السياسي الذي ارتبط بنشاط "نقابة الأشراف" في كثير من الأحيان, ليقوض دورها في رعاية الجماعة وحفظ نسبها, مع ملاحظة ان الحفظ ليس مقصوداً لذاته, إنما هو مطلوب بقدر إسهامه في صلة الأرحام, كما يفهم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم" واقترن تقويض الدور الأهم بإعلاء دور آخر في تثبيت قيم قبلية تجاوزها الزمن, أهم هذه القيم ما يتعلق بمفهوم الشرف, إذ تم اختزاله في مجرد الانتساب إلى آل بيت الرسول, وهو نوع من الشرف في حد ذاته, لكن أن يكون النسب وحده معياراً للشرف, ولتقييم الآخرين, فالأمر حينئذ يستحق المناقشة والنقد, خصوصاً عندما يتناقض هذا مع إرشاد الرسول نفسه, وعندما تحيط الشكوك بوظيفة مثل هذه المؤسسات ولا يسلم خطاب القائمين عليها من الريب.

استرداد الأوقاف والأزهر

اتهم "المجلس الأعلى لآل البيت" "نقابة الأشراف" باتهامين رئيسيين:
الأول: التقاعس عن استرداد ما يدعوه حقوقهم, ممثلة في الأراضي التي أوقفها عليهم "العزيز عثمان بن صلاح الدين الأيوبي" في سنة 590هـ/1194م, وآل بعضها إلى الدولة في عهد محمد علي باشا ضمن ستمائة ألف فدان من أراضي الوقف في سنة 1812, ثم وضعت الدولة يدها على البقية في سنة 1957, حين صدر قانون حل الأوقاف الأهلية الخاص باستبدال الأراضي الزراعية الموقوفة على جهات البر العام, وتسليمها إلى اللجنة العليا للإصلاح الزراعي.
ينبغي النظر إلى هذا الاتهام والقضية المرفوعة على الدولة من قبل المجلس لتدارك تقصير النقابة في إطار قضايا أخرى رفعها المجلس, أيضاً, ضد شيخ الأزهر للمطالبة بـ "استرداد الأزهر" وإعادته تحت إشراف آل البيت, بدعوى أنه الآن ينشر منهج العنف والتطرف, و"يروج للمذهب الوهابي" وضد وزير الإعلام بسبب عرض مسلسلات تتناول حياة الصحابيين عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان, واخيراً القضية الرقابية المتعلقة بعرض مسرحيتي عبد الرحمن الشرقاوي (الحسين شهيداً) و(الحسين ثائراً), إذ في هذا الإطار كاملاً تتضح أبعاد المهمة التي تطوع المجلس للقيام بها, والتي لا تعدو اختصام الدولة وفرض فكر بعينه على المجتمع.

