ماذا بعد البقيع ؟

بواسطة | ربيع الحافظ
2009/04/23
مر حادث اعتداء الشيعة على البقيع دون اكتراث في الإعلام العربي، وفي الإعلام الذي تقوده السعودية بوجه خاص، ولولا الأفلام التي التقطتها الهواتف الجوالة و"اليوتيوب" الذي أوصله إلى أطراف المعمورة لطواه الزمن.
رغم كون الحادث هو الأكبر ـ بدلالاته ـ في التاريخ الإسلامي منذ القرن الرابع الهجري، حين قام الشيعة القرامطة بإهانة الكعبة المشرفة، فإنه فشل في فتح ـ ولو فتحاً أكاديمياً ـ ملفات حقب سياسية تطابقت فيها المعطيات والمآلات مع واقعنا المعاصر؛ تحديداً المد الطائفي والضعف السياسي وإهانة حرمات الإسلام، رغم أن نبش الأراشيف ومطابقة الحقب بحثاً عن متشابهات هي من أبجديات الاستراتيجيا والتعبئة الجماهيرية وقت الأزمات.
التزامن بين اعتداء البقيع وبين مظاهرات شيعية في لندن نادت بتحرير مكة المكرمة والمدينة المنورة من الاحتلال الوهابي، ووضع المشاعر المقدسة تحت وصاية الأمم المتحدة، يمنح بعداً إضافياً للحدث، ويقشع الضباب، ويرفع مدى الرؤية عند الراصد.
ما من غزوة إلا وتسبقها غارة، تجس نبض العدو، وتتحسس يقظته، ودفاعاته، وسلوكه، وقد كان اعتداء البقيع اختباراً لأكثر من عامل في وقت واحد: الفرد، والشارع، والإعلام، والدولة، والأجهزة الأمنية والقضائية، والدعائية، والسياسية.
أظهر الحادث أن الناس لم يعودوا يتحولون أمام إساءات بهذا الحجم إلى قوة دفاع مدنية عفوية تضرب على يد الفاعل. وأن الإعلام المحلي يؤثر الصفح على التوغل في جذور الحدث ومآلاته، وأن هيئة الأمر بالمعروف التي تعمل تحت سقف منخفض غاب عنها الحزم، وأن القضاء التابع للدولة أطلق سراح المتهمين، وأن الفضائيات العربية لا تقطع برامجها وتجعل من العمل الشاذ وسيلة إيضاح سهلة تنبه الإنسان العادي إلى ورم فكري يستهدف حرماته، وأن الحادثة بقيت محلية ولم تتحول إلى عربية أو إسلامية، وأن الدولة آثرت الليونة السياسية، وأن منظمة المؤتمر الإسلامي لم تصدر بياناً على لسان 40 دولة إسلامية يشجب الإساءة. كل شيء ـ محلياً وعربياً وإسلامياً ـ بدا معطلاً ونموذجياً لغارة جديدة.
تؤخذ هذه البيانات الميدانية إلى مختبر، وتخضع إلى تحليلات، ويعاد تنفيذ الغارة مختبرياً عن طريق معادلات الاحتمالات الرياضية، وبمتغيرات مختلفة، وتدرس ردات الأفعال المحتملة لكل حالة، التي يحدد على أساسها مكان وكيفية وتوقيت الغارة التالية، ويجعل منها خرائط وجداول ومنحنيات تكسو جدار المختبر.
قراءة أولية للبيانات تشير إلى أننا لسنا بعيدين كثيراً عن مشهد يشتم فيه الشيخان أمام باب الكعبة، تعلو فيه أصوات تدعو إلى ضبط النفس، وتغليب العقل، وكف اليد لدرء فتنة أكبر بين "طائفتين مؤمنتين"، وإلى ترك الأمور إلى الأجهزة الأمنية، التي تلقي القبض على المسيئين، وتقتادهم قبل أن تطلق سراحهم في أجواء طائفية شديدة التكهرب.
أليس هذا مشهداً يشقّ على التصوّر؟ هو كذلك. لكنه مشهد مر حجاج بيت الله بأسوء منه، ودام أعواماً، كانت فيه الدولة العباسية لا تزال قائمة، والخليفة في قصره في بغداد، قبل أن تتبدل الأحوال السياسية المحلية والإقليمية.
