دولة الأشراف الموسويين الحسنيين بالحجاز

بواسطة | عاتق بن غيث البلادي
2008/03/24
 
نسبة إلى جدهم موسى، المذكور في أول ترجمة بعد هذا.
وهذه الأسرة حكمت الحجاز وأجزاء من الشام ودامت نحو خمس وتسعين سنة فقط (358 – 453 هـ/698 – 1061 م) وإليك ذكر أمرائهم.
* * *
1- الشريف جعفر بن محمد
قام سنة (358 هـ/968م):
هو جعفر بن محمد بن الحسين، وقيل: جعفر بن الحسين بن محمد الثائر ابن موسى الثاني بن عبد الله بن موسى الجَوْن بن عبد الله المَحْض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما.
كذا ذكره الدحلان في (خلاصة الكلام)([1])، ثم قال: تغلب جعفر المذكور على مكة زمن الإخشيد، قبل أن يملك العُبيديون (الفاطميون) مصر، بعد موت كافور، وكان موت كافور سنة ثلاثمائة وست وخمسين، وتغلب جعفر سنة (358هـ)، وقيل سنة ست وخمسين، وقيل ثلاثمائة وستين، ثم ذكر أسباباً، ولم يذكر نهاية ولايته، إنما قال: ولما توفي جعفر المذكور تلوى ابنه (عيسى بن جعفر) ودامت ولايته إلى سنة ثلاثمائة وأربع وثمانين (384هـ). ولم يذكر بداية ولاية عيسى ليستدل بها على نهاية ولاية أبيه، ولم يذكر ولادة أحد منهما ولا وفاة جعفر، كما ألمحنا.
وذكره تقي الدين الفاسي، فقال: جعفر بن محمد بن الحسن بن محمد، وبقية النسب كما تقدم، إلاّ أن الفاسي حذف الألقاب، كالثائر والثاني والجَوْن، الخ…
ثم قال: أمير مكة، كذا نسبه ابن حزم في الجمهرة([2])، وقال -أي ابن حزم-: إنه غلب على مكة في أيام الإخشيدية، وولده إلى اليوم – في عهد ابن حزم- ولاة مكة، منهم عيسى ابن جعفر المذكور، لا عقب له، وأبو الفتوح الحسن بن جعفر المذكور، وشكر بن أبي الفتوح، وقد انقرض عقب جعفر المذكور، لأن أبا الفتوح لم يكن له ولد إلاّ شكر، ومات شُكر ولم يولد له قط.
وذكر شيخنا ابن خلدون -الكلام للفاسي- في تأريخه، في نسب جعفر والد عيسى وأبي الفتوح، ما يخالف ما ذكره ابن حزم، لأنه لما نسبه قال: هو جعفر بن أبي هاشم الحسن بن محمد بن سليمان بن داود، وذكر أن محمد بن سليمان، جد جعفر، قام بمكة سنة إحدى وثلاثمائة([3])، وخطب في موسمهما لنفسه بالإمامة ودعا لنفسه، وخلع المقتدر العباسي.
وذكر أن محمد بن سليمان هذا من ولد محمد ابن سليمان الذي دعا لنفسه بالمدينة، أيام المأمون([4]) وتسمى بالناهض، وذكر أن سليمان والد محمد بن سليمان الذي تسمى بالناهض هو سليمان بن داود بن عبد الله بن الحسن([5]) بن علي بن أبي طالب. آخر ما روى الفاسي([6]).
ولم يذكره ابن فهد، تلميذ الفاسي، لم يذكره باسمه، إنما قال: سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة فيها خُطب بالحرمين واليمن للمعزِّ أبي تميم معد بن المنصور العبيدي (الفاطمي) صاحب مصر، وبطلت الخطبة لبني العباس([7]).
وهذا وإن لم يكن تصريحاً بقيام جعفر إلاّ أنه تلميحاً لذلك، وابن فهد هو تلميذ الفاسي، ويستغرب أن يسكت عن من ذكره شيخه.
