الـمؤســسة الديــنية في إيــران

بواسطة | د. يحيى داود عباس*
2007/10/03
لم تكن اصطلاحات (المؤسسة الدينية) والهيئة الدينية و(الحوزات العلمية) و(الحزوة) وليدة الثورة الإسلامية التي قامت في إيران في 11/2/1979م، بل أن هذه الاصطلاحات ظهرت قبل اثورة، وفرضت نفسها على الساحة الإيرانية، بعد أن تبلور مفهوم التقليد، وأصبحت مرجعية التقليد قوة سياسية واجتماعية واقتصادية ذات حضور ملموس، وبعد أن توحد علماء الدين في صورة ظاهرة التقليد بعد وقوع غيبة الإمام (المهدي المنتظر) حتى أصبح كل فرد من عوام الشيعة مقلدًا لأحد الفقهاء الكبار (المراجع)، وساد اعتقاد بين العوام أن تدين الفرد لا قيمة له ما لم يكن مقلدًا لمرجع ما، وبذلك تمكن الفقهاء من إيجاد رباط قوي بين القيادة الدينية وجمهور الشيعة، واتضحت هذه الرابطة من خلال قيام جمهور الشيعة ـ عن طواعية ـ بدفع الزكاة والخمس للفقهاء باعتبارهم وكلاء الإمام خلال غيبته.
لقد كان علماء الدين طبقة مميزة في العصر الصفوي، وكانت أقوى طبقات المجتمع وأكثرها ثراء، وشهد العصر القاجاري (1795-1925م) ميلاد الدور السياسي الفعال للمؤسسة الدينية، حيث أظهر الشيخ مرتضى الأنصاري (1800-1791م) ـ الحوزة كمؤسسة باجتهاده وباعه الطويل في الفقه، وبعقليته التنظيمية المتفتحة، وكان له الفضل في التكثيف الفعلي للحوزة الدينية فكريًا وتنظيميًا، ولهذا فإنه يعتبر المرجع الأول للحوزة العلمية بصورتها الحالية، وهو الذي أفتى بعد أن أصبح مرجعًا أعظم بأن يوجه سهم الإمام في الزكاة وهو الخمس إلى إنشاء مراكز علمية محلية تتبع المركز الرئيسي في النجف، واهتم في مؤلفاته ودروسه بتأصيل مفهوم التقليد أو العلاقة بين الناس والمجتهد، والربط بين العلماء والجماهير على أساس ديني.
وبعد وفاة الشيخ الأنصاري خلفه الميرزا محمد حسن الشيرازي عام 1864م، والشيرازي يعد المرجع السياسي الأول في الحوزة، وهو صاحب أول انتصار سياسي للفقهاء، وهو الانتصار الذي تحقق بعد أن أصدر فتوى تحريم الدخان، وبأن امتياز الدخان في إيران الذي منحه ناصر الدين شاه لشركة بريطانية عام 1890 يخالف الشريعة، فألغى الشاه الامتياز في 15/5/1890م.
أما الانتصار الثاني للفقهاء فكان وجود مادة في دستور عام (1906م) كانت تنص على وجوب حضور خمسة من كبار علماء المذهب الشيعي ـ على الأقل ـ في البرلمان الملكي لبحث مدى تطابق القوانين الصادرة من البرلمان مع الشريعة الإسلامية أو عدم تطابقها. ثم يأتي تحالف آية اللَّـه الكاشاني مع مصدق، ودوره في تأميم صناعة البترول في إيران في 20/3/1951م.
إلى أن ظهر الخميني في بداية الستينيات. وبدأ مواجهته الصريحة للشاه محمد رضا بهلوي من داخل حوزة قم العلمية التي أحالها الخميني إلى خلية ثورية ملتهبة. ولما وجد الشاه أن الخميني نجح في تفجير سخط الجماهير على نظامه، سجنه ثم أفرج عنه ونفاه إلى تركيا في نوفمبر عام 1964م. وفي أكتوبر عام 1965م غادر الخميني تركيا وتوجه إلى العراق، وفي العراق طرح قضية ولاية الفقيه من خلال محاضراته في حوزة النجف الأشرف في الفترة من 13 ذي القعدة إلى أول ذي الحجة عام 1389هـ. ق (1965م)، وكان حديثه يدور حول اضطلاع الفقهاء بتشكيل الحكومة الإسلامية، وفي أكتوبر عام 1978م غادر العراق وتوجه إلى فرنسا.
وكانت البيانات التي يرسلها الخميني من منفاه تشتمل على موضوعات يدعو فيها إلى إسقاط نظام الشاه. وكان يؤكد في بياناته دائمًا على أن حوزة قم العلمية هي التي ستحيي الإسلامي وإيران. وكان طلاب الحوزة يستمعون طوال خمسة عشر عامًا إلى خطبه وتعليماته التي كانت تصل إليهم تباعًا خلال شرائط (الكاسيت).
وكان للمؤسسة الدينية في إيران قبل الثورة الإسلامية وجود متميز ومستقل، وكانت لها سمات حافظت عليها منذ نشأتها، مما جعلها قادرة على إفراز قيادات سياسية تستقطب الجماهير خارجها من ناحية، وتربي قيادات جديدة تدفع إلى الساحة عندما يجد الجد من ناحية أخرى. واستغلال المؤسسة الدينية حولها إلى قوة لها وزنها، فالمرجع الذي صار تقليده وجوبيًا عند الشيعة الإثنى عشرية، أصبح دولة داخل الدولة، فعنده تصب أموال الزكاة والخمس التي يخرجها المقلد عن ماله كل عام، مما جعله يشكل كيانًا ماديًا ومعنويًا مستقلا، بل يسميه البعض مركزية أو سلطة روحية ومالية. وهذا الاستقلال هو الذي ساعد على قيام الثورة الإسلامية في إيران، وقد حافظت الحوزات على استقلالها سنوات طويلة، وكانت أشبه بقلاع حصينة قاومت العديد من الضغوط التي مارستها الحكومات المتعاقبة عليها. ودافعت عن هذا الاستقلال.