مما يجعل مشهد القرن الرابع أسهل على الإحباط والتطويق، هو أنه كان مشهداً محلي الأبعاد، بأدوات محلية، لم يستفد من التقاء مصالح دولية، ولم يستمد فاعلوه جرأة من قوانين حرية معتقدات وحقوق إنسان تضعها قوى كبرى بمقاسات تخدم مصالحها، وتجعلها سيفاً مسلطاً على رقاب الدول بما يشل أمنها القومي، فتتفتت أمام أعين قادتها وهم عاجزون عن تحريك ساكن.
كانت الأجواء الفكرية والسياسية أقل هشاشة، فقد حدث وسط جموع وحّدتها الغاية، وهي أداء الركن الخامس في الإسلام، ولم تتنازعها تيارات فكرية ومذهبية، ولم يكن بينها من يتأبط خناجر يستلها ساعة الصفر ويبقر بها بطون الحجيج، وقنابل يفجرها في أزقة مكة وعند المسجد الحرام، ولم يكن الشرك الأكبر وجهاً من وجوه الإسلام كما يراه "مفكرو" هذا الزمان. فرق بين من يحضر لأداء الركن الخامس، وبين من يحضر لأداء ركن سادس.
قليلون يدركون أن أجزاء الحجر الأسود الصغيرة، التي يستلمها الحاج بيده، الغائرة في محيط من الشمع، وتحفظ تماسكها دعامات من الفضة، تمثل النقطة التي وصلها المد الطائفي، وأنها كل ما أمكن إنقاذه من الحجر الأصلي.
ففي موسم حج سنة 317هـ هاجم الشيعة القرامطة بقيادة أبو طاهر مكة المكرمة، وقتلوا أعداداً كبيرة من الحجيج داخل المسجد الحرام، وألقوا الجثث في بئر زمزم، ودفن الباقون من غير غسل ولا كفن ولا صلاة، وجلس أبو طاهر على باب الكعبة يقول: "أنا بالله وبالله أنا، يخلق الخلق وأفنيهم أنا"، وأمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاء رجل فضربه وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ وتم قلع الحجر الأسود ونقل إلى هجر ـ المنطقة الشرقية في السعودية ـ، وقلع باب الكعبة، ونزعت كسوتها، ومكثت الكعبة من دون حجر أسود أكثر من 20 عاماً، بقى مكانه خالياً يلتمس الحجاج والمعتمرون فجوته بأيديهم ويبكون توسلاً إلى الله تعالى أن يعيده.
الإساءة إلى الكعبة أسهل شأناً اليوم. خلع باب الكعبة جاهزة مسوغاته عند دعاة تحرير مكة، وتطهير الكعبة من كل ما يرمز إلى "أدران الوهابية" النواصب إنما هو ثأر للحسين (رض). أما الحجر الأسود نفسه فمن غير المعروف ما يمكن أن ينتظره، إذا كان وجوده لا يجعل الكعبة المشرفة أكثر قداسة من كربلاء.
اضطرابات في الحرم المكي يحفزها مد طائفي، مصحوب باختلالات سياسية محلية وإقليمية، يصطاد في مائها العكر الخصوم، ونكايات العرب ببعضهم، وقرارت دولية تشل سيادة الدول، ونشوة طائفية ـ كالتي تلت وصول الخميني ـ يفجرها إعلان وفاق إقليمي بين إيران وأمريكا، اضطرابات كهذه لن تختلف الاصطفافات السياسية والفكرية حولها عن خريطة الاصطفافات السياسية والفكرية التي نعرفها اليوم، والتي يتجاذبها معسكران: معسكر "الممانعة" بزعامة إيران وبصفه الحناجر والأقلام القومية والإسلامية التي تتردد على محافل طهران، ومعسكر "الاعتدال"، ويسكب الزيت على نارها إعلامان: فضائيات "الممانعة" وفضائيات "الاعتدال".
لن يكون الحجيج على قلب رجل واحد من "انتفاضة تنزيه الكعبة" من "أدران الوهابية"، وقد جاءت جموع منهم من أوطانهم في إفريقيا وآسيا معبئين ومؤدلجين على أيدي بعثات التبشير الشيعية، وسيكون بين أهل السنة "مفكرون" و "أساتذة" مردوا على النفاق ـ على طراز الذين يذودون عن حزب الله اليوم ـ ينفون عن المشهد سمة الطائفية.
