هدم الأبنية على القبور سنةٌ مأثورة

بواسطة | د. عبد العزيز بن محمد آل عبدال
2011/05/09

 
 
 
 عن أبي الهيَّاج الأسدي – رحمه الله – قال: قال لي علي بن  أبي طالب – رضي الله عنه -: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؛ ألاَّ تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّيته»[1].
 
ولمَّا ذكر ابن القيم هدم مسجد الضرار وتحريقه قال: «ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فساداً منه، كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها أن تُهدَّم كلَّها حتى تسوَّى بالأرض، وهي أَوْلى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور، يجب أن تُهدَّم كلها؛ لأنها أسست على معصية الرسول؛ لأنه قد نهى عن البناء على القبور. فبناءٌ أُسِّس على معصيته ومخالفته بناءٌ غير محترم»[2].
 
وإذا كان تعظيم الله – تعالى – وشعائره وحرماته آكد الواجبات والفرائض، فكذا إهانة مظاهر الشرك والوثنية. فهذه الأبنيـة على القبور يتعيَّن إهانتهـا كمـا حرره ابن تيميـة بقوله: «كما ما عُظِّم بالباطل: من مكان، أو زمان، أو حجر، أو شجر، أو بِنيَّة، يجب قصد إهانته، كما تهان الأوثان المعبودة»[3].
 
وذكر – رحمه الله – طرفاً من مفاسد هذه المشاهد فقال: «وهـذه المشاهد الباطلة، إنمـا وُضعَت مضاهاة لبيوت الله، وتعظيماً لما لم يعظمه الله، وعكوفاً على أشياء لا تنفع ولا تضر، وصدّاً للخلق عن سبيل الله، و هي عبادته وحدَه لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم – »[4].
 
وتعظيم المشاهد سبيل النصارى الضالين: «والنصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهلة من المسلمين مما يوافق دينهم، ويشابهونهم فيه»[5].
 
«والذين يعظمون المشاهد لهم شَبَه شديد بالنصارى، ويفرحون بما يفعله أهل البدع مما يوافق دينهم»[6].
 
وظهور المشاهد متلازم مع ضعف الدول وانحطاطها، فالمشاهد ظهرت بعد القرون المفضلة.. لا سيما بعد ضعف الدولة العباسية وظهور دولة بني بويه الشيعية والقرامطة الباطنية[7].
 
والمقصود أن هدم المشاهد هو سبيل المؤمنين، وطريق الراسخين في العلم، وجادَّة سلكها ولاة الأمور من العلماء والحكام كما في الأمثلة التالية:
 
• فالحارث بن مسكين – رحمه الله – (ت 250هـ) هدم مسجداً بُني بين القبور[8].
 
• وأمر الخليفةُ العباسي المتوكل سنة 236هـ بهدم قبر الحسين بن علي، ونودي في الناس: من وُجِد هنا بعد ثلاثة أيام ذهبنا به إلى المطبق (السجن)[9].
 
• وقال أبو شامة (ت 665هـ): «ولقـد أعجبنـي ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجينأني أحد الصالحين ببلاد إفريقية في المائة الرابعة، حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله محمد ابن أبي العباس المـؤدِّب أنه كان إلى جانبه عين العافية كانت العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، من تعذَّر من نكاح أو ولد قالت: امضو بي إلى العافية، فتُعرف بها الفتنة. قال أبو عبد الله: فإنا في السحَر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأساً. قال: فما رُفِع لها رأس إلى الآن»[10].
 
• وأما ابن تيمية فله جهود مشهورة في إزالة هذه الأوثان، أوردها الغياني في رسالة مستقلة بعنوان: «فصل في ما قام به ابن تيمية وتفرَّد به؛ وذلك في تكسير الأحجار»[11] ومن ذلك أنه أزال العمود المخلَّق، وكسر بلاطةً سوداء زعموا أن عليها كفَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – ، كما حطم صخرةً كبيرةً كان الناس ينذرون لها، ويتبركون بها.
 
