يحبهُ اللهُ و رسولُهُ

بواسطة | عبدالوهاب الطريري
2007/11/19
المشرف على أودية خيبر يرى سهولها تحضن غابات شاسعة من النخيل بينما تعصم هامات جبالها حصون يهود المشيدة التي لا يقاتلون إلا من ورائها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحاصر أعظم هذه الحصون وأمنعها، ويُسمّى حصن القموص، وقد تطاول الحصار فجاوز بضعة عشر يوماً، وتوالت المحاولات لفتحه؛ إذ دفع الرسول –صلى الله عليه وسلم- الراية لأبي بكر فقاتل فرجع ولم يك فتح وقد جهد، ثم أعطى الراية عمر بن الخطاب فقاتل ثم رجع ولم يك فتح وقد جهد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشية يوم: "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ليس بفرَّار، لا يرجع حتى يفتح الله له" ، فبات الناس ليلتهم تلك يخوضون في هذا الذي سيُعطى الراية، وقد حاز هذه الصفات وسيكون الفتح على يديه. أيهم هو؟ وتشوّفت النفوس إلى هذا الشرف، فما رجل له منـزلة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل، حتى قال عمر -رضي الله عنه-: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ" . غير أن رجلاً لم يستشرف لما استشرفوا له، ولم يؤمل ما أملوه، وما كان ذاك لقصور في فضائله؛ فهو الذي قد جمع الفضائل من أطرافها. ولا لقعود في همته؛ فهو المسارع في الخيرات السابق لها، ولكن لأن لياقته البدنية لم تكن تؤهله أن يحمل راية أو ينفذ لقتال. فقد كان أيامه تلك أرمد شديد الرمد قد أظلمت عيناه؛ فلا يبصر شيئاً.
فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلهم يتطاول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجو أن يكون هو الذي يُعطى الراية ويحظى بالشرف، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه، وكأنما ذهبت الظنون إلى أنه سيختار غيره ممن لا يشكون شكايته، وإذا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: أرسلوا إليه. فجيء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يُقاد لا يُبصر شيئاً. فوضع النبي -صلى الله عليه وسلم- رأسه في حجره المبارك، ثم تفل من ريقه الطيّب في يديه ثم مسح بهما عيني عليّ. فقام عليّ بارئاً كأن لم يكن به وجع، فدفع إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- الراية وقال: امشِ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك.
فخرج عليّ بالراية مسرعاً يهرول هرولة والناس يتبعون أثره، فلما سار غير بعيد وقف مكانه، ولم يلتفت وإنما صرخ بأعلى صوته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: يا رسول الله، على ماذا أقاتل الناس؟ أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- بنداء سمعه عليّ وكل من معه، (انفذ على رسلك حتى تنـزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم).
فانطلق (حبيب الله ورسوله) بالراية حتى ركزها تحت الحصن، ثم دعاهم بدعاية الإسلام وحق الله عليهم فلم يكن منهم إلا القتال، فقاتلهم وهو الأيّد القوي الشديد الذي لا يفرّ إذا لاقى، ففتح الله عليه في يومه ذلك، وكان الفتح وانكشف الغطاء.
ثم ألا يستوقفك مع هذا الخبر:
(1) وضوح الهدف وجلاؤه إلى درجة التألق، وليتضح ذلك في ذهنك تصوّر جموع المسلمين وهم يواجهون يهود ويتهيؤون لقتالهم وتسترجع ذكرياتهم مرارات الغدر والخيانة وشدة العداوة خلال سبع سنين قضاها المسلمون معهم. من تحرش بني قينقاع، إلى مكائد بني النضير، إلى غدر بني قريظة، في سلسلة مريرة من عداء يهود وتأليبهم، ومع ذلك فلم يكن التشفي والانتقام هو الهدف الحاضر حين المواجهة والاقتتال.
وكان المسلمون يشرفون على خيبر فتنفسح أمامهم أوديتها عن أكبر مخزن غذائي تحضنه غابات نخيلها التي ينتهي دون مداها مدى البصر، وتشرف عليهم حصونها التي تخزن خزائنها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة التي يبرع يهود في جمعها واكتنازها، ولم تكن هذه الثروات حاضرة في هدف القتال لدى الصحابة؛ مع ما كانوا يعانون من جهد الفاقة وعوز الفقر وشدة الحاجة.
كان الهدف أسمى من شهوات الانتقام ومطامع المال، فقد كان هداية الناس وتعبيدهم للرب الذي خلقهم، وأداؤهم لحقه عليهم، وكان من صنع الله في ذلك المشهد أن يتذاكر عليٌّ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن سار قليلاً فيصرخ عليٌّ بالسؤال ويستعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجواب لتسمع كل أذن ويعي كل قلب: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"، ولم يكن عند العرب مال أكرم ولا أنفس ولا أعجب من الإبل الحمر يقتنونها ويتكاثرون بها، وخير منها هداية رجل يقبل بقلبه على الله تعالى..
(2) ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- صاحب الراية الذي يفتح الله علي يديه، فلم يذكر قرابته القريبة، وقد كان ابن عمه وذا قرباه، ولم يذكر منـزلته منه، وكان صهره زوج ابنته، وإنما ذكر مؤهلاته النفسية والقيادية:
أ. إنه يحب الله ورسوله – الحب الحقيقي الكامل- وإلا فكل مسلم يشترك معه في مطلق المحبة.
ب. ويحقق المتابعة التامة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولذا أحبه الله ورسوله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ…)[آل عمران: من الآية31].
ج. وهو الشجاع الذي لا يفرّ إذا لاقى، وهل كانت الشجاعة تجد بيتها إلا في قلب عليّ.
إن هذه المؤهلات العظيمة والصفات الكريمة هي التي استدعت علياً وكان غائباً، وقدّمته ولم يكن متشوّفاً، وحققت له وسام الفتح وما كان يظن هو ولا غيره أنه صاحبه ذلك اليوم.
وبعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الإنجاز "يفتح الله على يديه" مقروناً بتلك المؤهلات يعلن أن نجاح الأمم والمجتمعات مرتبط بتولية المسؤوليات لذوي الكفاءة والاقتدار والمؤهلات الحقيقية كما أن الفشل يلازم إناطة المسؤولية لغير المؤهلين إيثاراً ومحاباة.. "فإذا وُسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
(3) روح التنافس على الخير بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم تكن الإمارة والقيادة مطمعاً لهم، فلما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الصفات استشرفوا لها، وباتوا ليلتهم يدوكون فيها، وغدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلهم يتمنى أن يُعطاها، ولسان حالهم جميعاً لسان عمر "ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ" طمعاً في حب الله وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم-(أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:61].
وهنيئاً لسيدنا أمير المؤمنين أبي الحسن -رضي الله عنه وأرضاه- الذي كانت قدماه تدفان على الأرض، وحبّه في الملأ الأعلى "يحبه الله ورسوله".

بحث سريع