قصة قصيرة الكوفية و الدماء

بواسطة | أمل الأحوازي
2009/05/03

قصة قصيرة

الكوفية والدماء
كانت الثورة الإيرانية قد انتصرت ضد الشاه محمد رضا البهلوي، والعرب الأحوازيون فرحون من إطاحة نظام كان لم يعترف بوجودهم، واستقرار نظام إسلامي جعل لهم الشمس بيد والقمر بيد أخري بشعاراته الإسلامية قبل استقراره.
ولكن وبعد مضي أشهر قليلة، قتل هذا النظام الإسلامي العرب لأنهم طالبوا الحكومة الإسلامية الوفاء بعهودها التي وعدتهم لتحققها لهم.
فقتلت الحكومة الإسلامية المئات من العرب المسلمين الأحوازيين بدل إعطاءهم حقهم الشرعي، وصفت المخالفين لنهجها اللا إسلامي، ومن هنا فند الأحوازيون مشروعية الحكومة التي ادعت بالإسلام وبدأت بِالكذب والظلم والقتل، ونصبت الأميرال البحري مدني ورجل دين يسمى الخلخالي مسؤولين في المحمرة لقمع العرب.
وقد حش هذان المجرمان الأخضر واليابس معاً وقتلا العرب الأحوازيين في الأربعاء السوداء من حزيران عام 1979 في المحمرة دون أن يحاكمهم الخلخالي ودون أن يرتكبوا أي ذنب.
فكان يعربد حينئذ الخلخالي:
سنعدم من خالف النظام الإسلامي الإيراني بزعامة الخميني الكبير.
سنقتل العرب الحفاة أكالة الجراد.
سنعدم من عارض إسلامنا وحكومتنا الإسلامية.
لا فرق لنا بين الواحد أم الاثنين أم الألف، سنقتل المعارضين جميعهم.
وهلال مناضل من المحمرة، فقد صمم ورفاقه أن يناضلوا ضد الحكومة المنافقة بعد أن قتلت العرب، فبين آن وآخر كانوا يغزون قاعدة الحرس الإيرانيين ويشتبكون معهم، ولكن الحرس أقوى بكثير وفريق هلال يفتقر إلى المعدات والعدة.
وفي خضم تلك الأزمة كان هلال المناضل يحث أخاه نعيماً على أن يشترك معه في العمليات ضد الفرس، ولكن لم يفلح بإقناع أبيه وأخيه بأن الفرس ليسوا على حق، وأنهم ظالمون وأن الخمينـي لم يفي بعهوده للأحوازيين. وأصبح غاصباً حين رفض إعطاء العرب حقوقهم المشروعة.
إنما يخالف الأبُ هلالاً فيقول:
لقد جاء الخميني مبشراً بالإسلام والعدالة، وأنقذنا من ظلم محمد رضا البهلوي، والغاصب الحقيقي ليس إلا الشاه يا ولدي، هذا الذي عبث بثرواتنا وأبقانا على فقرنا.
فيهز هلال رأسه رافضاً لما قاله أبيه ثم يقول:
لقد ذهبت هيئة من عرب الأحواز لتطالب الخمينـي بما وعدنا به يا أبي العزيز، ولكنه رفض وأنكر ما قاله حين كان في فرنسا وفي العراق.
فكيف تتفاءل بحكومة كهذه؟
رتب الأب كوفيته على رأسه ثم قال:
سوف يعطينا الإمام حقوقنا، كن على يقين.
قال هلال وهو يعض شفته السفلى من شدة غيظه:
أنهم قتلوا المئات من العرب دون أي ذنب وأنت تقول سوف يعطوننا حقوقنا؟
اعتلى الغضب وجه الأب وقام قائلاً:
القاتلان هما الخلخالي ومدني وليس الخميني، ولو علم الإمام الخميني بجريمتهما هذه لجازاهما سوء عملهما.
رجع هلال خطوتين إلى الخلف ونظر إلى أمه التي كانت تفرك راحتيها قلقاً، مصغية إلى جدلهما، وكأنه يريد منها أن تسانده، فقال:
يا أبي أن الخلخالي ومدني لا يحركان ساكناً من بدأ نفسيهما، فلابد أنهما تلقيا أوامرهما من القائد الإمام كما تسميه.