ولكن ابنه، العز بن فهد، ذكره نقلاً عن العقد الثمين، فقال: جعفر بن محمد بن الحسن بن محمد، كما تقدم عند الفاسي، ثم قال عن الفاسي أيضاً: وذكر شيخنا ابن خلدون أن جعفر والد عيسى وأبي الفتوح سار إلى المدينة فملكها، وخطب للمعز العُبيدي لما سمع تملكه بمصر، فأرسل إليه (العُبَيدي) بالولاية([8]).
أما العصامي صاحب (سمط النجوم العوالي) فقد قال:… فمذ ملك مصر -أي المعز- بادر جعفر بن الحسن بن محمد بن سليمان بن داود، وكان بالمدينة، فملك مكة ودعا للمعز، فكتب له بالولاية([9]). ولعل في هذا وهماً من العصامي يرحمه الله.
إلاّ أنه لم يختلف عمن سبقه في أن عيسى ولي الأمر بعد أبيه إلى أن توفي سنة (384هـ) ثم ولي الأمر بعده أخوه أبو الفتوح بن جعفر.
ونرى أن المرجح في نسبه هو: جعفر بن محمد بن الحسن، وبقية النسب كما تقدم في أول البحث. وهو أول مؤسس للشرافة في مكة كما قدمنا، وليس هو من كبار الأشراف المصنف هذا البحث من أجلهم ولكن له شرف الريادة والتأسيس، ولذا كان الافتتاح به أليق، وقد بقيت الشرافة بعده في ولد الحسن بن علي رضي الله عنهما نحو من ألف سنة إلا قليلاً. فهو من الأشراف الحسنيين كأبي العباس في العباسيين.
وبالإجمال فأخباره قليلة، ومؤرخوه ينقل بعضهم عن بعض، وشذ فيه العصامي، كما رأيت، بما لم يأت به غيره.
وقد خلف ولدين هما: عيسى وأبا الفتوح، الذي سيأتي بعد ها، إن شاء الله. ويلاحظ أن جعفر هذا هو مؤسس الطبقة الموسوية، نسبة إلى جده موسى، كذا قال الدحلان في خلاصة الكلام، ثم قال: وهم أول من ملكها من الأشراف الحسنيين، أي أنها الطبقة الأولى.
بينما عده العصامي من السليمانيين، والصواب ما قاله الدحلان، إذ أن طبقة السليمانيين جاءت بعد طبقة الموسويين كما سترى في البحوث المقبلة، إن شاء الله، بعد أن نذكر انقراض هذه الطبقة الموسوية بوفاة الشريف شكر.
2- الشريف عيسى بن جعفر بن محمد بن الحسن بن محمد بن موسى، وبقية النسب كما تقدم في أخبار أبيه، في البحث السابق ( -384 هـ/994 – م):
ولي مكة بعد أبيه، ولم أر من أرخ وفاة أبيه وهي السنة التي ولي فيها عيسى الشرافة، ولكن مؤرخيه يؤرخون وفاته بسنة أربع وثمانين وثلاث مائة، أي أن ولايته وولاية أبيه عن سنة (358 -384هـ) = 26 سنة، ثم ولي بعده أخوه أبو الفتوح الآتي خبره.
قال الفاسي([10]): جاءت جيوش العزيز صاحب مصر، مكة والمدينة، سنة (366هـ). وضيَّقوا عليهم (أي على أهل الحجاز) وذلك بسبب الخطبة، ولا زالوا محاصرينهم، حتى خُطِب للعزيز بمكة، وأميرها إذ ذاك عيسى بن جعفر، والمدينة، وأميرها إذ ذاك طاهر بن مسلم… الخ. ودامت ولايته على مكة إلى سنة (384هـ) على ما ذكر ابن خلدون. وذكر ابن حزم في الجمهرة ما يُفهم أنه ولي مكة بالجملة… الخ.
