تقرير مجلة الواشنطن : كيف نفهم الشارع الايراني ؟

بواسطة | مسير زكي بسيوني
2007/09/16

منذ أن قامت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وتتعدد ملفات السياسة الخارجية الإيرانية بين قضايا إقليمية ودولية وعلاقات خارجية مع دول الجوار أو القوى الدولية, ورغم تعدد ملفات السياسة الخارجية الإيرانية إلا أن القضية النووية والعلاقات مع الغرب خاصة الولايات المتحدة ما تزال من أهم قضايا السياسة الخارجية لإيران.
وتسعى القيادة الإيرانية دائمًا إلى وضع خطوط حمراء وثوابت جامدة حول هذه القضايا وذلك بزعم أن قضايا مثل الملف النووي وعدم إقامة علاقات مع الولايات المتحدة إنما تمثل مطلبًا لا يمكن التنازل عنه ليس للقيادة الإيرانية وإنما للشعب الإيراني.
ورغم ذلك يرى بعض المحللين أن موقف الشعب الإيراني ليس بهذه الحدة أو الجمود بالنسبة لهذه القضايا فهناك توجه كبير لدى غالبية أفراد الشعب الإيراني للاهتمام بقضايا أخرى خاصة القضايا الاقتصادية وتوزيع عائدات النفط.
من هنا تكتسب هذه الدراسة والتي أعدها كريم سجاد بور المحلل بمجموعة الأزمات الدولية بواشنطن دي سي، ونشرتها دورية (Washington quarterly) بعنوان (كيف نفهم الشارع الإيراني؟) أهميتها وذلك لعدة اعتبارات أهمهما أنها تقدم رؤية تحليلية إيرانية للشارع الإيراني، ولكنها رؤية من الخارج تحاول تقديم وجهة نظر مغايرة لما يأتي من داخل إيران حول الدعم الشعبي لأهم ملفات السياسة الخارجية الإيرانية خاصة الملف النووي الإيراني والعلاقات مع الولايات المتحدة، هذا بالإضافة إلى تناول الدراسة لمسألة العلاقات بين المؤسسات المنتخبة والمعينة والفجوة الكبيرة الموجودة لصالح المؤسسات المعينة خاصة المرشد ومجلس صيانة الدستور، كما تتناول أيضًا انتخابات الرئاسة الماضية وموقع قضايا السياسة الخارجية في برامج المرشحين في هذه الانتخابات وتحاول الدراسة في النهاية أن تجيب على السؤال الأهم وهو: هل تتوافق مطالب المواطنين الإيرانيين مع سياسة إيران الخارجية؟ وفيما يلي نص الدراسة.
تعد مسألة قياس الشعور الشعبي في إيران مسألة صعبة جدًّا فعلى المستوى المحلي يتم السماح بصورة نادرة بإجراء استطلاعات رأي مستقلة، كما أن نتائج الانتخابات تكون مدعومة في أغلب الأحيان من جانب الحكومة ورغم ذلك توجد بعض المحاولات التي يقوم بها بعض الأشخاص أو الجهات، ففي عام 2003 قام عباس عبدي وهو أحد الثوريين الإصلاحيين بإجراء استطلاع مستقل ووجد أن 75 % من الإيرانيين يفضلون وجود علاقات مع الولايات المتحدة، ولهذا تم القبض عليه وسجن لفترة وجيزة بسبب نشر هذه النتائج، ووجهت إليه السلطات الإيرانية تهمة الارتباط بالعناصر الأمريكية والمخابرات البريطانية، وهي الجهات التي ترى الحكومة الإيرانية أنها تمارس " حرب نفسية تهدف إلى إسقاط النظام ".