إنما النقاش بين الابن والأب لا يجدي من فائدة، فالأب مقتنع تماماً بمصداقية شعارات الخميني الإسلامية وأنه سوف لن يفرق بين العرب والفرس والكل سيأخذ حقه بالسوية.
صم هلال كفيه بغضب فائق ثم خاطب أباه قائلاً:
كلكم تعرفون الحقيقة، إنما تخافون من الجهاد، كلكم على علم بأن الفرس يكرهوننا ولو تيسر لهم لأبادونا جميعاً، ولكنكم جبناء تريدون أن تعيشوا ولو بذلة، ولو تحت قيد استعمار عبادة النار.
ثم نظر إلى أخيه وأمه وواصل كلامه والدموع جرت على خديه:
قولوها نحن نخاف من الموت، قولوها أن الجبن والخوف هو الذي يمنعنا من الجهاد، قولوها بصراحة ولو أنها قد بدت لي واضحة، قولوها.
فجرت دموع أمه على خديها متأثرة بأقواله متعاطفة معه، ثم قالت مخاطبة إياه:
هدأ روعك يا ولدي واستر علينا، ما الفرق بينك وبين الألوف من هذا الشعب؟
قال وقد خنقته العبرات:
الفرق جلي يا أمي، أنا مجاهد وهم جبناء.
قام أبو نعيم ليضرب هلالاً بعد الإساءة التي سمعها منه -وكان يحترم أباه احتراماً فائقاً- فمنعته الأم.
فوجه خطابه لهلال والشرار يمطر من عينيه:
أنت متهور، تريد أن تقتلنا جميعاً، فخطايانا في رقبتك وأنت مسؤول في الآخرة عما سيجري لنا من سوء، والله سيحاسبك حساباً عسيراً لكفرك هذا ولوقوفك بوجه الحكومة الإسلامية الإيرانية التي تريد أن تحقق العدالة وتحكم بالشريعة.
واعلم يا ناكر الجميل يا عاقاً لأبيه! بأني سوف لن أسامحك لإهانتك لي.
ثم أعلم أني لست جباناً، بل شجاع لا أخاف الموت.
فيرى هلال أن لا جدوى من إطالة الحديث مع أبيه وأخيه فيخرج ليلتحق برفاقه.
وذات يوم خرج أبو نعيم وابنه الأكبر – نعيم – الذي كان يعـتـز به دائماً ويحبه حباً جماً، غرة الفجر من البيت قاصدين العمل. وكان أبو نعيم مرتدياً بنطلوناً وقميصاً وكوفية عربية.
فأوقفهما الحرس المقنعون، وبعدما فتشوا أبا نعيم ولم يجدوا عنده بندقية أو مواد مفجر أو إعلاميات الحزب العربي، أمروه بخلع الكوفية ففعل، ثم خاطبهم قائلاً:
إننا نحب الخمينـي والإسلام ونرفض عمل هؤلاء الذين يعارضون النظام الإسلامي. نحن لو أمرنا الخمينـي لفدينا أنفسنا وما نملك في سبيله، نحن نشكركم أيها الحرس، فنحن وإياكم طردنا الشاه العنصري واستقر نظامكم الإسلامي، نحن ولا شك سنعيش تحت راية الإسلام وأنتم سوف لا تفرقون بيننا وبين أهل طهران واصفهان وستقيمون القسط والعدالة لجميع المسلمين في إيران بالسوية.
ولكن ما الفائدة من مدح لا يفهمه الممدوح، فالفرس لا يعرفون شيئاً من اللغة العربية ولا أبو نعيم من الفارسية، فما فهموا ما قاله الشيخ بحقهم، فضحكوا وقال أحدهم:
(جي ميكي عربو؟) أي: ماذا تقول أيها العربي؟
ثم اعتقلوا نعيماً وأخذوه معهم، فحزن أبو نعيم كثيراً وسألهم:
أين تأخذون ابنـي؟
أفهموه بالإشارة: احضر غداً لتستلمه.
بحث أبو نعيم طول ذلك اليوم المحزن، المكفهر عن ابنه العزيز الذي كان يحلم أن يزوجه يوماً، فلم يجده، ولم ينم تلك الليلة الطويلة مهما سلاه هلال.