الوقف بين الدولة والأشراف

يمكن اعتبار شكل العلاقة العدائية بين المؤسسات الأهلية والدولة, من رواسب عصر محمد علي, حين استقر مفهوم جديد للدولة, يهدف إلى احتكار السلطة جميعها, عن طريق بناء مؤسسات تملكها الدولة وتتحكم في إدارتها, وفي الوقت نفسه إلغاء المؤسسات التي كانت تمنح المجتمع استقلالية في مواجهتها, مثل مؤسسة الحسبة, "نقابة الأشراف" مشيخة الطوائف, هيئة العلماء, والأوقاف.
لكن هذا المفهوم اختلف حديثاً, حسب ما تؤكده قواعد تنظيم عمل المؤسسات التطوعية, في القانون المصري ويكفي شاهداً ما ورد في المذكرة الإيضاحية لقانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة 22 لعام 1964, من أن المؤسسات الخاصة تقوم بدور أساسي في ميدان الرعاية الاجتماعية, وأن وزارة الشؤون الاجتماعية تعتمد عليها في تقديم الخدمات المختلفة للمواطنين, نظراً لما يتميز به العمل في ميدان النشاط الأهلي من مرونة تجعله أكثر ملائمة لأداء هذا النوع من الخدمات إضافة إلى دور آخر, لا يقل أهمية في نشر الثقافة السياسية وإرساء مبادئ المواطنة وحرية الاختلاف والتسامح . الوقف هو حبس الأصل وتسبيل أنفاق ثمرته أو منفعته, بمعنى جعلها سبيلاً عاماً للناس جميعاً, وهو نوعان أوقاف ذرية, يحبس بها الأصل لذرية إنسان وذرية ذريته من بعده, وأوقاف خيرية, كأن تحبس أرض لبناء مسجد أو مدرسة, أو تخصص عوائد مشروع ما للإنفاق على فقراء, إذن ثبات الأصل / حبسه وتسبيل أنفاق منفعته هو المقصود بالوقف فإذا تم الوقف بشرائطه الشرعية خرج المال الموقوف عن ملك الواقف وأصبح سبيلاً مؤيداً لا يوهب ولا يورث ولا يباع إلا في موارد معينة.
ليس هنا مجال الجدل حول الشرائط الشرعية لوقف الأشراف في مصر, إنما تكفي الإشارة إلى أن من حبس الوقف أولاً كان حاكماً ومن حله تالياً كان حاكماً أيضاً, مع فارق معتبر مفاده أن قرار الحل جلب المفعة للمواطنين جميعاً لا جماعة بعينها, مع صرف النظر عن كونها جماعة وافدة تترفع عن مخالطة أهل البلاد الفلاحين, ولا تترفع عن إنفاق محصول شقائهم في ظروف بائسة لم تتحسن نسبياً إلا في عهد سعيد باشا (1822-1863).
تولى سعيد بن محمد علي حكم مصر في يوليو 1854, وبعد أشهر أصدر عدداً من القوانين الإصلاحية أهمها تلك المتعلقة بملكية الأراضي الزراعية أو حقوق الانتفاع بها, إذ تنازلت الحكومة عن الضرائب المتأخرة على المزارعين, وألغت مبدأ تضامن القرى في تحمل الضرائب, كما أعفت الفلاحين من سدادها, ليستفيدوا من إنتاجهم في تحسين أوضاعهم المعيشية القاسية, ثم توجت الأعمال الإصلاحية في هذا المجال بصدور اللائحة السعيدية في الخامس من أغسطس 1858 وبموجبها وزعت الأراضي على الفلاحين الذين يقومون بزراعتها.
كانت هذه اللائحة ثورة إصلاحية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في مصر, لكن أثرها في الصعيد اختلف, إذ ألغت الامتياز الواقعي الوحيد لدى "السادة" وألهمتهم بلورة امتياز النسب الشريف مما وراء الواقع, للتعصب ضد الفلاحين وتحريم مصاهرتهم, بالرغم من أن أكثرهم اضطر لممارسة الفلاحة, وبالرغم من مرجعيتهم الدينية التي تثمن الزراعة, وتنفر من الكبر والتعصب.
الأوقاف في الإسلام مشروعات اقتصادية خيرية تتجاوز عمر الواقف والمشرفين عليها, وفي حين يحتاج المجتمع إلى تشجيع مثل هذا النوع من العطاء, وتطوير أساليب إدارته, يخرج "المجلس الأعلى لآل البيت" بهذه الدعوى العجيبة, لإلغاء قرن ونصف من حركة مصر, البطيئة أصلاً, في اتجاه تحديث المجتمع وتفعيل حقوق الإنسان, هل نحن بحاجة إلى الربط بين توقيت إثارة هذه القضية في مصر وتلك الخلافات الحادة التي برزت في سنة 2002, في الكويت حول تبعية الأوقاف الجعفرية لإدارة الدولة, على أن نضع في الاعتبار مطالبة "المجلس الأعلى لآل البيت" بإعادة فتوى الشيخ "محمود شلتوت" للعمل بالمذهب الجعفري, التي هي في حد ذاتها فتوى مستنيرة وضرورية للتقريب بين المذاهب, أم علينا مباشرة النظر إلى ما يثار الآن حول القضية, في الدول الإسلامية عموماً, باعتباره من نتائج الضغوط المكثفة من الولايات المتحدة الأمريكية على الحكومات, لحصار الجماعات الدينية ومراقبة أوجه صرفها أموال الأوقاف والتبرعات؟!
تبقى النتيجة واحدة مهما كانت الإجابة, وهي أن الضجة التي يثيرها "المجلس الأعلى لآل البيت" في هذا الصدد تنقل القضية الفرعية مضخمة بتطرف إلى ساحة العصبية الضيقة, وتصرف انتباه المجتمعات الإسلامية الممزقة عن القضايا الأهم, والأخطر من ذلك كله أنها تحاول جرّ المجتمع المصري إلى نوع من الفتنة الطائفية لم يعهده من قبل.