ورغم عدم وجود ضمانات لما يسمى بـ " حرية ما بعد الخطاب " ورغم أن الإيرانيين يعتبرون من أكثر المجتمعات انفتاحًا في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن هناك حالة من الارتياب والشك من الاستطلاعات الرسمية الأمر الذي يقلل من مصداقية الاقتراعات التي تتم عبر الهاتف، علاوة على هذا وعلى المستوى الاجتماعي يقترب الإيرانيون من 70 مليون نسمة، الأمر الذي يزيد من صعوبة الإجابة على سؤال ماذا يريد الإيرانيون؟
في ظل غياب مقاييس موحدة للرأي العام، ووسائل بديلة لمعرفة الآمال والطموحات التي يريدها الشعب، في ظل غياب كل هذا يتأكد لدينا أن الانتخابات في إيران ليست نزيهة، فالمرشحين يتم اختيارهم في البداية من قبل مجلس صيانة الدستور غير المنتخب، حيث يقوم المرشد الأعلى للجمهورية بتعيين ستة من الأعضاء من أصل 12 عضو ويقوم بتعيين الباقي رئيس السلطة القضائية الذي يعين في الأساس عن طريق المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي الأمر الذي يعني أن أعضاء المجلس سيدينون بالولاء للنظام الثيوقراطي، ويعني أيضا أن المجلس سوف يمنع المرشحين العلمانيين من دخول أي انتخابات بالإضافة إلى منع المرأة من دخول سباق الانتخابات الرئاسية.
أثناء انتخابات الرئاسة الإيرانية في يونيو 2005 كان هناك سبعة مرشحين يتنافسون في هذه الانتخابات كان أبرز هؤلاء الرئيس السابق ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني، فقد أعلن رفسنجاني أن هدفه هو إصلاح العيوب والأخطاء والقضاء على المشكلات الاقتصادية وإنهاء العزلة الدولية المفروضة على إيران، أما القائد الثوري السابق محمد باقر قاليباف والذي يرأس مدينة طهران حاليًا فقد وعد باحترام القانون، أما رجل الدين المعتدل حجة الإسلام مهدي كروبي فقد وعد في حالة فوزه بـ 50000 تومان (حوالي 60 دولار) شهريًّا لكل إيراني. أما مصطفى معين الذي كان يعد أمل حركة الإصلاح فقد ركز على الديمقراطية وحقوق الإنسان. أما رئيس بلدية طهران في هذا الوقت محمود أحمدي نجاد فقد أقسم على محاربة الفساد وإعادة توزيع عائدات النفط على موائد الفقراء من الإيرانيين.
وإذا كانت هناك سمة مشتركة بين المرشحين فقد تمثلت في التغيير، فقد أقر الجميع تقريبًا بالحالة السيئة للاقتصاد والفساد ويأس الشباب، والعديد منهم بما فيهم رفسنجاني أعلن أن هناك ضرورة للعلاقات مع الولايات المتحدة. حتى التيار المتشدد الذي تمثل في أحمدي نجاد أعلن بأنه غير مصر على دفع البلاد نحو قالب ديني متشدد، كل هذا دفع بعض المحللين إلى التعليق على برامج المرشحين الانتخابية بـ " أن كل شخص يتحدث عن الإصلاح يعني أنهم يعترفون بأن ما كانوا يقومون به خلال الـ 26 عامًا الماضية كان خاطئًا ".
أما بالنسبة للقضايا غير المطروحة في الحملات الانتخابية للمرشحين فقد كانت واحدة. فرغم الموقف الثابت للجمهورية الإسلامية من إسرائيل لم يتعهد أي من المشرحين بالدفاع عن القضية الفلسطينية أو مواصلة سياسة متشددة ضد إسرائيل أو " الكيان الصهيوني " فقد ذكر بالكاد في برامج المرشحين أيضًا على الرغم من انتشار فكرة واحدة في وسائل الإعلام سواء الإيرانية أو الغربية بتمسك الإيرانيين القوي بالمشروع النووي إلا أنه لم يقم مرشح واحد بالتعهد باتباع موقف نووي متشدد. وعلى الجانب الآخر أعلن كبير مساعدي رفسنجاني محمد عطري أنفار بأن رفسنجاني سوف يعلق تخصيب اليورانيوم في حالة انتخابه رئيسًا للبلاد.