جملة عوامل لن تطلق يد الدولة السعودية في معالجة المشهد، ولن تأخذ المعالجة مجرى أحداث عام 1400هـ ـ 1979م، وستفعل الحسابات والمعطيات التي طوت اعتداء البقيع فعلها بواقع ضرر أكبر.
هل هذه خواطر ذهن مسكون بالتشاؤم؟ ليس في أدبيات الولي الفقيه ما يتعارض مع أدبيات أبو طاهر التي اقتحم بها البيت الحرام، وليس فيها ما يشجبها ولو تقية أو ديبلوماسية. لم يعد من بواعث الحرج عند الولي الفقيه البوح بأن زيارة كربلاء أعظم درجة من الحج إلى البيت العتيق، وأنها أعظم قداسة من المسجد الأقصى. أما توافد نسّاك ولاية الفقيه إلى المدينة النبوية فلا علاقة له بسنة شد الرحال إلى مسجد الرسول (ص)، وإنما للتوسل بأهل القبور، لا عبادة لهم، وإنما لتقربهم إلى الله زلفا، وإذا ما دخلوا المسجد النبوي فلشتم الشيخين كما فعل كبيرهم رفسنجاني.
أبجديات الاستراتيجيا تقول: الفعاليات الطائفية المتتابعة في قلب ومحيط الجزيرة العربية غارات تسبق الحدث الأكبر، ونقاط يوصل بينها خط المسار الطائفي الشيعي. السؤال: هل كان تحذير قبل ثلاثة عقود من اعتداء كحادثة البقيع ضرباً من الهوس؟ ها هو قد وقع، وها هي رائحة الدم تفوح بعد 30 عاماً على ثورة إيران في كل مكان: مكة المكرمة، المدينة المنورة، العراق، اليمن، البحرين، مصر، المغرب.
لو كان ابن كثير بين ظهرانينا اليوم لكتب ما يلي:"ثم دخلت سنة 1430هـ، في هذه السنة علا شأن دولة الرافضة في فارس، وناصرهم الروم والهندوس، واستعانوا بهم على المسلمين في العراق وخراسان (أفغانستان)، فقويت شوكتهم وعظمت إساءاتهم لحرمات الإسلام، وراحوا يشعلون الفتن في اليمن والبحرين ومصر وفاس، وسط ضعف ملوك وأمراء المسلمين. وسقطت بلاد الشام بأيدي النصيريين، وانزلق أهل بيت المقدس التي يحتلها اليهود في منزلق الفرس وأمِنوا مكرهم، وانبهر جهّال أهل السنة بضلالاتهم وعظمت الفتنة، والترك عاجزون عن نجدة العرب بعد قرن على فتنة عمياء مزقت ملكهما. في شهر ربيع الأول من هذه السنة هاجم الشيعة البقيع وأهانوا قبور أمهات المؤمنين، وأفلتوا دون عقاب يناسب قبح فعلتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
هكذا يبدو المشهد مجرداً عن التأثيرات الإعلامية والرتوش السياسية.
لسائل هنا أن يسأل: ما فرق المآلات بين من يصطحب فيلاً إلى الكعبة يريد هدمها وتحويل الناس عنها إلى "القليس"، الكنيسة التي شيدها أبرهة الحبشي في اليمن، وبين من يعتقد أن الحج إلى كربلاء يعدل سبع حجات إلى البيت العتيق؟ ما الفرق بين القليس وكربلاء؟
الفرق في المسار. كان منظر الفيل مفزعاً في المسار الحبشي، والاعتداء سافراً، قررت قريش على إثره المواجهة، لكنها أوكلتها إلى الله عز وجل (للبيت رب يحميه). كان الاعتداء عسكرياً، خاضه أصحاب الفيل بأنفسهم، وغادروا أرض المعركة كعصف مأكول. أما الاعتداء الشيعي فـ "مورفيني" آيديولوجي تنكري، يتسربل بلافتة أهل البيت، وقوده الناس المحليون، أي أنه حرب بالنيابة.
