أمهات المؤمنين

بواسطة | العلامة محمد بهجة البيطار
2008/01/05
النساء في عصر النبوة:
النساء في فجر الإسلام وعصر النبوَّة كُنَّ كالرجال، يتدارسن القرآن، ويروين الأحاديث، ويحافظن على العبادات، ويصلين صفوفاً وراء الرجال، ويستمعن المواعظ والخطب في المساجد، ويسافرن لأداء فريضة الحج والعمرة، بل كنَّ يشهدنَ الحروب، ويضمدن الجروح، ويُهيئن الطعام، ويسقين الماء، ويغسلن الثياب، ويشتركن في الجهاد أحياناً كما حصل في واقعة اليرموك.
وقد كان تعلم العلم الديني بعقائده وعباداته إلزامياً، فعمَّ الرجال والنساء، والبنين والبنات، وإنك لتجد أسماء النساء مدونة في كتب طبقات المحدِّثين وغيرهم، وقد استغرقت المحدِّثات المجلد السادس من مسند الإمام أحمد ابن حنبل إلا قليلاً، ومسند السيدة عائشة – أي الأحاديث التي سمعتها وروتها – قد بلغ وحده أكثر من مائتين وخمسين صفحة "ص29-282".
وقد تسلسل العلم ببعض البيوتات في السيدات، حتى صارت الواحدة تروي أحاديث النبي-صلى الله عليه وسلم- عن أمها وجدتها.
ومن شواهد ذلك ما رواه الإمام أبو داود في سننه: قال: حدثنا محمد ابن بشار، حدثني عبدالحميد بن عبدالواحد، حدثتني أمُّ جَنوب بنت نميلة عن أمها سُويدة بنت جابر عن أمها عَقيلة بنت أسمر بن مضرّس قال: أتيت النبي-صلى الله عليه وسلم- فقال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له" أي من الأرض – الحديث.
إحدى أمهات المؤمنين وفتاة في القرن العشرين:
لنقايس الآن من الوجهة العلمية بين فتاة في صدر الإسلام، وفتاة في عصر العلم والحضارة، لنعلم كنه الحياة في العصرين:
عائشة – رضي الله عنها – عاشت في صدر الإسلام، ودخلت المدرسة النبوية في التاسعة من عمرها، ولبثت تسع سنوات في مدرستها، وتوفي عنها معلمها الأمين -صلى الله عليه وسلم- وهي في الثامنة عشرة من عمرها، فما العلوم التي درستها، وما نوع شهادتها يا ترى؟
كانت تلك النابغة فقيهة جداً حتى قيل: إن ربع الأحكام منقول عنها، عالمة بكل العلوم.
قال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "ما أشكل علينا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث قط فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً".
وقال عروة: "ما رأيت أحداً أعلم بالقرآن، ولا بفريضة، ولا بحرام، ولا بحلال، ولا بفقه، ولا بشعر، ولا بطب، ولا بحديث العرب، ولا نسب – من عائشة".
وقال مسروق: "رأيت مشيخة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأكابر يسألونها عن الفرائض".
وكانت فصيحةً جداً، قال معاوية: "والله ما رأيت خطيباً قط أبلغ، ولا أفصح، ولا أفطن من عائشة".
وعند الطبراني برجال الصحيح عن موسى بن طلحة: "ما رأيت أحداً كان أنفح من عائشة".
من أخذ عنها من الصحابة:
روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة كعمر وابنه عبدالله، وأبي هريرة، وأبي موسى، وزيد بن خالد، وابن عباس، وربيعة بن عمرو بن السائب بن يزيد، وصفية بنت شيبة، وعبدالله بن عامر بن الحارث بن نوفل.
تلاميذها من كبار التابعين:
من أجلاّئهم ابن المسيب، وعمرو بن ميمون، وعلقمة بن قيس، ومسروق، وعبدالله بن عليم، والأسود بن يزيد، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وأبو وائل.