ولم يذكر ابن فهد عيسى هذا سنة (384هـ) ولا قبلها، رغم أنه تلميذ التقي الفاسي، وإنما ذكر ولاية أخيه أبي الفتوح في هذه السنة، أي بعد وفاته (وفاة عيسى).
أما ابنه العز بن فهد فقد نقل ما تقدم عن الفاسي مختصراً([11]).
أما العصامي، فيقول… -عن حوادث 360-: ثم وقعت الفتنة بين بني الحسن، أهل مكة وبني الحسين، أهل المدينة، وزحف أهل المدينة مع أمير المعز لدين الله العُبيدي (الفاطمي) صاحب مصر، ليقيموا له الخطبة بمكة، فجاءت القرامطة مدداً لبني حسن بمكة، فانهزم أهل المدينة، ثم وقعت الفتنة بين بني الحسن، وبنـي جعفر([12])، وحصلت بينهم دماء، وبعث المعز العُبيدي من أصلح بينهم وتحمل ديات القتلى الفاضلة من مال المعز، فمذ ملك مصر بادر جعفر بن الحسن بن سليمان بن داود([13])، وكان بالمدينة، فملك مكة ودعا للمعز العبيدي فكتب له بالولاية. وأقول: انفرد العصامي رحمه الله بنسبة بني جعفر هؤلاء إلى سليمان ابن داود، ولذا فهو قد بوب لهم باسم (السليمانيين) بينما أجمع مؤرخو الأشراف على نسبتم إلى موسى الثاني بن عبد الله بن موسى الجَوْن، وسموهم طبقة الأشراف الموسوية، وجعلوا طبقة الأشراف السليمانيين بعدهم ثم الهواشم ثم بني قتادة، وكل ذبك سيتبع إن شاء الله، ثم يقول: ثم مات جعفر بن الحسن بن محمد بن سليمان بن داود فوليها بعده ابنه عيسى، وساق النسب الذي علقنا عليه آنفاً.
ووافق من تقدمه بأنه سنة (384هـ) مات عيسى المذكور وخلفه أخوه أبو الفتوح.
وعيسى أخباره قليلة كأبيه، وهذا دأب المؤرخين في كل عهد يحدث فجأة.
3- الشريف أبو الفتوح:
( -430 هـ/ – 1038 م):
الحسن بن جعفر بن محمد بن الحسن، وبقية النسب تقدمت في ترجمة أبيه([14])، سلطان الحجاز وموحده، المبايع بالخلافة، يعتبر المؤسس الحقيقي للشرافة في مكة.
قال شيخ مؤرخي مكة، تقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاس -نسبة إلى فاس في المغرب- المكي (775 – 832هـ): الحسن ابن جعفر بن محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسني المكي، أبو الفتوح([15]).
أمير مكة، وليها بعد أخيه عيسى، في سنة (384هـ) ودامت ولايته عليها ستاًَ وأربعين سنة. وذكر جماعة من المؤرخين: أن أبا الفتوح هذا خرج عن طاعة الحاكم العُبيدي، ودعا إلى نفسه، وخُطِب له بالخلافة، وتلقب بالراشد، وسبب ذلك: أن الحاكم قَتل الوزير أبا القاسم المعروف بابن المغربي، فهرب أبو القاسم وقصد آل الجراح الطائي بالرملة، ولزم حسان بن مُفَرِّج، فأجاره ومنع الطلب عنه، وف ذلك يقول أبو القاسم:
فإنِّي أتيتُ ابنَ الكريم مَفَرِّجٍ
فأطلق من أَسْرِ المهموم عقالي
وحمل الوزير أبو القاسم آل الجرَّاح على مباينة الحاكم([16])، وكان الحاكم قد ولّى مملوك أبيه (يازُخْتكين) الرملة بعد هروب الوزير أبي القاسم إليها، وسيَّر معه جيشاً، وجعه عليهم، ولما بلغ ذلك الوزير، حسَّن لحسان بن مفرج قتاله، فأغار عليه (فهزمه) وذبحه صبراً بين يديه.