وهذا الاستقلال نوعان: استقلال ثقافي، بعمنى أن الحوزات العلمية في إيران حافظت في العهد البهلوي على حياتها المستقلة ونظامها التعليمي المستقل وبرامجها الدراسية المستقلة. كما حافظت على شكلها الظاهري، وحافظ الطلاب والأساتذة على زيهم المستقل.
واستقلال اقتصادي، حيث لم يكن للحوزات العلمية أية صلة اقتصادية بالحكومات قبل الثورة، مما جعلها بعيدة عن سيطرة الحكومات وهيمنتها، وأدى إلى إطلاق يدها وتحريرها من قيود هذه الحكومات، على الرغم من أن هذه الحكومات حاولت مد هذه الحوزات بالأموال لربطها بها، لكنها فشلت، وأن رضا شاه قلص عدد المدارس الدينية إلى حد كبير، واتخذ إجراءات قلصت نفوذ علماء الدين في مجال التعليم والقضاء وأن ابنه محمد رضا شاه فرض سيطرة أقوى للدولة على أراضي الوقف وموارد المؤسسة الدينية بإنشاء مؤسسة خاصة للأوقاف.
وبالإمكانيات الاقتصادية الضخمة، وبالأموال الطائلة التي كانت تقدم إلى مراجع التقليد في شكل خمس أو زكاة، استطاع علماء الدين في إيران إدارة الحوزات التي كانت ولازالت تضم عشرات الآلاف من الطلبة والوعاظ والخطباء وأئمة الجماعة والمدرسين والفقهاء، وكان طلاب هذه الحوزات يحصلون على رواتب شهرية من الأموال التي تقدم للمراجع. وكانت المساجد في إيران مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بقمة المؤسسة الدينية ماديًا ومعنويًا.
هذا فضلاً عن العلاقة الوثيقة بين التجار وبين المؤسسة الدينية. إذ ظل هذا القطاع العريض من التجار الكبار والصغار والحرفيين هو الممول الأساسي للمؤسسة الدينية. أي أن البازار (السوق) ألقى بثقله في كفة المؤسسة الدينية: مما كان أحد الأسباب التي أدت إلى تقوية معسكر الثورة، وزلزلة النظام الملكي، ثم، إلى نجاح الثورة.
ويضيف البعض عاملاً آخر وهو أن رجال الدين كانوا ينتمون طوال القرون الأخيرة إلى الطبقة الإقطاعية وكبار ملاك الأراضي، وكان معظمهم على اتصال وثيق بالسوق وبالرأسماليين الفرس، منذ ظهورهم.
والمؤسسة الدينية تضم إلى جانب الحوزات العلمية الدينية المراكز الدينية مثل: العتبات المقدسة والأضرحة والمزارات والمساجد ودور النشر التابعة للحوزات العلمية، بالإضافة إلى مراجع التقليد والقضاء والتكايا والحسينيات والأوقاف والخمس والتعليم الديني. وكما هو معلوم فإن الأضرحة والمزارات الدينية الخاصة بالأئمة وأبنائهم تحظى بمكانة روحية مهمة عند الشيعة بصفة عامة وفي إيران بصفة خاصة، وأهم هذه الأضرحة والمزارات في إيران: ضريح الإمام على الرضا (الإمام الثامن للشيعة الإثنا عشرية) في مشهد، وضريح السيدة فاطمة المعصومة (فاضمة بنت موسى ابن جعفر الصادق ـ أخت الإمام الرضا) وضريح شاه جراغ (أحمد ابن الإمام موسى بن جعفر) في شيراز.
ولهذه الأضرحة دور اجتماعي بارز في إيرانٍ، وهي من القواعد التقليدية للمؤسسة الدينية وتلعب دورًا مهما في تعميق التلاحم بين علماء الدين والجماهير، هذا فضلا عن المؤسسات الخيرية التابعة لهذه الأضرحة، والتي تؤدي خدمات جليلة للمواطنين في مجالات متعددة. وكان أبناء الشعب يلتحقون بالمكتب الديني (يسمى الكُتّاب في مصر) لحفظ القرآن والتعليم والإلمام بأحكام الشريعة الإسلامية، كما كان المسجد من المراكز الهامة للتعليم وحفظ القرآن الكريم والأحاديث، ولهذا كان قطاع التعليم أحد العوامل التي شكلت قوة المؤسسة الدينية، إلا أن رضا شاه (1925-1941ا)، قلص نفوذ علماء الدين في التعليم لاهتمامه بفرنجة التعليم. وكانت التكايا والحسينيات من المراكز التي لعبت دورًا اجتماعيًا بارزًا، حيث كانت تلقى فيها المحاضرات الدينية، ويتم فيها إحياء المراسم الدينية المختلفة، كما هيمنت المؤسسة الدينية على القضاء، حيث كان القضاة في المحاكم من علماء الدين الذين يتم تعيينهم كقضاة شرعيين، وقلص رضا شاه هذه الهيمنة أيضًا، كما قلص ظاهرة الاحتماء بالأضرحة ومنازل علماء الدين، حيث كان المظلومون يلجأون إلى الأضرحة ومنازل علماء الدين لما لها من حرمة تحول دون وصول يد السلطة إليهم، وذلك حتى يتضح موقفهم ويرفع الظلم عنهم.