ورغم ذلك وعلى الرغم من الحقيقة القائلة بأن الشباب الإيراني يطمح في التكامل مع المجتمع الدولي أكثر من مسألة مواجهة إسرائيل فإنه لا يمكن القول أن سياسة إيران الخارجية تعكس بأي حال من الأحوال هذه الطموحات خاصة في عهد أحمدي نجاد، وربما يعود هذا إلى الحقيقة القائلة بأن السلطات الدستورية الممنوحة للمؤسسات المنتخبة في إيران مثل الرئاسة والبرلمان مقزمة عند مقارنتها بالسلطات الممنوحة للمؤسسات غير المنتخبة مثل المرشد الأعلى للجمهورية ومجلس صيانة الدستور.
وعلى الرغم من أن خامنئي يسعى دائمًا إلى إصباغ الإجماع الشعبي على قراراته إلا أنه لم يظهر أبدًا هذا الإجماع بشكل عملي من جانب الشعب على قرارات خامنئي الأمر الذي يجعلنا نطرح بعض التساؤلات مثل، هل تتوافق مطالب المواطنين مع سياسة إيران الخارجية ؟ إذا كان الأمر كذلك وآراء الناس مهملة، هل يبدأ الناس بالثورة ؟
فلسطين: أداة تجنيد إقليمية وليست محلية:
في الحقيقة يبدو توجه إيران تجاه إسرائيل مسألة محيرة، ففي الوقت الذي أقرت فيه معظم الحكومات العربية بما في ذلك الزعماء الفلسطينيين الحاليين بوجود إسرائيل نجد أن إيران غير العربية تواصل الدعوة نحو استئصال الدولة اليهودية، فقد هاجم أحمدي نجاد إسرائيل مرات عديدة وطالب بـ " مسحها من على الخريطة " أو نقلها، كما رفض فكرة المحرقة ووصفها بالأسطورة، المهم هنا أن أحمدي نجاد واجه النقد الشديد من جانب المجتمع الدولي بقوله أن " كلماته هي كلمات الأمة الإيرانية ". أحمدي نجاد أكد أن الشعب الإيراني يوافقه في كراهيته الحادة لإسرائيل، وعلى الرغم من مرور ثلاثة عقود من النداءات الداعية لتحرير القدس فإن نظام إيران لم يستوعب حتى الآن الحقائق الضروية، فليس هناك من سبب معقول يجعل من الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي قضية الاهتمام الأساسية للمواطن الإيراني المتوسط، فإيران ليس لها نزاعات إقليمية مع إسرائيل ولا توجد مشكلة لاجئين فلسطينيين في إيران، وإلى يومنا هذا يصل عدد الجالية اليهودية في إيران إلى 25000 وهو أكبر عد لليهود في منطقة الشرق الأوسط خارج إسرائيل. وعلى الرغم من أن النظام الحاكم في طهران مستمر في تشويه سمعة إسرائيل والاحتفاء بالفلسطينيين في وسائل الإعلام إلا أن الكثير من المحللين يرون أن المسألة لا تخرج عن دائرة النفاق.
ومن العجيب أن الشعور المعادي لإسرائيل بين الإيرانيين كان أقوى وأوضح في الفترة التي سبقت الثورة الإسلامية عام 1979، فأثناء عهد الشاه محمد رضا بهلوي كانت علاقة الشاه القوية مع إسرائيل مكروهة على المستوى الشعبي في إيران ناهيك عن أن الموساد الإسرائيلي كان له عملاء داخل إيران، وقيل أنهم كانوا يقومون بتدريب قوات الشرطة الإيرانية وخاصة السرية منها والتي كانت منتشرة في كل مكان ومعروفة باسم السافاك، وعندما سقطت الملكية في إيران بقيام الثورة سلمت مفاتيح السفارة الإسرائيلية في طهران إلى ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وأعلن آية الله الخميني أن ثورة إيران الإسلامية سوف تزحف تدريجيًّا حتى تقوم بتحرير القدس وأصبح شعار القضية الفلسطينية وسلخ الكيان الصهيوني من أهم العلامات البارزة في السياسة الخارجية والداخلية للجمهورية الإسلامية في إيران.