من روى عنها من آل بيتها:
أختها أم كلثوم، وعائشة بنت طلحة، وأخوها من الرضاع عوف ابن الحارث، وابنا أخيها محمد: القاسم وعبدالله، وبنتا أخيها الآخر عبدالرحمن: حفصة وأسماء، وابنا أختها أسماء: عبدالله وعروة، وحفيد عبدالله: عباد ابن حمزة، وآخرون كثيرون.
فهذه شذرة من شهادة كبار الصحب لعائشة بكونها صارت مرجعاً في كل علم، حلاّلة لكل مشكل.
إن عائشة – رضي الله عنها – كانت على حداثة سنها تجيب كبار الرجال عما يُشكل عليهم من أمر دينهم، ولكن فتياتنا في سنها لا يُجبن عن مشكلات الدين أحداً، بل هنَّ يسألن ويستشكلن مسائل كان يُرجى منهن أنفسهن الجواب عليها، مثل كون شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، وميراثها نصف ميراثه، ومثل تعدد الزوجات "أو عدم المساواة كما يُقال"، وعن الحكمة في كون أزواج النبي أكثر من أربع، وأمثال هذه المسائل.
حكمة تعدد أمهات المؤمنين بعد الهجرة:
لو رجعنا إلى التاريخ الصحيح في أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين، لعلمنا أنَّ التعددَ، أو الجمع بين التسع لم يكن إلا بعد هجرته -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة في السنوات العشر الأخيرة من عمره ".
أما في مكة فقد عاش فيها قبل الهجرة ثلاثة وخمسين عاماً، لم يجمع في أثنائها بين زوجتين قط، والسيدة خديجة التي كانت أولى أزواجه وأم أولاده -عدا إبراهيم؛ فإنه من مارية القبطية- قد تزوج بها[2] وهي امرأة في الأربعين من عمرها، وهو في الخامسة والعشرين من حياته الشريفة، في نضارة الصبا، وريعان الفتوة، وجمال الطلعة، وكمال الرجولة، وعاشت معه 25 عاماً، ثم توفيت وهي عجوز في الخامسة والستين من عمرها.
قضى حياة الشباب، وسنَّ الحاجة إلى النساء مع خديجة، المرأة الثيب التي تزيد عنه في السن خمسة عشر عاماً، ولم يتزوج عليها، ولا أحب بعدها أحداً أكثر من حبه لها، وكان طول حياته يذكرها، ويكرم صديقاتها ومعارفها، ولما قالت له عائشة: "هل كانت إلا عجوزاً أبدلك الله خيراً منها -تعني نفسها-" وكانت تُدِلّ بحداثة سنها وجمالها، وكونها بنت صديقه الأول، وصديقه الأكبر أبي بكر -رضي الله عنه- قالت: فغضب، وقال: -صلى الله عليه وسلم- والله ما أبدلني خيراً منها، آمَنَتْ بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء".
من هذا الشاهد تعلم أن عفَّتَه -صلى الله عليه وسلم- لا نظير لها، ولو شاء لتزوج بحسان الأبكار، أو لو شاء لتزوج على خديجة كما كان يفعل غيره، لاسيما أن تعدد النساء كان في الجاهلية شائعاً جداً، وليس له حدٌ معين، ولكنه عف ضميره، ولم يمد عينه إلى زهرة الحياة، وزينتها.
أما باقي أزواجه -صلى الله عليه وسلم- فخمس من قريش، وهنَّ عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أمية، وأما الأربع الباقيات فهن صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وليس فيهن كلِّهن بِكْرٌ إلا عائشة.
والحكمة في تزوجه -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته إلى المدينة ببضع نسوة في بضع سنين هو العناية بإصلاح البيوت، وتهذيب النفوس، ونشر الفضيلة، وأن تكون أزواجه قدوة حسنة لجميع النساء في تلقي العلم والحكمة، والرحمة، والتقوى والعبادة، والتربية والتعليم، وإليك البيان:
1- جعل الله – تعالى – من بيوت نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- مدارس داخلية يتعلمن فيها الدين، عقائده وعباداته، ومعاملاته وأخلاقه، لاسيما ما يختص منه بالنساء، قال – تعالى -: [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية] (الأحزاب: 33).