تزوير الأنساب

الاتهام الآخر الذي وجهه "المجلس الأعلى لآل البيت" إلى "نقابة الأشراف" تزوير الأنساب, عن طريق إصدار شهادات نسب لبعض الرؤساء العرب ورجال أعمال مصريين, والمفارقة هنا, بصرف النظر عن التزوير, تتعلق بذلك الحرص المبالغ فيه على اقتناء شهادات توثق النسب, وكأن هناك من يشكك فيها, كأنها صكوك وجود من جانب, ومن جانب آخر صكوك شفاعة, لكن ليس إلى الجنة في الآخرة, إنما للتميز الاجتماعي ومناصب السلطة في الدنيا, وما التزوير إلا نتيجة طبيعية لهذه المفارقة, وللنزوع السياسي المشار إليه سابقاً.
ارتبط التزوير غالباً, حسب الأخبار المتواترة في المصنفات التاريخية, بالمصالح السياسية, وكان للحكام عبر الدول الإسلامية المتعاقبة دور واضح في إقحام عناصر موالية على تجمعات خصومهم السياسيين, إما لانتهاك سريتهم وإحباط مخططاتهم, وإما لتشويه حركتهم أمام العامة, وهكذا نجد في المصريين من انتسبوا إلى آل البيت زوراً, وحصلوا على شهادات موثقة, كانت تباع وتشترى كأية سلعة غالية, ولاشك في أن كثيراً من المشترين احتفظوا ببضاعتهم المزيفة, حتى وإن عوقب البائع أحياناً, وضرب أصحابه بالمقارع, مثلما يروي المقريزي في كتاب السلوك ضمن أحداث عام 756هـ, عن قطع يد الشريف المزور, الذي كان في التزوير ومحاكاة الخطوط عجباً, وسجن بسبب ذلك مراراً.
لا يبرر وجود تزوير الأنساب منذ وجدت النقابة قبول التزوير الآن, إنما الغاية توضيح أن أسلوب مواجهة هذا التزوير سبب مهم من أسباب استمراره حتى اليوم, فأكثر الحالات مرت من دون أن ينتبه لها احد, والقليل الذي عرف ما كشف إلا لأغراض شخصية, بمعنى أن من يقع عليه ضرر مباشر من التزوير هو الذي يفضحه, ولا ضرر أشد من حجب الوظائف, خصوصاً إذا كانت مرموقة كوظيفة النقيب,هل كان يمكن –كمثال أعم, اكتشاف تزوير نسب "أبي الهدى الصيادي"-لو لم يحجب بنسبه المزعوم عبد الرحمن الكواكبي (1855-1902) عن رئاسة النقابة في حلب؟!
لم يحل التشهير بالمزورين قديماً المشكلة, ولن يحلها اليوم سوى عودة النقابة على الأنساب إلى وظيفة المنشأ, إن جاز التعبير, بوصفها مؤسسة خدمية وتثقيفية, تقوي علاقات التراحم بين أفراد جماعتها, وبينهم وبين الجماعات الأخرى, بدلاً من استغلال أصواتهم في مواسم الانتخابات, ومشاعرهم الدينية في معارك مفتعلة تفرق بين أبناء الطائفة الواحدة, وتهدد أمن المجتمع كله بإثارة الخلافات المذهبية, بين السنة والشيعة.
الشيعة في مصر
يوجد في مصر شيعة, ولهم مثل أصحاب أي فكر آخر في المجتمع –حق التعبير عن أنفسهم, ما دام أسلوبهم في ذلك لا يخالف القانون, ولا يضر بالآخرين, لا أظن "المجلس الأعلى لآل البيت" تأسس بطريق قانوني من أجل الترويج للفكر الشيعي, إنما هو فرع عن مؤسسة أهلية تخدم أشراف مصر, وهؤلاء أكثرهم من السنة, كما أن أهل المجلس يستنكرون دائماً أية إشارة إلى هذا الأمر, ويتبرأون منه تبرأهم من سبة, لكن القول شيء والأفعال شيء آخر, ولنتأمل فحسب مغزى أن يتبنى المجلس مشروعاً سياحياً لإحياء مسار آل البيت في مصر بتمويل إيراني, أما البيانات التي تساند المتهمين في تنظيمات شيعية فتبدو كما لو كانت النشاط الأكبر للمجلس.
