الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فعن عامر بن واثلة أن نافع بن عبدالحارث لقي عمر رضي الله عنه بعسفان ، و كان عمر يستعمله على مكة ، فقال : من استعملت على أهل الوادي ؟ فقال : ابن أبزى ! قال عمر : و من ابن أبزى ؟ قال : مولى من موالينا ! قال عمر : فاستخلفتَ عليهم مولى ؟ قال نافع : إنه قاريء لكتاب الله تعالى و إنه عالم بالفرائض . قال عمر : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : ” إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ” رواه مسلم .
هذا هو القرآن يرفع المولى حتى يجعله أميراً عاملاً على مكة ، و يضع آخرين من القرشيين و غيرهم ، فلا يتولون إمارة مكة و لا يستعملون عليها مع كثرتهم في ذلك الزمان ،.. لم يكن هناك معنى مقدم عند الخليفة عمر رضي الله عنه أو واليه ، و لا عند من جاء من بعدهم من الخلفاء و الملوك و الأمراء على القرآن ..لا ” القرشية ” ، و لا ” الهاشمية ” ، و لا غيرها ..!
و في عهد الأمير خالد الفيصل ( الأمير رقم 271 من عهد النبي صلى الله عليه وسلم لمكة ) ، تم تقديم معنى حديث النشأة ليكون في وجه القرآن الكريم … ! و قد أعطى ذلك القرار رسالة خاطئة – في موسم الحج – عن منهج هذه البلاد !
هذه منطقة مكة ! فيها الكعبة البيت الحرام ، و بها المشاعر منى وعرفات و مزدلفة و الصفا و المروة و مقام إبراهيم و غيرها .. ، هنا دك الله الجبابرة ، و أرغم أنوفهم ، ..هنا نزل القرآن المكي ، حيث لا ” قرشية ” و لا ” هاشمية ” و لا ” شرافة ” ، و لا ” سعودة ” .. بل صوتُ ” القرآن ” يعلو على كل صوت ، فإن الإسلام يعلو و لا يعلى عليه !
في القرن التاسع الهجري : دخل أمير مكة الشريف حسن بن عجلان بن رميثة بن أبي نمي الأول – جد أشراف مكة و ما حولها – ساحة الحرم المكي يطوف حول الكعبة ، فوجد المقريء المجود الإمام محمد ابن الجزري في المسجد الحرام ، فأمر الشريف بحضور أبناءه و غلمانه للاستماع لحلقة الشيخ المقريء ابن الجزري رحمه الله . قال الفاسي –مؤرخ مكة – :”.. ، و حضر إليه الشريف حسن و بعض أولاده و أعيان غلمانه ، و سمعوا على شيخنا المذكور شيئاً من الحديث ، و قصيدة مدح بها السيد الشريف حسن بن عجلان . أولها :
سلامٌ كنشر المسك في السر والعلن يضوع على من وجهه كاسمه الحسن
حسيبٌ نسيبٌ سيدٌ متواضعٌ شريفٌ ظريفٌ كلُ وصفٍ له حسن )
( غاية المرام لابن فهد : 2/325-331 )
إنّّ من اللافت للأنظار أن الرئيس الفخري لجمعية تحفيظ القرآن الكريم لا يحضر غالب احتفالاتها ؟! بينما يشاهده الجميع : يحضر اجتماعات و احتفالات و مناسبات أخرى متعددة ، كـ: حضور ملتقى شباب الأعمال ، و حفل تخريج طالبات ، و حفل المتطوعات في كارثة جدة الأخيرة ..!
لقد فتح ذلك القرار الباب مشرعاً لمن يربط بين نمط ” المواجهة ” الذي كتب عنه سمو الأمير خالد الفيصل ، و بين قرار ” إغلاق حلق القرآن الكريم ” ..!
فالجميع يتذكر قول سمو الأمير للسياسي خالد الدخيل : ( و أخيرا… فإن المملكة (تواجه) الآن تحالفا (غريبا) بين قيادة تنظيم (القاعدة) وما يمارسه أذنابها من تخريب في محاولة لزعزعة استقرار المملكة, …) .
و قوله : ( … ، و لم ترضخ المملكة لأي من فريقي التحالف, فهي تواجه إرهاب القاعدة بضراوة وإصرار, و (تواجه) الصهيونية الغربية بالثبات على المبدأ والإصرار على تطبيق معادلة الملك المؤسس التي توازن بين الأصالة والمعاصرة ..) .
ثم قوله : ( …، أمازلت يا دكتور تعتقد بأن بلادك لا تواجه؟! لا.. بل تواجه.. وتواجه يا أستاذ العلوم السياسية ) ! ( مقال لخالد الفيصل منشور بجريدة الوطن بعنوان : بل تواجه و تواجه يا أستاذ العلوم السياسية
www.alwatan.com.sa/daily/2003-08-27/) .