والحوزة في اللغة العربية هي: الناحية والجانب، وحاوزه أي خالطه، والمحاوزة المخالطة، وحوزة الملك: بيضته، وحوزة الإسلام: حدوده ونواحيه. وإذا كانت الحوزة ـ وهي تسمية عربية كما رأينا ـ يمكن أن تخصص لمختلف أوجه النشاط الإنساني، إلا أن الكلمة ارتبطت في لغة الخطاب الشيعي بتلقي العلم، حتى بات مفهومًا ـ تلقائيًا ـ أن الحوزة لابد أن تكون علمية، بل أن كلمة الحوزة ذاتها باتت محملة في التداول بذلك المعنى دون غيره، حتى شاع استخدامها وحدها، دون تخصيص، وصارت الكلمة تغني عن الاثنين، وتؤدي وظيفتهما معًا.
وإذا كانت الحوزات العلمية منتشرة في جميع أنحاء إيران فإن حوزة قم العلمية هي المركز الأم لجميع الحوزات العلمية الدينية في إيران. واصطلاح (الحوزة العلمية) أو (الحوزة) ينصرف إلى: معهد علمي ديني واحد أو إلى مدينة قم بأسرها لكونها ساحة لتلقي العلم في العديد من المدارس الدينية، أو إلى الحوزات العلمية المتناثرة في جميع أنحاء إيران.
والحوزة عبارة عن مؤسسة اجتماعية قائمة على مجموعة من النظم والروابط والضوابط الاجتماعية الخاصة التي تحكم علماء الدين في كل عصر، وتساعدهم على أداء دورهم في المجتمع، ولكل فرد في هذه الهيئة لقب مخصوص ومهمة محددة، على هذا النحو:
1- الطالب: وهو الشاب الذي يلتحق بالحوزات العلمية لتحصيل العلوم الدينية والمعارف الإسلامية، ومن أجل التهذيب النفسي.
2- الخطيب والواعظ: ووظيفته تعريف الناس بالأحكام الدينية، والقضايا الاجتماعية، ومناقب ومصائب عظماء الدين الإسلامي، وذلك عن طريق الخطابة والوعظ.
3- إمام الجماعة: وهو الذي يقيم صلاة الجماعة في المساجد، وبعد المرجع في حل المشكلات الدينية والاجتماعية لأهل منطقته.
4- مدرس العلوم الدينية: وهوا لذي يقوم بتدريس اللغة العربية والمنطق والفلسفة والمنطق والفقه والأصول والتفسير وغيرها من المواد الدراسية في الحوزات العلمية.
5- الفيه والمجتهد: وهو الشخص الذي يصل إلى مرحلة الاجتهاد بعد انتهاء سنوات الدراسة وتحصيل العلم والبحث والتدقيق في المسائل الدينية، ويستطيع استنباط أحكام الإسلام في القضايا الحديثة طبقًا للمبادئ والأصول الإسلامية.
6- مرجع التقليد: وهو الفقيه الذي يصل إلى أعلى درجات العلم والعدالة، فيصبح قادرًا على إصدار الفتاوى، ويتبعه الناس ويقلدونه. ومما يذكر أن قائد المجتمع ومرشده في الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعين من بين مراجع التقليد.
مراحل التعليم في الحوزات العلمية:
من يرغب في الالتحاق بالحوزة العلمية والانخراط في سلك طلاب العلوم الدينية، ينبغي أن يكون مجيدًا للقراءة والكتابة باللغة الفارسية، وأن يكون قد حصل على الشهادة الابتدائية على الأقل. وإن كان هذا لا يمنع من أن يلتحق بهذه الحوزات من يحمل شهادة الدبلوم أو الليسانس. وينبغي أن يمر طالب العلوم الدينية بثلاث مراحل دراسية رئيسية، حتى يمكنه الوصول إلى درجة الاجتهاد، وهذه المراحل هي:
1- المرحلة التمهيدية (دوره مقدماتي):
وتبدأ هذه المرحلة بدراسة كتاب (جامع المقدمات)، وهو عبارة عن أربعة عشر كتابًا باللغتين: الفارسية والعربية عن الصرف والنحو والمنطق وأسلوب القراءة والتدريب على الصيغ الصرفية الصعبة. ثم يدرس الطلاب بعد ذلك كتبًا أكثر تفصيلاً في النحو والصرف، حتى يتمكنوا في المستقبل من دراسة الأدب العربي، وفهم واستيعاب نصوص الأخبار والأحاديث وكتب الفقه والأصول والتفسير، وحتى تكون لديهم القدرة على الاستنباط، ومن هذه الكتب: شرح ألفية ابن مالك لجلال الدين السيوطي الذي يحفظون أشعارها في العادة، وشرح ابن عقيل، وغيرها من الكتب، مثل مغني اللبيب هشام. وفي نهاية هذه المرحلة يدرس الطلاب كتبًا مبسطة في علم أصول الفقه.