فالقرار في البيوت من أجل أن يتعلمن ما يحتجن إليه، وما يعظن به النساء والرجال، ولهذا قال -تعالى-: [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ...الآية](الأحزاب:34).
وآيات الله: براهينه وكتابه، والحكمة: سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- المبينة ما نزل إليه من ربه.
وإنما نهى عن التبرج الجاهلي؛ لأن المتبرجات المتهتكات، الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، لا يأتي منهن معلمات ولا مربيات.
ونساء النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما وجدن عند النبي لتعليم الأمة وتربيتها، وإرشادها وإسعادها.
2- لما طلبن منه التوسع في الطيبات، وملابس الزينة، والترف في المعيشة نزلت في حقهن آيتا التخيير، وهما قوله -تعالى-:[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً](الأحزاب: 28-29).
لما نزلت هاتان الآيتان بدأ -صلى الله عليه وسلم- بعائشة – وكانت أحبهن إليه، كما كان أبوها أعز الرجال عليه – فقال: -صلى الله عليه وسلم- يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك" قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خيرهن كلهن فاخترن ما هو خير لهن، اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
3- أراد نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقمن حيث أقامهن الله ورسوله صالحات مربيات ومعلمات، مرشدات ومفتيات، فاخترن الدار الآخرة ونعيمها الدائم، ورضوان الله الأكبر، على حظوظهن من هذه الحياة الدنيا وزينتها، ومُتعها ومفاتنها، فأثابهن الله كرامة لهن، وجزاء على ما اخترن ورضين بأن قصر نبيه -صلى الله عليه وسلم- عليهن، دون أن يتزوج أو يطلق، أو يستبدل بهن غيرهن، فقال – عز شأنه -: [لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ](الأحزاب:52).
والحكمة في تحريم تطليقهن هي استدامة سماعهن ما يُتلى في بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- من آيات الله والحكمة، وذِكر ذلك، ونشره بين الناس، لاسيما نساء الصحابة -رضي الله عنهم-.
وأيّة فائدة تُرجى لهن أو لغيرهن من طلاقهن وهن أمهات المؤمنين؟ أي تحريماً وتعظيماً على الرجال كالأمهات.
فأنت ترى أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قُصِر على أزواجه الطاهرات، وحُرِّم عليه أن يمد عينيه إلى غيرهن بالزيادة أو التبدل، بخلاف رجال أمته الذين أبيح لهم التعدد بشروطه، وكذا التطليق، وأن يستبدلوا بأزواجهم غيرهن، إذاً فقد قصر النبي -صلى الله عليه وسلم- على دائرة ضيقة من الأزواج، وكانت الأمة في دائرة أوسع منها.
أهذا الذي يسمونه تمتعاً بالنساء أو الأزواج؟
نساء كلهن ثيبات – عدا السيدة عائشة – ومنهن من لها أولاد،تزوجهنَّ -صلوات الله عليه- في سن الكهولة أو الشيخوخة، وحين الحاجة إلى التبليغ والتعليم، وربما كان التزوج بهن كلهن قبل نزول آية التحديد بأربع نسوة، فهي قد نزلت في السنة الثامنة للهجرة، وكان تزوجه بآخرهن ميمونة بنت الحارث الهلالية في أواخر سنة سبع منها، وحرم عليه تطليقهن؛ لأنهن قد اخترن ما عند الله على زهرة الحياة الدنيا وزينتها، على أنهن قد صرن أمهات المؤمنين، فما الفائدة من طلاقهن وهن حرام على الرجال؟ أوليست الحكمة في بقائهن عند هذا الزوج الكريم، والرسول العظيم متعلماتٍ، ومعلماتٍ، ومُثلاً عليا في البر والتقوى وسائر الصالحات؟ بلى ثم بلى.


[1] مجلة "الهداية الإسلامية" الجزء العاشر من المجلد التاسع الصادر في ربيع الآخر 1356هـ.

بحث سريع