المطلوب هو: حرم يتناوب على منبره سنة وشيعة، يجيز التعبد بالمذهب الشيعي كما يفعل الأزهر، ويبشّر فيه ببزوغ العصر الفارسي وأفول العصر العربي، مثلما قال الخميني: "لقد حان الوقت للفرس أن يتهيأوا لقيادة العالم الاسلامي"، وهو ما تؤكده الأحاديث التي ينسبها الشيعة إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمتفشية اليوم. حينها لن يتبقى للعرب من إرث الرسالة شيء، ولا حتى جاه سدانة الكعبة وسقاية الحاج، وهي تسوية رفضتها قريش.
هذا هو فتح مكة في مفهوم ولاية الفقيه، الذي دعا إليه الخميني منذ اليوم الأول، وليس فتحها في عام 8 هـ، التي يرفض الشيعة مقررات تسويته السياسية التي أفرزت شريحة الطلقاء في المعادلة السياسية الإسلامية. فالطلقاء منافقون، وحقبتهم السياسية مردودة، وهي الحقبة التي عقد فيها قران الساسانية على لافتة أهل البيت، وولادة المشروع القومي الفارسي بالطلاء الشيعي، ليبدأ طريق الثأر إلى مكة، وقد وصل اليوم محطة البقيع.
مكة لم تفتح حسب الآيديولوجية الساسانية الشيعية، بل معها تصفية حساب. هنا، وفي ظل الكعبة ولدت أولى أفكار هدم ملك كسرى، حيث كان محمد يتوسد بردته، ويمنّي أصحاباً له أعراباً حفاة عراة شعثاً غبراً بكنوز كسرى، ويعدهم أن تكون أساوره ميداليات لهم.
مكة هي أساس المشكلة في الآيديولوجية الساسانية الشيعية؛ فيها ولدت الفكرة، وإليها عادت في 8هـ كقوة سياسية، وفيها فتح طريق الخلافة أمام "منافقيها" الأمويين العروبيين، الذين سلبت حقبتهم الأئمة "المعصومين" حقهم الإلهي المزعوم في الخلافة، وتحدثت فيها فارس العربية، واندرست الفارسية أو كادت. في ظل الكعبة ابتدأ الصراع العربي الإسلامي ـ الساساني المجوسي، وفي ظلها يخوض المشروع الساساني الشيعي فصله الختامي، حينها تأخذ كربلاء مكانتها التي تليق بها.
أداء دون المسؤولية
إن بقاء سدانة الكعبة، وسقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام في كنف المدرسة المذهبية التي صانت المشاعر وحفظت الشعائر وأفشت التوحيد في ربوع جزيرة العرب، هو خط أحمر، بكل ما يقتضيه هذا الخط من مقتضيات. وأن الذود عنه عقد بين طرفين، الأول: المسلمون، والثاني: الدولة السعودية، التي شرفها الله تعالى، ثم شرفها المسلمون واتمنوها على مقدساتهم.
من سوء حظ الدولة السعودية أنها تحارب إعلاماً آيديولوجياً عقائدياً بإعلام تجاري أجير، يتقلب مع تقلبات السياسة، اقتطع من شريحة اجتماعية وسلوكية وآيديولوجية لا تلقى قبولاً في المجتمع العربي حتى وإن اختارت الصواب يوماً، وإذ يريد هذا الإعلام كسب الجمهور العربي في هذه المعركة، فإنه يخوض معه معركة مفاهيم وقيم شرسة في موقع آخر، ما يجعل السعودية تخسر مرتين؛ مرة مع خصمها إيران، وأخرى مع خصوم خصمها، الذين هم سواد الأمة، وتفشل في إشراكهم في معركة سهلة المعالم، فلا يكسبها هذا الإعلام إلا شماتة الشامتين. ليس هذا ما يقلق الإنسان العربي والمسلم، وإنما وقوع معركة المشاعر في الخندق الخاسر في الحرب الإعلامية وحرب التعبئة الجماهيرية.
في نفس الاتجاه، فإنه عند ضعف الدول، وارتخاء قبضتها الأمنية، وهو ما نحن فيه ومقبلون عليه، لن يكون القانون سيد الموقف، ولا قوات الأمن، مهما كبرت هذه القوات وحسن إعدادها وكثرت نياشينها، وإنما من يملك الشارع ويتقن إدارة الغوغاء، وهذا ليس من اختصاص الدول، وإنما المشروع الطائفي، الذي أداته الإعلام الجماهيري، وذخيرته الغوغائية، وسوقه العوام والمنافقون، وميدانه الشارع والساحات العامة، وإذا ما أعادت القوى الكبرى تعريف حصانها الأسود وسط هذه التحولات ـ وهو ما تفعله عادة ـ انهارت قلاع الملح، وإيران الشاه نفسها أقرب مثال.