يتفق هذا الأسلوب المراوغ في التعبير عن الفكر, مع موقف مؤسسة أهلية أخرى, حملت للمفارقة اسم بـ "جمعية آل البيت" وتأسست في سنة 1973, وكان التوجه الشيعي لنشاطها واضحاً, بالرغم من اهتمام القائمين عليها باستقطاب الهيئات الإسلامية الرسمية والجماعات الفكرية الأخرى كجماعة "الأخوان المسلمين" لكن الجمعية لفتت الانتباه إلى نشاطها بإصدارها بعض الكتب الشيعية, وازداد التوجس من هذا النشاط مع احتضان شخصيات خليجية وبعض علماء الشيعة العراقيين والإيرانيين لها, وكانت كل الأنشطة الإسلامية المنظمة حينذاك موضع توجس, بعد بروز تياري الجهاد والتكفير والهجرة, وقيام الثورة الإسلامية في إيران, فاتهمت الجمعية بأنها تمثل خطراً على عقائد الناس وضرراً بوحدة صفوفهم, وفي أواخر سنة 1979 صدر حكم قضائي بوقفها ومصادرة المسجد التابع لها.
بالطبع من حق من شاء أن يعتقد فيما شاء, لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل من حق "المجلس الأعلى لآل البيت" توجيه نشاطه العام لخدمة فكر معين في الوقت الذي يدّعي نيابته عن جماعة تعتنق غالبيتها فكراً آخراً؟! وهل من حقه, مثله في ذلك مثل النقابة, تمييز جماعة من المسلمين بسبب مصادفة النسب وحدها, وإغراقهم في قضايا تفريعية لا طائل منها سوى عزلهم عن بقية المسلمين وبالتالي إضعافهم جميعاً؟!
التوحيد بين الجماعة والرمز الديني الذي تحاول الاستنثار وحدها بالانتماء إليه, يناقض مغزى رسالة الرمز نفسه, فلو كانت نبوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تكريماً لأرحامه, لما اعتنق الإسلام غير هاشمي, ولما وجدنا في أحاديثه الكثير مما يشبه قوله "حليف القوم منهم ومولى القوم منهم وابن بنت القوم منهم" لقد كان هاجسه حتى رحيله تجميع القبائل المتفرقة, ومحاربة ضلالاتها الناتجة عن تشويه الواقع أو الانفصال عنه, وأخطر هذه الضلالات هو الزهو المتغطرس بانتماءات ماضوية, والذي هو سمة مميزة للفكر والسلوك الخانعين لسلطة البنية العشائرية.
تشكل البنية العشائرية (برموزها وشخوصها وعلاقاتها) نسقاً تحريمياً أو "تابو" تنحصر وظيفته الاجتماعية في المحافظة على أوضاع الناس, ويصعب إن لم يكن مستحيلاً, أن تتحقق فكرة المجتمع المدني بدون تفكيك هذه البنية المسيطرة على الفكر, فهذا المجتمع نفسه لا يعني سوى هدم البنية العشائرية, سلوكاً ونظرية, لتحقيق الاندماج الاجتماعي في حيز جغرافي معين.
إن تحقيق فضل ما في الماضي, أو افتقاده ليس مبرراً لعدم البحث عن فضل آخر في الحضر, فقد ذهب الأجداد بفضلهم ولا معنى من وراء تقديسهم سوى استمرار الأعراف التعصبية, التي تحيل أية جماعة إلى بنية مغلقة على أوهامها, وهذه تستشري في خفاء العزلة, وتنهش من كيانها, وكيان المجتمع كله, في صمت.

المصدر: جريدة القاهرة – العدد 224 – 27 يوليو 2004

بحث سريع