2- مرحلة المستوى (دوره سطح):
بعد أن يجتاز طالب العلوم الدينية الإسلامية المرحلة التمهيدية بنجاح، ينتقل إلى مرحلة المستوى، والمقصود من المستوى: القراءة والتعلم من الكتب. ويدرس الطالب في هذه المرحلة: الفقه وأصول الفلسفة من المتون الأصولية والفقهية والفلسفية. ومن كتب الفقه والأصول التي تدرس منذ سنوات طويلة في هذه المرحلة: شرح اللمعة للشهيد الثاني (جزآن)، وكتاب القوانين لميرزا القمي، وكتاب المكاسب، وكتاب الرسائل والفرائد للشيخ مرتضى الأنصاري. وكفاية الأصول لملا محمد كاظم الخراساني في أصول الفقه الاستدلالي.
3- مرحلة الدراسات الحرة (دوره خارج):
الهدف من هذه المرحلة النهائية هو البحث في المسائل المتعلقة بالفقه وألأصول خارج نصوص الكتب وبعيدًا عن متونها. بمعنى أن الطالب بعد أن يفرغ من مرحلتي التلقي (التمهيدية والمستوى)، وبعد تبحره في الفقه والأصول والفلسفة والأخبار والأحاديث، يمكنه حضور جلسات الدرس التي يعقدها الأساتذة الكبار المتمرسين، ويسمح له أستاذه بأن يشارك في مناقشة الموضوع المطروح، وأن يدلي برأيه فيه بحرية تامة. كما يسمح الأستاذ بأن يناقش الطالب زميله في موضوع البحث. والهدف من هذه المحاولات وهذه المناقشات هو تقوية الأسس الفكرية والاستدلال، وتنمية القدرة على استنباط الأحكام بالأسلوب الصحيح. وهذه المرحلة تؤهل الطالب لكي يضع قدمه على أبواب مرحلة الاجتهاد. وهو شيء أشبه بمرحلة الدراسات العليا في الجامعات العادية، وتعقد جلسات هذا الدرس في صحف المسجد الأعظم.
أما درجة الاجتهاد، فهي مسألة مرهونة بمدى استعداد الدارس، وبرأى أستاذه فيه، وبتاريخ سماح هذا الأستاذ له بالتدريس والتوجيه والإرشاد. وبالجديد الذي أضافه في الرسالة العلمية التي أعدها.
وجدير بالذكر أن الطالب له مطلق الحرية في اختيار أستاذه، وأن طالب الحوزة يعفى من أداء الخدمة العسكرية، وأن الطلاب في الحوزات العلمية يولون علم الاجتماع وعلم النفس واللغات الأجنبية والإعلام اهتمامًا كبيرًا في أيامنا هذه.
والدارس في كل مرحلة يعطى لقبًا علميًا، يرفع كلما تدرج في السلم التعليمي، حتى يبلغ ذروته. فطالب المرحلة الأولى يطلق عليه لقب طالب أو مبتدئ، فإذا ما انتقل إلى المرحلة الثانية، يمنح لقب (ثقة الإسلام)، وإذا اجتاز المرحلة الثالثة، يصبح (حجة الإسلام). وإذا أجيز للاجتهاد، فإنه يحمل لقب (آية اللَّـه)، وإذا بدأ يمارس عملية الاجتهاد في حلقات الدرس، ويؤسس قاعدة شعبية له في الحوزة، أي قبل أن يقبل عليه المقلدون. فإنه يصبح (آية اللَّـه العظمى). أم اإذا اتسعت دائرة مقلديه، وثبت قواعده، بسلوكه وعلمه، بين جماهير الشيعة، فإنه يصبح (مرجعًا للتقليد)، وإن ظل محتفظًا بلقب آية اللَّـه العظمى.
وكان الخميني ربيب هذه الحوزات العلمية الدينية، فبعد أن تعلم القراءة والكتابة والخط والنحو والصرف في مسقط رأسه: (خمين) ـ نزح إلى مدينة (أراك) التي كانت تضم حوزة علمية اشتهرت بأساتذتها وشيوخها الأجلاء، وعلى رأسهم الشيخ عبد الكريم الحانري اليزدي، الذي انتقل معه الخميني إلى مدينة (قم). والذي أسس حوزة قم العلمية. ولما مات أخذ الخميني مكانه ضمن مدرسي الحوزة. وكان الخميني يدرس الفلسفة والأخلاق لطلاب المدرسة الفيضية ـ أشهر وأبرز مدارس حوزة قم العلمية ـ ثم وسع من نطاق دروسه حتى شملت الفقه والأصول، وتدرج في السلك التدريسي حتى أصبح يلقي دروس (الخارج).
والخميني رأى قديم ذكره في كتابه: (كشف الأسرار) الذي ألفه في الأربعينيات، يرى فيه أن المهمة الرئيسية لعلماء الدين هي تشكيل الحوزات العلمية وإنشاء مدارس وكليات العلوم الدينية، وأن أهم فئة من فئات هؤلاء العلماء هي: مدرسو العلوم الدينية النهائية، الذين يشكلون حوزات العلوم العليا، ويقومون بتدريس (الخارج) أو العلم النهائي. ولديهم الاستعداد الذاتي والذوق الفطري وقوة البيان والقدرة على توصيل الموضوعات الدقيقة إلى الطلاب، وهم قلة، لأن الوصول إلى هذه المكانة ليس في استطاعة أي شخص، فالفقه ـ الذي يعد أحد علوم الاجتهاد ـ بحر لا نهاية له.
حوزة قم العلمية:
أسس حوزة قم العلمية آية اللَّـه الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (1276-1355هـ) الذي نزح من مدينة يزد إلى مدينة أراك في عام 1316هـ وأقام في هذه المدينة عدة سنوات. انتقل بعدها إلى مدينة قم التي وضع فيها حجر أساس الحائري انتقلوا معه من أراك، وكان الخميني من بين هؤلاء التلاميذ.