لقد كانت الكعبة قبل الإسلام رمزاً سياسياً لقريش بين القبائل العربية، وهي اليوم جاهاً دينياً وسياسياً أخيراً للعرب بين الشعوب الإسلامية. بوصول شعارات المشروع الطائفي الفارسي إلى مكة، ودنوّه جغرافياً منها، يكون هذا المشروع قد بلغ أبعد نقطة في صراعه مع الكيان السياسي العربي، بعد أن قوض دوله شمالي جزيرة العرب، تحديداً العراق وبلاد الشام.
مثلت قريش قمة البراغماتية في إدارة صراعها مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) (نعبد ربك عاماً وتعبد آلهتنا عاماً، إن أردت ملكاً ملّكناك، أو مالاً أعطيناك، أو نساءً زوّجناك،) لكن كان لديها خطوط حمراء، وهاجسها الأكبر هو صورتها عند العرب،كان سؤال: ماذا ستقول عنا العرب؟ يؤرّقها، وتجديدهم عقد السدانة لها ـ وإن ضمنياً ـ كان على رأس حساباتها، فلا يسعها أن يُرى أصحاب محمد في محيط البيت يؤدون طقوسهم الغريبة.
ما لم يتبدل قبل الإسلام وبعده، هو أن سدانة البيت شرف للسادن، وأن رضا الحاج حق عليه، وقد راعت قريش هذه المعادلة بحساسية ظهرت باستشعارها الحاد لما يفسدها، وردات أفعالها، وقرائتها الثاقبة لجديد الوحي، وتفننها الإعلامي في محاولة تشويه شخصية خصمها أمام ضيوفها، الذي سجله القرآن الكريم (شاعر، كذاب، كاهن، مجنون، كاتب أساطير)، وأقلمتها للصراع بعد أن أصبح الإسلام إقليمياً، بتحالفاتها مع العرب، ومحاولة تفريق دم الرسول (ص) بينهم، وعندما أحست أن البيت العتيق بعمارته وكسوته باقٍ في كنفها، لكن أهليتها الروحية والسياسية باتت على المحك، وأنها تموت موتاً بطيئاً، خرجت إلى الحرب.
إن سيناريو انهيار الدولة، وشيوع الفوضى، وانفراط عقد المجتمع، كما في العراق، ليس خياراً بحال من الأحوال، ليس في السعودية فقط، ولكن الخسارة هنا مضاعفة: خسارة محلية، وخسارة مقدسات إسلامية.
إعتداء الشيعة على البقيع ليس شأناً محلياً سعودياً، ومن غير مصلحة السعودية أن يكون كذلك، إيران هي من يريده أن يكون ذلك، ليكون الجسد الذي تطعنه سعودياً وهابياً، وليس عربياً إسلامياً، هي جيشت القبائل، لكنها تريدها معركة مع قبيلة واحدة، تهجوها ولا يهجوها أحد، ولا يرى على نصل خنجرها غير دمها.
إخراج معركة المشاعر المقدسة من ثنائية "السعودية ـ إيران" إلى ثنائية "المسلمون ـ إيران"، يعني تعدد منصات الهجاء المضاد، وتنوع قافيته، وحيازة مفاتيح العقل العربي والمسلم المختلفة. إيران أخذت باستراتيجية تعدد المنصات، وأطلقت يد منظمات مجتمع مدني إسلامية وقومية عربية وغير عربية، أغدقت عليها بسخاء، وتوغلت في العقل العربي والمسلم.
المشروع الطائفي الإيراني مشروع عالي الأداء، متطور الخطاب، يمازج بين القومية والمذهبية بذكاء كبير، التعامل معه وتفكيك مركباته محله منظومات البحث والتخطيط (Think Tanks) وليس من اختصاص الصحفيين وقراء نشرات الأخبار، مع الاحتفاظ لأدوارهم.
تعامل الدولة السعودية مع اعتداء البقيع لم يحز على إعجاب الإنسان العربي والمسلم، قلقه هو أن تضيع المقدسات التي في عصمتها.

بحث سريع