إنّ ” الاعتدال السعودي ” يقضي بالتوسط على أقل تقدير ، و الوقوف موقف المحايد في باب السلطة والقرار ، فينحى جانب ” الفكر الأحادي الخاص ” في مواجهة الأمور العامة و الخاصة ، كما هي طبيعة سير هذه البلاد المباركة قيادة و شعباً .. ، فهل ” الاعتدال السعودي ” يمكن أن يغلق حلق القرآن الكريم في المسجد الحرام ؟! و هل معادلة الملك المؤسس رحمه الله تعالى في الجمع بين ” الأصالة ” و ” المعاصرة ” تضيق ذرعاً بحلق القرآن الكريم ؟!
حاشا و كلا ..!
و كما يعلم الجميع ، فإنّ ” الاعتدال السعودي ” هو نتيجة اجتماع الحكام الكرام من آل سعود مع العلماء الشرعيين ، حيث اجتمع ” السيف الماحي ” مع ” القرآن الشافي ” . قال جابر رضي الله عنه : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسم أن نضرب بهذا – يعني السيف – من أعرض عن هذا – يعني : المصحف ) ؛ فهذا هو سرُّ ” الاعتدال السعودي ” !
ليس سراً أن عدداً من البيوت و العوائل الحجازية الأصيلة – النافذة تاريخياً و اجتماعياً في مكة و جدة – أصبحت تجد حرجاً بالغاً من طريقة التعامل معها بأسلوب لم تتعود عليه ! و هذه جريدة ” الوطن ” تنشر للكاتب علي الموسى ( المخلص لبلاط سمو الأمير ) مقالاً عن أهل الحجاز و أنهم ” طرش البحر ” ، مما استدعى كاتباً حجازياً ( محمود عبدالغني صباغ ) أن يرد عليه بعنوان ( عوائل الحجاز ليسوا طرش بحر ! ) و بين فائدة تنوع و تعدد الأعراق بالحجاز و ثمرته على هذه البلاد ، و أنهم شركاء في ” الوحدة السياسية ” ! ( جريدة الوطن : 24 شوال 1430 ) .
و قد كان من آخر الأقدار : ما جرى للوجيه الحجازي صاحب المعالي محمد عبده يماني رحمه الله تعالى -وزير الإعلام الأسبق – حيث قضى نحبه مدافعاً عن قرار إغلاق حلق تحفيظ القرآن الكريم في مجلس سمو الأمير ، و هي من أجل الخواتيم !
أين هذه المواقف و المقالات من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذْ لما قام الرجل أمامه يرعد – بمكة – قال :” هون عليك فإني لست بملك ! إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد ” . رواه ابن ماجة ، و صححه الألباني برقم ( 2693 ) .
في تواضع نبوي جليل ، و درس تربوي بليغ ، مع أنه القائل : ” أنا سيد ولد آدم ولا فخر ” .
إن من غرائب القرارات : ربط إغلاق تحفيظ القرآن بمسألة السعودة ! إذ على أي اعتبار لا تقوى مسألة ” السعودة ” لتكون ذريعة أو مبرراً للإغلاق ! و هذا رئيس غرفة تجارة جدة صالح كامل يقول في مقابلة في جريدة الشرق الأوسط : ” إن مفهوم السعودة أخذناه بالعاطفة ولم يؤخذ بالمنطق، ولا بد من الاعتراف بأنه توجد مشكلة ” . (جريدة الشرق الأوسط الاربعـاء 05 ذو القعـدة 1431 هـ 13 اكتوبر 2010 العدد 11642 ) .
إنَّ الأصل في جمعية تحفيظ القرآن الكريم أنها لا تخضع لمفهوم السعودة ، و ذلك لأنها جهة مستقلة عن ” القطاع العام ” و القطاع الخاص ” ، كما أن أموالها أموال متبرع بها من الملوك و الأمراء ، و الوزراء ، و رجال الأعمال ، و التجار ، و المحسنون لوجه الله تعالى ، فهي من جنس الصدقات و الأوقاف المحبسة على تعليم القرآن دون اشتراط جنسية معينة لأخذ جعل المال .
و القرآن كما يرفع أقواماً ، فهو يضع آخرين ، و كما يهدي فهو يضل ، ..و كما أنه نور و هدى ، فهو لآخرين عمى و ضلال ، و كل من وجد له القبول و التمكين فهو بسبب بركة القرآن ، و كل من وجد الرفض و الخذلان ، فهو بسبب الصد عن القرآن .. ، و القرآن حكم عدل ما ” تعرض له من جبار إلا قصمه ” !
ليت سمو الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة يقتدي بصنوه الشاعر محمد بن راشد آل مكتوم في تبنيه لمسابقة إمارة دبي العالمية لحفظ القرآن الكريم ! فهل يمكن أن نسمع عن مسابقة الأمير خالد الفيصل العالمية لحفظ القرآن الكريم بمكة المكرمة ؟!
الشريف محمد بن حسين الصمداني – جدة ، 3 ذي الحجة 1431