بعد ثلاثة عقود على الرغم من أن هناك الكثير من الشباب الإيراني لديه الرغبة في الزحف نحو القدس إلا أن هذا الشباب محاصر بالبطالة والتضخم، فجيل ما بعد الثورة يرى أن الأفكار الأولى التي حملتها الثورة مثل معاداة الصهيونية ومناهضة الاستعمار والماركسية لم تجلب لإيران سوى السمعة الدولية السيئة، والعزلة السياسية والأزمات الاقتصادية، ولهذا ففي صيف 2003 خرجت الاحتجاجات التي تنادي بشعارات الديمقراطية والحرية وكان هناك شعار بارز هو " ينسى فلسطين ويفكر بشأننا".
على الرغم من التعاطف الذي يبديه العديد من النخبة السياسية في إيران تجاه قضية فلسطين فإنهم يرون أن الحقيقة تقول أن خطابات الحكومة نحو إسرائيل فاشلة. وقد ترددت في طهران أصوات تطالب بإعادة تصحيح الأوضاع، فقد صرح علي رضا علوي تبار الإصلاحي الثوري قائلاً: " نحتاج لإعادة اختراع أنفسنا، لا يجب أن نهتف الموت لإسرائيل بل يجب أن نهتف تعيش فلسطين، ليس من الضروري أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم"، أيضا قامت جبهة المشاركة الإصلاحية بتوجيه الانتقادات لأحمدي نجاد على تصريحاته المناهضة لإسرائيل حيث أعلنت الجبهة أن " البلاد عندما تواجه أزمة دولية فإن مثل هذه التصريحات تؤدي إلى زيادة الأعباء السياسية وتؤثر على الأمن والمصالح الاقتصادية " حتى بعض الأصوات المحافظة قامت بتوجيه انتقادات لأحمدي نجاد مثل حشمت الله فلاحت زاده الذي وجه انتقادًا مماثلاً للانتقاد السابق.
يمثل دعم إيران المستمر لحزب الله وحركة حماس أحد أهم الأسس التي تقوم عليها حالة عدم الرضا عن السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، حيث يتلقى عمال الإغاثة في إيران العديد من الشكاوى من ضحايا الزلازل الإيرانيين الذي يؤكدون أن حكومتهم ستكون أسرع في إرسال الدعم إذا كان الزلزال في غزة أو جنوب لبنان، ففي أعقاب الهجمات الإسرائيلية على جنوب لبنان عرضت إيران المساعدة في تمويل وإعادة بناء جنوب لبنان الأمر الذي سبب في ظهور موجة استياء كبيرة داخل إيران، حيث يعلق أحد سكان العاصمة طهران على ذلك قائلاً: " نحن الإيرانيين نؤمن برأي وهو أن نوقر البيت الخاص وبعد ذلك نوقر المسجد"، الكثير من الناس يؤمن بهذا الرأي وهو أن الحكومة يجب أن تساعد مواطنيها أولاً وبعد ذلك تساعد الناس في لبنان.