فعند ذلك قال الوزير لحسّان: الآن قد قطعت ما بينك وبين الحاكم، ولم يبق لصلحك من موضع، ولا لك إلى الرجوع إلى طاعته مكان. وهذا أبو الفتوح أمير مكة والحجاز، في بيته وفضله وكرمه بمكان رفيع، تنصِّبه إماماً، وتقوم معه على الحاكم، فأمر حسان أبا القاسم بالتوجه إليه، فلما وصل إليه أطمعه في الرئاسة والخلافة، وضمن له الوفاء بما بذله حسّان بن المفّرج من الطاعة، ثم سار أبو الفتوح، وأبو القاسم قاصدين آل الجراح، ومعه -أي أبو الفتوح- نحو ألف فارس من بني حسن([17])، ونحو ألف عبد من قوَّاده([18])، فلما قرب الرملة، تلقاه حسان وأبوه مفرج وسائر وجوه العرب، وقبلوا الأرض بين يديه، ونزل في دارهم، وخطب له على منبر الرملة الخطيب ابن نُباتة.
ولما بلغ ذلك الحاكم اشتد عليه وقلق وعلم أن أبا الفتوح أهل لما أُهل له من الخلافة، فعدل عن الحرب إلى الخدعة، وعلم أن آل الجراح بينهم اختلاف في الرئاسة، فأرسل إليهم الأموال إلى الصغير والكبير والعظيم والحقير، وبعث إلى حسان بخمسين ألف دينار، وكتب إليه يغالطه في أمر (يارتكين) ويسهله، فأصبح أبو الفتوح وقد عرف تغير نياتهم، فقال للوزير أبي القاسم: أغويتني وأخرجتني إلى هؤلاء القوم الغدارين، فيجب عليك أن تخلصني وتسهل سبيلي إلى الحجاز، ومتى لم تفعل اضطررت إلى أن أركب فرسي، وأركب التغرير في طلب النجاة. وطال الأمر على أبي الفتوح، فركب فرسه إلى المفرّج والد حسان سراً، وقال له: إني فارقت نعمتي، وكاشفت مقامكم، ولي في عنقك مواثيق وأنت أحق من وَفَّى، لمكانك من قومك ورئاستهم، وأن خير ما ورّثه الإنسان ولده، ما يكون له الحمد والشكر وحسن الذكر، وأرى حساناً ولدك قد أصلح نفسه مع الحاكم، واتبعه أكثر أصحابه، وما أريد إلاّ العود إلى الوطن. فوعده المفرج السلامة، وركب معه وسيره إلى وادي القُرَى([19])، فتلقاه أصحابه.
يقول التقي: وذكر صاحب (الدول المنقطعة): هذه القضية، وفيها مخالفة لما سبق ذكره، مع زيادة وفوائد -فيذكر ما لم يختلف عما سبق- حتى يقول: فأظهر ذلك، أي أبو الفتوح ودعوته الخلافة، وبايعه أهل الحرمين، وفارقه الوزير بمكة وسار إلى الرملة، فاجتمع بـمفرج بن دغفل بن الـجراح الطائي، وبنيه حسان ومحمود وعلي، وبايعهم لأبي الفتوح -أي على الخلافة- ولما تقرر ذلك طلع على المنبر يوم الجمعة وخطب الناس، فقال: أول ما استفتح به في تحريض الناس على خلع الحاكم، أن قرأ وهو يشير إليهم:
(( طسم . تلك آيات الكتاب المبين . نتلو عليك من نبأ موسى و فرعون بالحق لقوم يؤمنون . إن فرعون علا في الأرض و جعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين . و نريد أن نمن على الذين استضعفوا و نجعلهم أئمة ونجعلهم الوراثين . ونمكن لهم في الأرض و نري فرعون و هامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ))
و لما فرغ من أخذ البيعة -أي الوزير- على آل الجراح، عاد إلى مكة وحمل أبا الفتوح على السير معه إلى الرملة، فسار فيمن معه من الأعراب([20]) فتلقاه مفِّرج وأولاده، وترجلوا له، وقبلوا الأرض، ومشوا في ركابه. ودخل الرملة وتغلب على أكثر بلاد الشام، فبعث الحاكم إليهم جيوشه مع مملوك أبيه (ياروخ تكين)، فحمل الوزير أبو القاسم حسان بن مفرج على أن اعترضه عند فج (داروم)، وواقعه وأسره، ونقله إلى الرملة أسيراً وانتهبه، وسمع غناء جواريه وحظاياه وهو مقيّد معه في مجلسه، وارتكب -أي حسان- منه فواحش عظيمة([21])، ثم قتله صبراً بين يديه. وبقي الشام أُكلة لبني الجراح، ولم يمكن الحاكم أخذه إلا بالملاطفة. ثم ذكر ما تقدم من إرشاء الحاكم آل الجراح وقنوع أبي الفتوح من الغنيمة بالإياب. ثم يقول الفاسي: وفي هذا الخبر مخالفة للخبر الأول من أوجه.