والحوزة هي المكان الذي تتجمع فيه مجموعة من المدارس، ومن أشهر مدارس حوزة قم العلمية: المردسة الفيضية، التي كان الخميني يلقي فيها دروسه، وبدأت فيها مواجهته للشاه في عام 1962م، ومدرسة دار الشفاء، التي أقام فيها الخميني بعد نزوحه من أراك مع أستاذه الشيخ الحائري، وتتركز مدارس الحوزة العلمية في قم القديمة، حيث تتوزع على العديد من الأبنية العريقة ذات السقوف العالية والجدران السميكة التي تحتوي على خزانات الثياب والكتب. ووصل عدد تلك المدارس إلى (60). بزيادة (20) مدرسة أقيمت على الطراز الحديث بعد الثورة. وكانت الدراسة في الحوزة العلمية مقصورة على الشباب دون الفتيات. وفي السنوات الأخيرة دخلت الفتيات الميدان وصارت لهن عشر مدارس. كما أنشئت جامعة الزهراء في مدينة قم، وقبلت الجامعة أول دفعة من الفتيات في عام 1986م، وهكذا وضعت اللبنة لحوزة النساء والمساجد هي مقر الدراسة، والمدارس هي مقر الإقامة والمذاكرة. والمدارس مفتوحة لأي طالب علم من الشيعة، والسنة ليسوا ممنوعين من الالتحاق بها. وقد أنشئ في قم مركز دولي للعلوم الإسلامية، ومراحل الدراسة في هذا المركز هي: المقدمات ـ الخارج ـ السطح العالية.
وبعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران بات للحوزة من خلال علماء الدين موقع ودور في الإدارة وفي مؤسسات الدولة والجيش والأجهزة الأمنية المختلفة.
وقد ارتبط اسم "قم" تاريخيًا ـ ولا يزال كذلك ـ لعلماء الدين وبحوزتها الدينية العلمية الشهيرة التي هي الآن حوزة الشيعة الأولى في العالم من حيث أهميتها وكثافة علماء الدين والمجتهدين والطلاب، وذلك بعد أن كانت حوزة النجف في العالم من حيث أهميتها وكثافة علماء الدين والمجتهدين والطلاب، وذلك بعد أن كانت حوزة النجف في العراق هي الحوزة المحورية. ولعل تراجع أهمية حوزة النجف، وانتقال مركز الثقل في قيادة المذهب الشيعي من النجف إلى قم راجع إلى قيام حزب البعث في العراق بتقليص دور المؤسسة الدينية الشيعية بصفة عام ودور حوزة النجف صفة خاصة، فضلاً عن أن نجاح الثورة الإسلامية في إيران في 11/2/1979م صب في مصلحة حوزة قم. وإذا كانت مدبنة فم فد اكتيلت مكانة رفيعة ومتميزة بسبب موقعها الجغرافي الفريد على مفترق الطرق الرئيسية التي تربط شمال إيران بجنوبها وبسبب كثرة المدارس الدينية (يود في قم 30% من عدد المدارس والحوزات العلمية في إيران) وبسبب توافد الزائرين من الشيعة لزيارة ضريح السيدة فاطمة المعصومة وبسبب توافق الدارسين من داخل إيران وخارجها هذا التوافد الذي كان سببًا في انتعاش المدينة وإنشاء عدد كبير من المطاعم والفنادق والمكتبات والأسواق لخدمة الزوار والطلاب وتلبية احتياجاتهم فإنها تعيش الآن عصرها الذهبي، بعد قيام الثورة الإسلامية.
وتصدر في حوزة قم العلمية أكثر من (60) جريدة ومجلة، مثل:
انتخاب (الاختيار) بكاه حوزة (فجحر الحوزة) ـ باسدار إسلام (حارس الإسلام) ـ سلام بجه ها السلام عليكم يا أطفال ـ بيام زن (رسالة المرأة) بيام حوزه (رسالة الحوزة) ـ الفقه ـ البينات ـ البشرى ـ وغيرها.
كما يتداول في الحوزة ما تصدره دار نشر مؤسسة: (في طريق الحق) التي يرأسها آية اللَّـه مصباح يزدي من كتب ومجلات، وما تصدره دار القرآن الكريم.
ودور النشر التابعة لمكتب آية اللَّـه السيستاني. ومكتب المنشورات الإسلامية.
ومن الكتب التي تناولت تطورات حوزة قم العلمية بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران الكتاب الذي شارك في تأليفه السيد عباس زارع والسيد الدكتور علي شيرخاني بتكليف من مركز وثائق الثورة الإسلامية، وعنوان الكتاب هو: "تحولات حوزة علمية قم بس إز بيروزي انقلاب إسلامي"، أي (تطورات حوزة قم العلمية بعد انتصار الثورة الإسلامية)، وهو عبارة عن مقدمة و خمسة فصول، أما المقدمة التي كتبها مركز وثائق الثورة الإسلامية فهي تطرح سؤالين: الأول: إلى أي حد كيفت حوزة قم العلمية نفسها مع الوضع الحالي؟. والثاني: هل حسنت التطورات التي طرأت على الحوزة العلمية بعد نجاح الثورة الإسلامية والنشاط والأداء في الحوزة؟؟. وقد خصص المؤلفان الفصل الأول للإطار النظري للبحث، والفصل الثاني عبارة عن نظرة عابرة على تاريخ حوزة قم العلمية، والتطورات التي طرأت على الحوزة منذ آية اللَّـه الحائري اليزدي حتى مرحلة ما بعد وفاة آية اللَّـه البروجردي". أما الفصل الثالث فيستعرض التنظيمات الهيكلية والإدارية للحوزة، ويقدم معلومات إضافية عن مجلس الإدارة ـ البرامج الدارسية ـ الميزانية ـ مراجع التقليد ـ العلماء والمدرسون والطلاب ـ الدعاية والإعلام ـ الأمور الصحية والعلاجية ـ مركز الخدمات ـ صندوق الإمام الخميني للقرض الحسن ـ مدارس الحوزة ـ مدارس الفتيات ـ جامعة الزهراء ـ المركز العالمي للعلوم الإسلامية. ويتحدث الفصل الرابع عن التطورات التعليمية والبحثية في الحوزة ـ أساليب التعليم ـ المراحل الدراسية ـ أسلوب التعليم والتحصيل في مستوى المقدمات والسطح من حيث الشكل والمضمون. ثم يعدد الكتابٍ منشورات الحوزة والمؤسسات البحثية الحديثة.