إيران ترى بأنها مرتبطة بمعركة ضد الولايات المتحدة من أجل الزعامة الإقليمية، والتأثير في قلوب وعقول الشعوب العربية والإسلامية وفي إطار مواجهة الولايات المتحدة استهدفت إيران أيضًا الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة مثل مصر، الأردن، والمملكة العربية السعودية. وترى إيران أن هذه الحكومات "المخزية" تقوم بالتنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة لكن سكان هذه الدول ناضجون للاستخدام، في هذا السياق يقوم أحمدي نجاد بتوجيه الشجب والعداء لإسرائيل وذلك لجلب العار على الزعماء العرب الموالين لواشنطن وذلك من أجل إحراز نقاط سياسية على الشارع العربي والإسلامي الأمر الذي يجعل أحمدي نجاد نجمًا لامعًا في سماء بعض العواصم العربية مثل القاهرة وعمان ودمشق. ورغم أن مثل هذه الإستراتيجية قد تساهم في ارتفاع أسهم طهران في الوقت الحاضر فإن ثمة معوقات قد تقف في طريقها أهمها حقيقة أن إيران دولة شيعية فارسية، حيث تاريخ يمتد إلى 1400 سنة من العلاقات المعقدة بين العرب وإيران.
صنع الدعم للمشروع النووي:
نفس الأمر يمكن ملاحظته عند النظر للقضية النووية ففي أوائل عام 2006 قام المئات من تلميذات المدارس الإيرانيات بحضور اجتماع من تنظيم الحكومة وذلك لمساندة البرنامج النووي لإيران، وقامت التلميذات برفع الشعارات والإعلانات المكتوبة يدويًّا بالفارسية والإنجليزية وموجهة لوسائل الإعلام الخارجية تؤكد مساندة الشعب الإيراني للبرنامج النووي. في اليوم التالي نشرت صحيفة الفاينانشيال تايمز صورة صفحة أولى لفتاة إيرانية تحمل لافتة بعنوان " الطاقة النووية حقنا الواضح "، وكانت كلمة "نووية" مكتوبة بشكل خاطئ حيث حملت اللافتة عنوان "الطاقة غير الواضحة حقنا الواضح". هذه الحادثة بشكل من الأشكال تمثل بعض جهود الحكومة الجادة، لكنها خرقاء، لتسليط الضوء على أن المشروع النووي يلقى الدعم الشعبي الواسع داخل إيران، والسؤال هنا كيف يمكن لفتاة عمرها 14 عامًا أن تفهم معنى تخصيب اليورانيوم بشكل واضح، وقد علق على هذا مستشار رفسنجاني قائلاً: " إذا سألت إيرانيًّا هل تريد هذا الحق أم لا فإنه سيقول نعم، لكن إذا سألته ما الطاقة النووية فإنه لا يكون قادرًا على إخبارك ما هي ".
المهم أن طهران تؤكد للجمهور الإيراني أن هدف فرنسا، ألمانيا، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة ليست منع إيران من تخصيب اليورانيوم واستخدامه كسلاح نووي لكن لمنع إيران من الوصول إلى الطاقة النووية لكي تبقى متخلفة ومعتمدة على الغرب، وفي هذا الإطار يقول كبير المفاوضين الإيرانيين علي لاريجاني " يريد الغرب صنفين من الأمم: الدول التي تمتلك التكنولوجيا النووية ويمكنها أن تتقدم، ودول أخرى يقتصر إنتاجها على عصير الطماطم ومكيفات الهواء ".
حتى أولئك المتعاطفون مع مشروع إيران النووي والمنتقدين للولايات المتحدة يرون أن الحكومة تتلاعب بـ " الرأي العام "، حيث " تقمع الحكومة الرأي الشعبي بشكل ثابت، أما عندما يتعلق الأمر بالبرنامج النووي فإن الحكومة تتحدث باسم الناس " وفي حوار مع الفاينانشيال تايمز رفض نائب وزير الخارجية السابق عباس مليكي الفكرة التي تقول بأن البرنامج النووي يقاد بالمطلب الشعبي.