ثم يورد أقوالاً للذهبي يرحمه الله، لا تخرج عما تقدم، إلاّ قوله: إن هذه الحادثة كانت سنة (381هـ)، ولا أرى ذلك لإجماع مؤرخي مكة على أن عيسى بن جعفر توفي سنة (384هـ) فخلفه أخوه حسن أبو الفتوح. وكذلك وَهَّمَ الفاسي هذا الرأي، وقال: إن الحاكم لم يكن إذ ذاك (381هـ) خليفة، وإنما كان خليفة على مصر أبوه العزيز، وبعده ولي الخلافة (الحاكم) في سنة (386هـ).
وذكر سبط ابن الجوزي في (المرآة) وغيره من المؤرخين، إنها -أي خلافة أبي الفتوح- في سنة إحدى وأربع مائة.
وعليه يدل كلام ابن أبي المنصور في كتابه «الدول المنقطعة».
ورأيت -قال التقي- في تأريخ شيخنا ابن الفرات: إن عصيان أبي الفتوح على الحاكم كان سنة (402هـ)، وأن فيها قتل الحاكم أحمد بن أبي العلاء، مولى أبي الفتوح أمير مكة، لأنه كان يستوشي أخباره وينقلها إلى مولاه، وكان مولاه أقامه لذلك، وأقر عليه بذلك عطار. ثم ينقل شيخ مؤرخي مكة التقي عن بيبرس الداودار: أن عصيان أبي الفتوح كان في سنة (405هـ)، وذكر النويري أنها في سنة (403هـ).
وذكر ابن خلدون: أن آل الجراح قبضوا على أبي الفتوح وأسلموه إلى الحاكم، وأنه راجع الطاعة فعفى عنه، واستغرب الفاسيُّ هذا الخبر، ورأوه كذلك. وذكر ابن خلدون: أن أبا الفتوح سار إلى المدينة النبوية وأزال عنها إمرة بني مهنا (الحُسَينيين) وذلك سنة (390هـ) بأمر الحاكم ثم رجع إلى مكة وعظم شأنه.
وذكر أن القادر العباسي، راسل أبا الفتوح يأمره بالطاعة ويعده ببقاء الإمرة في ذريته، فأرسل كتبه إلى الحاكم، فأرسل إليه بالمال والخلع، فقسم ذلك في قومه. وذكر أبو عبيد البكري: أن الحاكم أنفذ إلى أبي الفتوح سجلا تنقّص فيه بعض الصحابة رضي الله عنهم، وجرح به بعض أزواج النبي ، فانفذ الأمير -يعني أبا الفتوح- إلى القاضي الموسوي، أظنه إبراهيم بن إسماعيل، وهو قاضي مكة وما والاها([22])، وأمره بقراءته على الناس، فغضب لذلك المجاورون من القاطنين وغيرهم من قبائل العرب([23])، فلما بلغ ذلك القاضي، أرجأ الخروج وتباطأ، وذلك في سنة (395هـ).