ويشير الكتاب إلى أن محور السياسة الثقافية للحوزة قائم على ثلاثة مبادئ: 1- أسلمة المراكز الثقافية وبخاصة الجامعات. 2- السيطرة على الإنتاج الثقافي: الأفلام ـ الكتب ـ الصحف والمجلات ـ مساندة إقرار قانون منع الأقمار الصناعية ـ وقانون منع استخدام الكلمات الأجنبية ـ فلترة (تنقية وتحجيم) مواقع الإنترنت ـ وقانون محاكمة الصحفيين ورؤساء التحرير ـ اختيار ممثل الحوزة في الإشراف على الصحف وعضوية مؤسسة نيابة الولي الفقيه في الجامعات.
ثم يشير الكتاب إلى الأنشطة الثقافية للحوزة، وهي: العودة إلى الإسلام الأصيل ـ التأكيد على هوية المسلم الإيراني ـ توفير جزء من الأنشطة الحديثة، مثل: التربية والتعليم وقطاع القضاء وبخاصة في مجال الحقوق المدنية والجزائية وقطاع الإعلام والاتصالات. أما الأنشطة الاجتماعية للحوزة فهي تخريج مجتهدين ومقلدين جدد، وتعليم عموم الدين عن طريق التبليغ والوعظ والخطابة، وتأدية المناسب الدينية، إقامة صلاة الجماعة وإقامة مراسم الموتى ومجالس الدعاء، وحث المواطنين على القيام بالأعمال الخيرية وعلى التضامن والوفاق الاجتماعي. أما التواجد الجاد على مستوى الجماعات السياسية والدفاع عن النظام الديني من الداخل ومساندة مطالب الجماهير والتعبئة الاجتماعية ومراقبة النخبة السياسية، وعن الأنشطة الاقتصادية ذكر الكتاب أنها:
جذب المصادر المالية ومنها: الخمس والزكاة وغيرها من الأموال الشرعية وتوزيعها ـ بالطبع ـ داخل الحوزة العلمية وداخل طبقات المجتمع التقليدية.
وفي نهاية الفصل الرابع يذكر المؤلفان أن المشكلات الموجودة في نظام الحوزات حثت مديري الحوزة وبخاصة بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية على السير في طريق الربط بين النظام التعليمي واحتياجات النظام الإسلامي عن طريق إصلاح النظام التعليمي والبحثي وإحلال نصوص جديدة بدلاً من النصوص القديمة وإنشاء فروع ومراكز متخصصة جديدة.
أما الفصل الخامس فهو عبارة عن ملاحق: وثائق وقوائم خاصة بمجلس إدارية الحوزة ولائحة الحوزة وضوابط منح الرواتب الشهرية والمدرسين وموضوعات التدريس وعدد الطلاب في الفصول المختلةف في علوم الفقه والتفسير والأصول والمكاسب، وغيرها من العلوم. ثم إحصائية بعدد المدارس والحوزات العلمية في إيران، وتشير هذه الإحصائية إلى وجود أكثر من 30% من هذه المدارس في مدينة قم، ووجود (40) مدرسة في خراسان، ووجود (40) مدرسة خارج غطاء إدارة الحوزة العلمية، ثم قوائم بالبرامج الدراسية للطلاب والطالبات، وقائمة بالمؤسسات والمراكز التعليمية والبحثية في قم.
الحوزة والجامعة:
أدرك الخميني أهمية وحدة طلاب الحوزة والجامعة، وأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الوحدة في خدمة المجتمع، فنادى منذ عام (1977م) بضرورة الاتحاد بين هذين الطبقتين، ودعاهما إلى التعاون فيما بينهما، وكان يحذر دائمًا من التفريق بين طلبة العلوم الدينية وطلاب المدارس والجامعات، لدرجة أن شعار: وحدة عالم الدين والطالب وشعار: وحدة الفيضية والجامعة أصبحا من الشعارات الرئيسية للثورة. وتم اختيار يوم (27 آذر)، وأطلق عليه اسم: يوم الحوزة والجامعة أو يوم علماء الدين والطلاب.
ويعقد في إيران مؤتمر يستغرق يومين في كل عام بهذه المناسبة لمناقشة واقتراح الحلول للمشاكل التي تطرأ على ساحة التعاون بين الحوزة والجامعة وفي المؤتمر الذي عقد في (18.17 ديسمبر عام 1994م)، وهوا لمؤتمر السابع، دعا رئيس الجمهورية (هاشمي رفسنجاني) إلى المزيد من التعاون بين الحوزة والجامعة من أجل التنمية الوطنية. كما أن المؤتمر طالب في بيانه الختامي بضرورة إنشاء أمانة علمية دائمة للوحدة بين الحوزة والجامعة، كما تم إنشاء مكتب باسم: مكتب تنسيق التعاون بين الحوزة والجامعة، وهو المكتب الذي أنشأه ويديره آية اللَّـه مصباح يزدي".