وتؤكد التقارير أن فرحة طهران الرسمية على الاختراق النووي والتي شاركها فيها قطاع كبير من المجتمع الإيراني لا يجب أن تؤخذ كدليل على أن الشعب الإيراني يشارك الحكومة في وجهة نظرها ولا يجب أن يكون ذريعة لاستخدام القوة ضد المواطنين الإيرانيين. لأن الرأي العام الإيراني لا يرى أن القضية النووية تمثل له مسألة حيوية لأنها لا يمكن أن تحل له مشاكله اليومية مثل البطالة، كما أن هذا المشروع لن يساعد على تحسين روابط إيران التجارية مع باقي دول العالم وتحسين أداء الاقتصاد.
كريستوفر دي بيلاجي المراسل الاقتصادي الذي قضى سنوات عديدة في طهران يؤكد هو الآخر أن هناك شكوك حول الدعم الإيراني الشعبي للمشروع النووي.
يقول كريستوفر دي بيلاجي " أن الإيرانيين يدعمون طموحات إيران النووية، يسعون أن يكونوا مؤيدين أقوياء للجمهورية الإسلامية وهم في الحقيقة أقلية، واليوم في إيران يهتم الناس بالقضايا الدنيوية التي تمس أمور حياتهم اليومية مثل أسعار المنتجات أو تغيير الشروط المطلوبة للخدمة العسكرية، ففي الأربع سنوات التي قضيتها في إيران لم أشاهد أبدًا مناقشة تلقائية حول البرنامج النووي بين طبقة الإيرانيين المتوسطين.
صحيح أن استطلاعات الرأي القليلة المدعومة من جانب المؤسسات الحكومية المحافظة تظهر وجود رأي عام قوي داعم أو مؤيد للبرنامج النووي الإيراني لكن ثمة أسباب عدة تدفع نحو إثارة الشكوك حول نتائج هذه الاستطلاعات أهمها: الانفصال الواضح بين المواطن الإيراني والقضايا السياسية، والغموض الكبير الذي يحيط بدورة الوقود النووي يضاف إلى ذلك سيطرة أجهزة الإعلام الإيرانية المحلية مباشرة على مناقشة وبحث هذا الموضوع.
قدمت الحكومة الإيرانية البرنامج النووي باعتباره مشروع وطني مدعوم من قبل كل إيراني وكقضية فخر وطني، الأمر الذي دفع المراسلين الأجانب الذين يزورون إيران إلى القول بأن كل الإيرانيين بغض النظر عن توجهاتهم السياسية متحدين وراء برنامج إيران النووي.
ويبدو الرأي العام في إيران أكثر تلونًا مما تسعى الحكومة الإيرانية إلى إقناع العالم به، فالكثير من الإيرانيين حتى غير المتعاطفين مع النظام الإيراني يؤيدون في بعض الأحيان طموحات إيران النووية وذلك لعدة أسباب أهمهما: أن إيران تحتاج إلى مصدر آخر بديل للطاقة بعد أن تنفذ مصادر النفط، أيضا لأن إيران تعيش في منطقة مضطربة يوجد بها العديد من الدول التي تمتلك السلاح النووي مثل الهند وباكستان وإسرائيل وهذا لا يلزم إيران أن تكتفي فقط ببرنامج نووي لتوليد الطاقة ولكن أيضًا بامتلاك السلاح النووي.
ورغم ذلك يبدي العديد من الإيرانيين القلق حول البرنامج النووي الإيراني خوفًا من جر إيران إلى مواجهة عسكرية، فما زالت آثار الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988) التي كانت إحدى أكثر الحروب دموية في النصف الثاني من القرن العشرين موجودة حتى الآن، حيث خلفت هذه الحرب حوالي 500000 إيراني بين قتيل وجريح ناهيك عن الآثار الاقتصادية الكارثية التي ما زال الاقتصاد الإيراني يعاني منها حتى الآن.