ثم يذكر الفاسي قصة ذلك المصري الذي اعتدى على الحجر الأسود، فثأر الناس على حاج مصر، ذلك سنة (413هـ) فتدخل أبو الفتوح وكف الناس عن المصريين، وهذا الخبر مبسوط بأكثر من هذا في كثير من التواريخ. (شفاء الغرام: 2/195).
وعن أبي عبيد البكري -المسالك والممالك- أن أبا الفتوح في سنة (412هـ) حشد قبائل العرب، وحارب رجلاً من بني حرام -من كنانة- استولى على مدينة حلي([24]) ودعا إلى نفسه، فأخذها أبو الفتوح منه.
وكانت وفاة أبي الفتوح هذا سنة (430هـ) على ما ذكره ابن الأثير. أي أن إمرته على عموم الحجاز دامت (36) سنة.
ثم خلفه ابنه شكر كما سيأتي إن شاء الله.
وأخبار أبي الفتوح كثيرة، ولعلنا نزيدها ضوءاً في أخبار ابنه الآتية.
4- الشريف شُكر بن أبي الفتوح واسمه محمد، ويكنى أبا عبد الله، ويلقب تاج المعالي ( – 453هـ / – 1061 م):
شُكْر بن الحسن بن جعفر بن محمد بن الشريف الحسني الموسوي، وبقية النسب تقدم في خبر جده جعفر بن محمد. ولي إمرة الحرمين بعد وفاة أبيه أبي الفتوح الحسن بن جعفر سنة (430هـ/1038م)، ودامت ولايته ثلاثاً وعشرين سنة، وقوي أمره، فحكم ما بين جبلي طيء إلى أواسط سراة الحجاز، كان أديباً شاعراً شجاعاً، له طرائف وغرائب، وحكم.
جاء في العقد الثمين -نقلاًَ عن صاحب الجمهرة-([25]).. وذكر أنه انقرض عقب جده جعفر، لأن أباه أبا الفتوح لم يولد له إلاّ وهو -أي شكر- ومات هو ولم يولد له قط. وذكر أن أمر مكة صار إلى عبدٍ له. أ هـ. وذكر ابن خلدون([26]): إنه جرت له مع أهل المدينة حروب وخطوب، ملك أثناءها المدينة الشريفة، وجمع بين الحرمين. وغالب مؤرخيه على أنه ملك الحجاز ثلاثاً وعشرين سنة، وكانت وفاته سنة (453هـ)، وانقرضت به دولة السليمانيين من مكة، وجاءت دولة الهواشم.
كذا قال/ بينما المجمع عليه في تأريخ مكة -إلاّ من شذ- أن جعفر وبنيه يسمون طبقة الموسويين، وجاء بعدهم طبقة السليمانيين ثم الهواشم الطبقة الثالثة، وسترى محاولتنا آتياً في هذا الصدد.
وشكر هذا هو الذي يزعم بنو هلال([27]) بن عامر، أنه تزوج الجازية بنت سرحان، من أمراء الأثبج منهم، وهو خبر مشهور بينهم في قصص وحكايات يتناقلونها، ولهم فيها أشعار من جنس لغتهم، ويسمونه الشريف أبو هاشم. أ هـ.
قلت: وكانت مدة إمارة شكر معاصرة جلاء بني هلال من جزيرة العرب أو قريبة منها. وكانت وفاة شكر في رمضان من نفس التأريخ المذكور آنفاً.
ومن شعر شكر المشهور ما أنشده الباخرزي في الدمية، والعماد في الخريدة([28]):
وصلتني الهمومُ وصلَ هَواك
وجفاني الرقادُ مثلَ جفاكِ
وحكى لي الرسولُ أنكِ غَضْبى
يا كفى اللَّهُ شرَّ ما هو حاكِ
ومنه:
قوِّض خيامَكَ عن دارٍ أُهِنْتَ بها
وجانب الذلَّ إن الذلَّ مُجْتنبُ
وارحل إذا كانت الأوطانُ مضيعةً
فالمندَلُ الرطبُ في أوطانِهِ حطبُ
ويعقب صاحب العقد، قائلاً: وهذان البيتان ليسا له… الخ.