• وهدم الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – قبة زيد بن الخطاب بيده[12].
 
• وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب لما دخلوا مكة – حرسـها الله – سـنة 1218هـ: «فبعـد ذلك أزلنا جميـع ما يُعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه. حتى لم يبقَ في البقعة المطهرة طاغوت يُعبَد، فالحمد لله على ذلك»[13].
 
• وتوجَّه الأمير سعود بن عبد العزيز إلى كربلاء سنة 1216هـ وهـدم القبة الموضوعة على قبر الحسين،[14] وكان – رحمه الله – يقول: «أرهوا بالعوامل الفواريع (الفؤوس) نهدم بها الأوثان»[15].
 
• وقام الشيخ حافظ الحكمي في جنوب جزيرة العرب بهدم قبة في الساحل بمشاركة بعض زملائه، وبقايا قبة على قبر حمود المكرمي في سامطة[16].
 
• وساق الشيخ أحمد المعلم في كتابه الماتع النافع «القبورية» نماذج كثيرة لجهود الأئمة والعلماء وغيرهم في إزالة المشاهد في اليمن وتسوية القبور المعظَّمة عند العوام. ومن ذلك أن بعض القضاة والدعاة أزالوا مشهد «علوية» بمدينة المكلا، كما هدم بعضُ طلاب العلم مشهد «الصوفرة» سنة 1394هـ، وقام نخبة من الشباب سنة 1415هـ بهدم كمٍّ هائل من القباب[17].
 
والمقصود أن هدم الأبنية على القبور من الأمور الدينية الظاهرة، وعلى هذا كان عمل السلف الصالح قديماً وحديثاً، فلا نزاع في مشروعية هذا الهدم والإزالة والتسوية لهذه القبور والمشاهد، لكن يبقى إنفاذ هذا الحكم في الواقع وَفْقَ قواعد المصالح والمفاسد، وحسب درجات تغيير المنكر، وإذا تعسَّر إزالتها في موطن مَّا لأجل ملابسات غالبة أو مفاسد راجحة، فإن ذلك لا يسوِّغ السكوت عن تبليغ شرع الله وبيان حكم الله – تعالى – ورسوله في البناء على القبور. وأسوأ من ذلك أن يتفوَّه بعض المتسننة بما يوهم تجويز أو تهوين اتخاذ القبور مساجد وبناء المشاهد!
 
ومثل هذه النوازل لا ينبغي أن يسارع لها الشباب، بل يجب الرجوع إلى أهل العلم الربانيين، فهم أقدر من غيرهم على تحديد المصالح والمفاسد.
 
ويبدو أن بعض إخواننا – عفا الله عنهم – تغيب عنهم هذه الحقائق الشرعية إثر تراكم الحوادث، ويعتريهم الذهول عقب تكالب الوقائع والنوازل، وأشنع من هذا أن تكون سطوة أهل النفوذ قد أَنْسَت هؤلاء المتسننة مبادئهم!
 
لقد كان موقف بعض المتسننة تجاه الوثنية السياسية في غاية الهشاشة والمداهنة والاضطراب. فوقع بعضهم في تقديس الحكام بلسان الحال؛ فالحاكم عندهم يختص بالاحتساب والتكفير ورفع الخلاف وخفضه و… (لايشرك فيه غيره!)، فكان لهؤلاء المتسننة نصيب من التشبه بالرافضة في أصلهم «الإمامة»، ولو أنهم جعلوا ذلك محل اجتهاد لهان الأمر إلى حدٍّ مَّا، لكنهم يقطعون بأن ما يرونه هو الحق القاطع، و البرهان  الساطع، وسبيل أهل السنَّة والجماعة!
 
ثم إن فريقاً منهم قد هوَّن وثنية المشاهد والقبور، وجامل أفراخ عمرو بن لُحَي، فكان لهم نصيب من محاكاة الصوفية الغلاة!
 