ثمة آراء داخل إيران ترى أن أسلوب التشدد والتصعيد الذي تتبناه الحكومة المتشددة الحالية بزعامة أحمدي نجاد كانت في صالح البرنامج النووي الإيراني، فما يحدث في العراق من عنف وإراقة دماء والارتفاع الكبير في أسعار النفط كل هذا دفع الغرب إلى التقارب مع إيران وتقديم (سلة الحوافز) إليها بالإضافة إلى عرض مشروط للحوار من جانب الولايات المتحدة مع إيران بينما أدت فكرة " حوار الحضارات " التي تبنتها الحكومة الإصلاحية بزعامة محمد خاتمي طوال الثماني سنوات التي قضتها في الحكم إلى وضع إيران ضمن دول " محور الشر ".
الثورة الشعبية: جسر بعيد جدًّا:
لهذا، إذا لم يستيقظ الإيرانيون كل صباح ليفكروا في تخصيب اليورانيوم أو مصير فلسطين في أي شيء يفكروا ؟ ولماذا؟ الجواب ببساطة يتعلق بالنواحي الاقتصادية، ففي الواقع معدل دخل الفرد في إيران اليوم يعادل نصف دخل الفرد فيما قبل سقوط الشاه، ويرى دي بيلاجي أن " أكثر الإيرانيين يفضلون الحديث عن أسعار الغذاء أكثر من البرنامج النووي، ويرون أن الوعود الثورية لحل المشكلات الاقتصادية لم تنفذ بشكل كبير".
إن التحدي الأساسي للنظام الإيراني على أية حال، لا يتمثل فقط في المشكلات الاقتصادية أو متوسط عمر الإيرانيين، ولكن الأكثر من هذا أن ثلثي عدد السكان في إيران دون الـ 32 سنة، وبالتالي فهم لم يعيشوا عصر القمع والفساد في عهد الشاه، ولذلك فليس لهم ولاء قوي للثورة أو الجمهورية الإسلامية، في بداية الثورة الإيرانية عام 1979 شجع الخميني أفراد الشعب على زيادة النسل من أجل إيجاد مجتمع إسلامي متين، وهو الأمر الذي أرهق النظام بشكل كبير في الفترة الحالية فأطفال الثورة يكافحون الآن من أجل دخول الجامعة والحصول على وظيفة مناسبة، كما أدت وسائل الاتصال الحديثة مثل الأقمار الصناعية والإنترنت إلى إطلاعهم على نظرائهم في باقي دول العالم وأصبحت لديهم الرغبة في الحصول على نفس الفرص والحريات.
ورغم أن كافة الشواهد تؤكد أن حالة السخط الشعبي في إيران أصبحت واسعة الانتشار وأن أغلبية الإيرانيين يتطلعون إلى إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة، إلا أنك عندما تسأل كيف ومتى يحدث هذا التغيير تجد مجموعة من الأفكار الخرسانية الجامدة المصحوبة بتمنيات بألا يصاحب هذا التغيير أي عنف أو إراقة دماء.
بعد القضاء على نظام طالبان في أفغانستان تعاطف بعض الإيرانيين مع فكرة التدخل الأمريكي في طهران ولكن بعد ثلاث سنوات من الاضطرابات وعدم الاستقرار في العراق المجاور، انخفضت وتيرة الحديث عن تغيير النظام في إيران وزادت الشكوك حول المخططات الأمريكية في المنطقة وبالرغم من أن السكان الإيرانيين يبقون جدليًّا أقل عداء للأمريكيين في منطقة الشرق الأوسط إلا أن الولايات المتحدة باحتلالها للعراق فقدت ميزة سياسية هامة في الشارع الإيراني.