ويشير آية اله خامنئي ـ مرشد الثورة ـ إلى كيفية التعاون بين الحوزة والجامعة، ويقول: إن هذا التعاون يتم عن طريق: تبادل الطلاب بين الحوزة والجامعة، وتواجد علماء الدين في الجامعات، وعقد جلسات فكرية مشتركة لتحقيق أهداف الوحدة بين الحوزة والجامعة. وبعد أن أشار إلى دور هاتين المؤسستين العلميتين في المجتمع أضاف قائلا: إن هاتين المؤسستين يكمل أحدهما الآخر عن طريق تبادل الأساليب.
الدور المنوط بالحوزة بعد قيام الثورة الإسلامية:
مما لا شك فيه أن الحوزات العلمية بوجه عام وحوزة قم العلمية بوجه خاص تمر الآن بأزهى عصورها، خاصة وأنها لعبت دورًا بارزًا في نجاح الثورة الإسلامية في إيران، ومن يقرأ ما قاله آلة اللَّـه خامنئي ـ مرشد الثورة ـ في بداية درس الخارد في الفقه، يستشعر الدور المنوط بهذه الحوزات، وهو الدور الذي يجب أن تؤديه هذه الحوزات في المجتمع الإيراني، يقول: (يجب أن تستفيد هذه الحوزات من إمكاناتها على أفضل وجه، من أجل تلبية احتياجات الإسلام والحكومة الإسلامية الضرورية على المستويات المختلفة. إن مجتمعنا اليوم مجتمع ديني ومتدين. وهو في حاجة إلى وجود علماء مسلمين يدرسون الأخلاق والمعارف. وبناء على هذا فإن مجتمعنا يحتاج ـ في ظل الظروف الحالية ـ إلى علماء يستطيعون درء شبهات المثقفين وشباب أهل الفكر في الأبواب المختلفة، ويجيبون على أسئلة المواطنين الدينية، ومسئولية الحوزات العلمية لها أهميتها البالغة في هذا المجال).
وخامنئي يطالب بزيادة عدد العلماء المجتهدين والمدرسين والباحثين في الحوزات، كما يطالب بعدم بقاء طالب الحوزة العلمية أكثر من خمس سنوات دراسية في الحوزة، طالما أنه قادر على أداء دوره المنوط به في المجتمع بعد انقضاء هذه المدة. وهو يوجه عناية الحوزات العلمية إلى ضرورة تلبية حاجة المجتمع إلى عملاء الدين وأئمة الجماعات في المساجد.
وعما يجب أن تتميز به الحوزات العلمية في عصرنا الحالي، لكي تكون قادرة على أداء دورها الإنساني والإسلامي، يقول خامنئي: (نظرًا لأن الفقه هو المحور الرئيسي لنشاط الحوزات العلمية، لهذا يجب أن يتسع نطاق هذا الفقه ليشمل المجالات الحديثة الظهور (المستحدثة)، كما أن نظام الحوزة يجب أن يدرأ الشبهات بالإبداع والخلق في المباحث الكلامية والفلسفية، وكذلك يجب أن تتجلى في الحوزة شجاعة طرح هذه المباحثات).
وقال هاشمي رفسنجاني ـ رئيس الجمهورية الأسبق ـ موجهًا حديثه إلى طلاب وأساتذة الحوزات العلمية في الاحتفال بذكرى مرور قرنين على مولد الشيخ مرتضى الأنصاري: (يجب أن تكون حوزتنا مركزًا لحرية الطبع وسعة الصدر والرؤية المتفتحة في التعامل مع الأفكار والمعتقدات. إن الصدور الضيقة والأفكار المحدودة والوقوف في وجه إبداعات القوى الجديدة المتنامية هي أسوأ آفة تواجه تقدم علم المجتمع وحضارته ونموه ورقيه).
وعن الكتب الدراسية المقررة في الحوزة يقول هاشمي رفسنجاني: (ينبغي تغيير أسلوب تأليف الكتب الدراسية في الحوزة، كما ينبغي أخذ التغييرات والتطورات التي طرأت على الأدب العربي في الاعتبار).
هذا وقد صدر في صيف عام 1995م العدد الأول من مجلة: انديشه حوزه (فكر الحوزة)، وهي مجلة فصلية سياسية اجتماعية ثقافية، تصدرها جامعة العلوم الرضوية بجامعة مشهد. وقد اشتمل هذا العدد على مقالات في الفقه والسياسة والعلوم القرآنية والثقافة والأدب والأديان والفلسفة، وتقارير عن بعض الكتب، كما أن جريدة (جمهري إسلامي) تهتم بنشر تاريخ الحوزة في باب خاص يحمل عنوان: تاريخ الحوزة.
ومما لا شك فيه أن قيام الثورة الإسلامية في إيران كان له أثره الكبير في تطوير الحوزات الدينية، وتطوير المقررات والمناهج الدراسية فيها، وتنظيم المراحل الدراسية لطلاب الحوزات، وتنويع الموضوعات والقضايا، وإدخال تعديلات إدارية في نظام هذه الحوزات، والربط بين الحوزات الدينية والجامعات، وتحسين الظروف المعيشية للطلاب.