فتارة يرنو بطرفه نحو السماء ويرفع يديه داعياً:
يا رب استر، احفظ ولدي يا الله،
فإننا صلينا وصمنا،
ولم نأكل لقمة حرام،
ولم نتجاوز على حق أحد،
عشنا فقراء، كنا راضين برزقنا مهما قلّ،
تصدقنا للسائل والمسكين ولم نكن أغنى منه،
لم نؤذ جاراً، وكنا كريمين إذا ما حل بنا ضيف،
فاستمع إلى دعاءنا يا الله، وارجع إلينا نعيماً.
وتارة يلقي بنظره صوب زوجته ويبكيان معاً.
فتلك الليلة لم تستعذب الأسرة النوم، فالوالد يتلوى وكأنه مذعور والوالدة تمسح بدموعها طوال الليل ولم يغمض لها جفن.
وهلال مملوء قلبه بالرعب، فهو يعرف المقنعين جيداً أنهم لا يرحمون.
فبينما كانت هواجسهم تتقاذفهم كخشبة تتقاذفها الأمواج، سُمع صوت الديكة وأذن مؤذن الفجر والأسرة لم تذق النوم بتاتاً حتى الفجر، فصلوا ودعوا ربهم بالفرج وذهبوا معاً باحثين عن ابنهم نعيم الذي اعتقل وهو مؤمن بعدالة الثورة الإسلامية، فلم يعارضها ولم يحتج بالمظاهرات ضدها ولم يحمل السلاح بوجه ساستها، بل كان يظن أنها حكومة سوف تمنحه كل ما يستحق.
وصلوا مركز الشرطة، ولما سألوا الحرس المقنعين عن ابنهم، قال لهم أحد الحرس:
فليحضر أحدكم لمعرفة الرجل.
فذهب هلال مع ذلك الفارسي وقد بلغ به اليأس منتهاه.
وكم كانت دهشته عندما رأى الجنائز المبعثرة في الصالون، على وجه كل جنازة كوفية عربية ملطخة بالدم، فكاد أن يغمى عليه، تسرعت دقات قلبه، اصفرّ وجهه، عندها هتف الأعجمي بغضب: هيا ابحث عن قتيلكم.
ولما كشف هلال عن وجوه الشهداء الأبرار، عرف أخاه نعيماً وكان صدره ممزقاً بالرصاص، فمضى نحو أبيه متعثراً يكاد أن يختنق، وما أن رأى أبو نعيم ملامح الاضطراب على وجه هلال حتى أدرك كل شيء، فهتف بصوت مخنوق بالعبرات:
لماذا قتلتموه، إنه لم يرتكب أي ذنب!
سوف لن أغفر لكم عملكم الشنيع هذا، فدفعه أحد الحرس وقال:
كان خائناً.
جاءوا بالجنازة وبكاءهم وعويلهم يعلوا إلى السماء، شاكياً ظلم حكومة قتلت المئات من الأبرياء وأبكت الشيوخ ويتمت الأطفال، وذنبهم أنهم عرب!
ينظر أبو نعيم إلى هلال فيهبط رأسه وكأنه يريد أن يقول:
كنت على حق يا هلال فسامحني، لقد غشتني شعارات الخميني الإسلامية والآن عرفت أنها ليست كذلك.
أودعت الأسرة العربية الأحوازية جثمان الشهيد نعيم في التراب وكان بركان عظيم ثائراً في قلب الشيخ وهو يرى زوجته تكاد أن تموت حزناً لفقد ابنها.
مضت ثلاثة أيام ولم يسمح أبو نعيم للأسرة أن ترتدي ملابس سوداء قائلاً: الحداد ليس لائقاً بكم.
ثم اغرورقت عيناه بالدموع واستطرد كلامه:
لا معنى للحياة بدونك يا نعيم، ثم خلع الكوفية البقعاء وتعمم بكوفية حمراء واستعد للنضال ثم خاطب هلالاً والظلمة بدأت تسدل نقابها:
هيا بنا، يجب أن نقضي عليهم قضاءاً مبرماً.
ثم همس بهدوء: (آن للعربي أن يقول أنا عربي).
فناضل الأب والابن معاً حتى استشهدا وسجلت أسماءهما في سجل الفخر والعزة، سجل شهداء الأحواز.


{moscomment}

بحث سريع