العديد من الإيرانيين نظروا إلى المشروع الأمريكي في العراق على أنه لم يهدف إلى تحقيق الديمقراطية بقدر ما هو مشروع يسعى إلى السيطرة على النفط العراقي، ولهذا لا أحد في إيران الآن ينظر إلى العراق كنموذج للتغيير. وكما يقول أحد سكان العاصمة طهران "عندما ننظر إلى الوضع في العراق لا ننظر إليه على أنه خيار بين الديمقراطية والتسلط بقدر ما هو خيار بين الاستقرار والاضطراب، والإيرانيون سعداء ولكنهم لا يريدون أن يحدث هذا الأمر في بلدهم "، فقبل حرب العراق كان هناك أمل كبير لدى الإيرانيين في تغيير سريع وغير عنيف للنظام ولكن ما حدث في منطقة الشرق الأوسط من فوضى جعل معظم الإيرانيين حتى المعارضين للنظام يفضلون استمرار هذا النظام بدلاً من العيش في جو من عدم الاستقرار والاضطراب فهم يفضلون التعامل مع شيطان يعرفونه بدلاً من آخر لا يعرفوه.

بالرغم من حالة السخط الشعبي إلا أن الحقائق الموجودة على الأرض تؤكد أن فرص التغيير ليست كبيرة ولذلك لعدة أسباب أهمها أنه لا توجد قناة منظمة للتعبير عن حالة السخط الشعبي، كما لا توجد حركة معارضة موحدة يمكن الوثوق بها، وداخليا، حركة الإصلاح الموجودة في الداخل غير قادرة على اتخاذ إجراءات حاسمة، فهم لا يريدون مثلا السير في طريق المعارض أكبر كنجي الذي طالب بإجراء استفتاء على النظام، أضف إلى هذا أن هناك عدد قليل جدًّا من الناس قد تكون لديهم الرغبة في الخروج للشارع للاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية ما دام لديهم الحد الأدنى الذي يمكنهم من المعيشة، كما أن الدعم يأتي للنظام الإيراني من خلال 20 % من السكان هم قوات الجيش وبعض الفئات الأخرى التي يمكن الاعتماد عليهم في التصويت لصالح التيار المحافظ وهم طبقة البازار (رجال الأعمال أو التجار) ورجال الدين الذين يستثمرون بشكل جيد في ظل الوضع الراهن.

المشكلة هنا أنه ليس من الواضح هل ستظل الصلة مقطوعة بين الرأي العام في الداخل وبين السياسة الخارجية الإيرانية على المدى البعيد ففي الوقت الذي يسعى فيه الشاب الإيراني إلى تحقيق التكامل مع المجتمع الدولي يقوم الرئيس أحمدي نجاد بمزيد من التصرفات التي تزيد من العزلة الدولية على إيران، فمسألة السياسة الخارجية الإيرانية ليست مسألة الزبد والخبز ولكنها المشكلة أنه في ظل حاجة الداخل للأموال الإيرانية توجه هذه الأموال إلى دعم حزب الله وحركة حماس، أو توجه إلى البرنامج النووي الذي ما زالت فوائده مجهولة حتى الآن، ورغم كل هذا فإن مسألة العزلة المفروضة على الإيرانيين لم تدفع الشعب الإيراني للثورة حتى الآن.
مؤخرا تم الكشف عن وثيقة للخميني تعود إلى عام 1988 ، والتي يعترف فيها بمواصلة الحرب العراقية – الإيرانية لإزالة صدام حسين بالقوة، ولكن إرهاق الحرب للشعب الإيراني دفعته إلى تجرع "كأس السم" والموافقة على وقف إطلاق النار، وذلك بعد ثماني سنوات من الحرب بلغت فيها خسائر إيران حوالي 500000 إيراني بين قتيل وجريح. واليوم تواجه القيادة الإيرانية مجتمع ثوري مرهق وتدرك أنه لا يمكنها أن تطلب من الشعب تقديم المزيد من التضحيات وذلك للإبقاء على السياسة الخارجية المتحدية لإيران.

المصدر : مجلة الواشنطن الموسمية 2006/2007 بواسطة موقع ( نبأ ) الالكتروني

بحث سريع