ثم يقول: وما ذكره ابن حزم، من أنه لم يولد لشكر، فيه نظر، لأن صاحب المرآة([29])، نقل عن محمد الصابي، أن أبا جعفر محمد ابن أبي هاشم الحسيني (الحسني) أمير مكة([30])، كان صهر شكر على ابنته. أ هـ.
وعندما تحدث الدحلان عن شكر وأبيه خلط في آخر ترجمة أبيه بينهما، فذكر أن البيتين: (وصلني الهموم.. الخ) لأبي الفتوح ولعله وهم. ثم يقول([31]): ثم ولي مكة بعد أبي الفتوح ابنه شكر، الملقب بتاج المعالي واسمه محمد ويكنى أبا عبد الله. وكان جواداً عظيم القدر، وفقد عليه بعض العرب، وكانت تحت العربي فرس مشهورة عجيبة الخلق فأعجبت الشريف شكراً، لكن لم يسعه طلبها من العربي لكونه نزل عليه ضيفاً، فلما رجع ذلك العربي إلى أهله أرسل إليه الشريف شكر بعض قواده بمائة دينار، وقال: انزل عليه في بعض الطريق واشتر منه الفرس لك لا لي، ولا تذكرني له، فأدرك القائد ذلك العربي في بعض المنازل فنزل عليه، فلما عرفه أكرمه وفرح به، فأتاه بعد ساعة بلحم فأكل ونام، وفي الصباح ذكر له ما جاء من أجله وأنه يريد شراء الفرس، فأتاه العربي بجلده وأكرعها، وقال: إنك لما نزلت علينا البارحة كرهنا أن لا نذبح لك، فما وجدنا غير الفرس، فذبحناها، فشكر له القائد ذلك، وأسلمه المائة الدينار ورجع إلى الشريف شكر وأخبره، فقال له: أحسنت، ولو رجعت بالدراهم ألحقتك بالفرس، وأما الآن فأنت حر لوجه الله! ([32]) ثم ذكر وفاته في رمضان سنة (453هـ) وخالف ذلك صاحب عمدة الطالب فقال: سنة (464هـ) فلعله خطأ من الناسخ. ثم ذكر البيتين (قوض خيامك)، وقد تقدما ونفيهما عنه، مع ملاحظة أن الدحلان نسب البيتين (وصلتني الهموم) إلى أبي الفتوح، وهذا خلاف ما في دمية القصر الذي هو المرجع الأصلي فيهما.
ولم يخرج في باقي أخباره عما قدمنا سابقاً.
أما العصامي فيسمي كل من تقدم بالسليمانيين، والحقيقة أن الطبقات الأربع: آل جعفر بن محمد، الذين يلقبون (بالموسويين)، والسليمانيون، والهواشم، والقتاديون، كلهم يرجع نسبهم إلى موسى الجون. فجعفر مؤسس الطبقة الموسوية، هو جعفر بن محمد بن حسين بن محمد الثائر بن موسى الثاني بن عبد الله الرضى بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنَّى ابن الحسن السبط.
والسليمانيون هم بنو أبي الطيب -واسمه داود- ابن عبد الرحمن بن القاسم بن أبي الفاتك بن داود بن سليمان بن عبد الله الرضى ابن موسى الجون. والهواشم، هو بنو أبي هاشم -واسمه محمد -ابن جعفر بن محمد بن عبد الله بن أبي هاشم بن حسين الأمير ابن محمد الثائر بن موسى الثاني بن عبد الله الرضى بن موسى الجون. ومن مؤرخيهم من يرى أن الهواشم نسبة إلى أبي هاشم بن حسين الأمير، وكلاهما على شجرتهم، وسنعود إلى ذلك.