وقد حكى الشيخ محمد الغزالي صوراً مهينة لبعض المحسوبين على أهل العلم ممن يقارفون وثنيةً سياسيةً أو وثنية الأضرحة والقبور، فقال – رحمه الله -: «وقد تذاكر الناسُ أن شيخاً كبيراً من جلَّة العلماء – كما يقولون – كان في المرض الذي يُسقِط عنه الصلاة لا ينسى أداء مراسم الوثنية السياسية، على حين كان الدكتور طه حسين – وموقفه من الدين معروف – يتكلم بحذر ويرسل مدائحه بقَدَر!»[18].
 
وقال في كتاب آخر: «والمعروف أن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أصدر فتوى بأن بناء الأضرحة حرام، ومع ذلك ما إن تولى المشيخة حتى سارع إلى زيارة ضريح الملك فؤاد؛ لأنه طبعاً أبو الصنم الحاكم (يعني فاروق)!»[19].
 
والحاصل أن هذه مواقف رخوة ومتهافتة و من طرائق الصدِّ عن سبيل الله – تعالى – وازدراء سبيل أهل السُّنة وامتهانهم؛ فكم نحتاج إلى رجالات يبلغون رسالات الله ولا يخشون في الله لومة لائم؟ فليس التديُّن مجرد محفوظات تقال وقت الدعة والرخاء؛ وإنما هو مواقف شجاعة تصدع بالحق حسب ما يوجبه الشرع المنزَّل.
 
ورحم اللـه ابن القيم القائل: «إن نبينـا محمـداً – صلى الله عليه وسلم – قـاوم العالم كله، وتجرَّد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله – تعالى – وآثر رضى الله الخالق من كل وجه… فإن المحنة تعظم أولاً، ليتأخر من ليس أهلاً، فإذا احتملها وتقدَّم انقلبت تلك المحن منحاً، وصارت تلك المؤن عوناً، وهذا معروف بالتجربة الخاصة والعامة؛ فإنه ما آثر عبد مرضاة الله على الخلق، إلا أنشأ الله من تلك المحنة نعمة ومسرة ومعونة بقدر ما تحمَّل من مرضاته. فيا خيبة المتخلفين ويا ذِلَّة المتهيبين»[20].
 
 
 
 
 
 
 
 
 
[1] أخرجه مسلم.
 
[2] إغاثة اللهفان: 1/327، وانظر: زاد المعاد: 3/506.
 
[3] الاقتضاء: 1/477، وانظر: مجموع الفتاوى: 25/321.
 
[4] الاقتضاء: 2/651.
 
[5] مجموع الفتاوى لابن تيمية: 17/462.
 
[6] مجموع الفتاوى: 17/461.
 
[7] انظر: قاعدة عظيمة لابن تيمية، ص151، ومجموع الفتاوى: 27/167.
 
[8] ترتيب المدارك لعياض: 1/332، والديباج المذهب لابن فرحون: 1/339.
 
[9] انظر: تاريخ ابن كثير: 1/315.
 
[10] الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص103، 104.
 
[11] انظر: الجامع لسيرة ابن تيمية ص78 – 96، والبداية لابن كثير: 14/34.
 
[12] انظر: تاريخ ابن غنام: 1/78.
 
[13] الهدية السنية، ص37.
 
[14] عنوان المجد لابن بشر: 1/257.
 
[15] الدرر السنية: 14/34.
 
[16] انظر: الشيخ حافظ الحكمي ومنهجه في العقيدة لأحمد علوشي، ص357.
 
[17] انظر: القبورية لأحمد المعلم، ص639 – 647.
 
[18] تأمُّلات في الدين والحياة، ص31.
 
[19] في موكب الدعوة، ص121.
 
[20] مدارج السالكين: 2/300 = باختصار

اضف مشاركتك هنا:

بحث سريع