كما لا ننسى أن الثورة أضافت الفكر الثوري إلى هذه الحوزات، وهذا كله منح الحوزات الدينية وضعًا متميزًا.
وكان للخميني الفضل في حدوث هذا التطوير الملحوظ، وأكمل خاضعة آي مسيرة التطوير من بعده، وفي المقابل، كان للحوزات تأثيرها في نجاح الثورة الإسلامية، وإدارة مراحلها المختلفة، فقد أدى تطوير الحوزة الدينية إلى تواجد علماء الدين في الحياة العامة للبلاد وفي أجهزة الدولة المختلفة بشكل مكثف. فضلاً عن تواجدهم في المدارس وقاعات الدرس وحلقات الوعظ ومنابر الخطابة والمحافل العامة.
وقام هؤلاء العلماء بإبداء رأيهم في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وحدث تعاون وتنسيق فيما بين المدارس التابعة للحوزات المنتشرة داخل إيران وخارجها. ونظم طلاب الحوزة قوافل شاركت في الحرب العراقية الإيرانية. وشارك هؤلاء الطلاب في العمل العام، كما شاركوا في التصدي للغزو الثقافي الغربي، وفي الدعوة إلى التخلي عن البذخ والإسراف.
والواقع أن قيام الثورة الإسلامية في إيران كان له أثره الكبير في إقامة مؤسسة دينية قوية ومتطورة تدعم النظام الحاكم الذي يمثل علماء الدين أهم رموزه. وقد أدرك الرئيس أحمدي نجاد الدور الذي تلعبه المؤسسة في تدعيم النظام، فعين مستشارًا لشئون علماء الدين والحوزة العلمية وهو حجة الإسلام والمسلمين مصلحي، وذلك من أجل إيجاد علاقة قوية ومتبادلة مع الحوزات الدينية. وليس الهدف من هذه المسألة إطلاع علماء الدين على مجريات الأمور السياسية أو الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإنما الهدف منها هو دعما التوجه الديني للنظام والمجتمع الإيراني، وخاصة المؤسسات التنفيذية. كما أن اختيار حجة الإسلام مصلحي لهذا المنصب الجديد وهو أحد علماء الحوزة وأحد المقربين من كبار المراجع الدينيين والمحيطين بتفاصيل الأمور في الحوزات الدينية يشير إلى رغبة الرئيس أحمدي نجاد في أن يكون للحوزات الدينية ممثل في رئاسة الجمهورية. وقد لقي هذا التوجه من جانب الرئيس الإيراني ترحيبًا كبيرًا بين علماء الدين والمراجع، لأنه يحقق نوعًا من الانسجام بين القطاع الديني والقطاع التنفيذي في النظام، ويحقق مفهوم الجمهورية والإسلامية في نظام ولاية الفقيه. كما أن الرئيس الإيراني عين حجة الإسلام والمسلمين سيد أحمد موسوي مستشارًا له للشئون القانونية والبرلمانية، وجعل اثنين من علماء الدين في أهم وزاراته، وهما: حجة الإسلام والمسلمين غلا محسين محسني ايجيه وزيرًا للمعلومات، وحجة الإسلام والمسلمين الدكتور مصطفى بور محمدي، وزيرًا للداخلية.
والواقع أن نجاح الثورة الإسلامية الذي أدى إلى قيام دولة ثيوقراطية لأول مرة في تاريخ إيارن والعالم الإسلامي الحديث، هو نجاح شاركت فيه المؤسسة الدينية ـ التي يهيمن عليها المحافظون ـ بالنصيب الأوفر.
المراجع:
1- إبراهيم الدسوقي شتا: الثورة الإسلامية ـ الجذور الأيديولوجية ـ ط2 ـ القاهرة ـ 1988م.
2- حميد عنايت: الفكر السياسي الإسلامي المعاصر ـ ترجمه من الفارسية الدكتور/ إبراهيم الدسوقي شتا ـ القاهرة ـ 1988م.
3- محمد السعيد عبد المؤمن (دكتور): إيران وآفاق المستقبل ـ القاهرة ـ 1996م.
4- فهمي هويدي: إيران من الداخل ـ ط3 ـ القاهرة ـ 1988م.
5- كمال مظهر أحمد: دراسات في تاريخ إيران المعاصر ـ بغداد ـ 1985م.
6- محمد عبد الكريم عتوم: النظرية السياسية المعاصرة للشيعة الإمامية الإثنى عشرية ـ ط1 ـ الأردن ـ 1988م.
7- تاريخ معاصر إيران: تهران 1364هـ. ش/ 1985م.
8- كتب الإمام الخميني: كشف الأسرار ـ جهاد النفس أو الجهاد الأكبر ـ الحكومة الإسلامية.
9- غلا معلى حداد عادل: دانشي اجتماعي ـ تهران 1366هـ، ش.
10- عقيقي بخشايشي: مجلة درسهائي أز مكتب اسلام ـ شماره 12-1359هـ،ش. وشماره 1-1360 هـ،ش (1981م).
11- الصحف الإيرانية: اطلاعات ـ كيهان ـ جمهوري إسلامي ـ الصادرة في الأعوام: 1994/ 1995/ 1996م.
12- قضايا إيرانية (المستجدات السياسية والعلاقات الخارجية) ـ العدد ـ 2006م ـ مقال رسالة النظام الإيراني إلى العالم ـ إعداد أ.د. محمد السعيد عبد المؤمن ـ ص93.
_____________________
الأستاذ بكلية اللغات والترجمة ـ جامعة الأزهر )*)
المصدر : مختارات إيرانية العدد 82 مايو 2007م

بحث سريع