وبنو قتادة، هم بنو قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن الحسين بن سليمان بن علي بن عبد الله الأكبر بن محمد الثائر بن موسى الثاني… الخ. فكلهم موسويون، ولكنهم نسب كل منهم إلى جده الأدنى تفريقاً عن غيره، ولما أن بني جعفر بن محمد أول من ملك الحجاز انتسبوا إلى موسى نسب موسى نسب اعتزاز، ودفعاً للاشتباه كيلا يظن أنهم بنو جعفر بن أبي طالب. ونجد أن الشيخ أحمد السباعي عندما رأى العصامي بوب لبني جعفر بالسليمانيين أهمل التبويب لهم، وبينما هو -كما سيأتي- بوب للسليمانيين باسم (الطبقة الثانية من الأشراف) (السليمانيون) ([33]).
ومن آخر ما حقق في تأريخ مكة كتاب إتحاف الورى لابن فهد، فجاء في حوادث سنة (453هـ) وفيها: مات أمير مكة شكر بن أبي الفتوح الحسني في رمضان، وبه انقرضت دولة السليمانية، وولي بعده إمرة مكة عبدٌ له، هكذا ذكر ابن حزم في الجمهرة، وقال صاحب مرآة الزمان -نقلاً عن محمد بن هلال-: إنه ولي مكة بعد شكر بنو أبي الطيب الحسنيون.
الخلاصة:
1- الخلط بين الطبقات التي حكمت، راجع إلى عدة أسباب:
( أ ) عدم دقة التدوين في ذلك الزمن، فنرى معظم مؤرخي مكة ينقلون عن ابن حزم، وهو على فضله عاش بعيداً عن الحجاز، تأتيه الأخبار من غث وسمين، وقد رددنا عليه في (معجم قبائل الحجاز) ما قاله عن كثير من تلك القبائل، فقد أفنى قبائل لا زالت بقضها وقضيضها في ديارها وبنفس أسمائها وأسماء فروعها.
(ب) كون هذه الأسر ترجع كلها إلى جد واحد، فيسمي الناس هؤلاء بني فلان، وقد يسمون بني عمهم بنفس الاسم. وقد ركزنا على تسلسل الأشخاص بصرف النظر عن اختلاف الطبقات.
2- حكمت الطبقة الموسوية، التي فرغنا الآن من أخبار آخرها (شكر)، مدة (95) خمس وتسعين سنة، من (358 – 453هـ)، وأولها جعفر بن محمد، وآخرها شكر بن أبي الفتوح الذي انقرضت الدولة بموته، وبدأ حكم السليمانيين أو آل أبي الطيب.
3- الخوض في عبد شكر بلا علم، فلا اسمه معروف، ولا مدته، ولا العقل يهضم أن يحكم مكة عبد، وهي مشحونة بأسر الأشراف، فلا هم يرضون بذلك، ولا الناس تقبل إمامة عبد، ولا الشرع يجيز ذلك.
ولكن الذي يتبادر إلى الذهن -إن صحَّت الرواية- فإن العبد تجرأ فور وفاة سيده فقام بالأمر، ثم أُسكت أو قضي عليه خلال ساعات، ولا أظنها أياماً، ولولا أمانة التأريخ ما ذكره كثير من مؤرخي مكة.
إلاّ أن السيدة إلهام سراج عمر أكبر، في رسالتها لنيل درجة الماجستير عن بلاد ينبع، جاءت بخبر ما رأيته قبل هذا، وهو أن عبد الشريف شكر الذي خلفه اسمه: (طِراد بن أحمد) ([34]) وإحالته على غاية المرام: (1/497)، وعلى السباعي: (1/201). ولكن بمراجعة المرجعين لم يوجد فيهما اسم العبد الذي دعته إلهام (طراد بن أحمد) وما ذكره من سبقها، فمن أين أتت بهذا الاسم؟ وترى بعد هذا روايتها عن حمزة بن وهاس التي ناقشناها هناك([35]). ولم أنقل عن هذه الرسالة إلا هاتين الروايتين لغرابتهما، ولم تأتيا بشيء.

بحث سريع