الطريق إلى القمة (1)

بواسطة | إدارة الموقع
2004/12/12

الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
فإن الطريق إلى القمة زادها الهمة العالية، وقديماً قالوا: من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة؛ فمن أراد بلوغ القمم فلا بدله أن يشحذ الهمة بمبرد الجد والاجتهاد ، وأن يجعل زاده إذا أصابه جوع الكلل والملل ، استحضار عواقب تحصيل ما يرجو ويؤمل .
ومن أراد بلوغ القمم السامقة العالية.. فلا بد له أن يبادر إليها في أول شبابه ، قبل أن يبلى وينحني الظهر ، ولا يقوى على شئ عندها ؛ لأن الأمجاد والمعالي إنما تكتسب أيام الشباب الذي هو أخصب مراحل العمر ، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم :" لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه. وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وما ذا عمل فيما علم" [رواه الترمذي رقم (2416)،(2417) وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم(7176)،(7177)].
والمقصود أن ذلك هو الغالب، وإلا فإن من الناس من قد شاخ وابيض شعره، إلا إن همة الشباب … لا تزال متوقدة في قلبه .
في حين أن الكثير من الشباب قد شاخت قلوبهم ،وهم في مقتبل العمر فهم يحْبون حبواً. ومن الأمثلة على ذلك، ما رواه أهل السير أن خيثمة بن الحارث- رضي الله عنه- أراد أن يخرج إلى بدر مع ولده سعد- رضي الله عنه- ، فذكر ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأمر أن يخرج أحدها فاستهما – أي أجريا القرعة بينهما ، فقال خيثمة بن الحارث لابنه سعد :"إنه لا بد لأحدنا أن يقيم فأقم مع نسائك ، فقال سعد : لو كان غير الجنة لآثرتك به ، وإني أرجوا الشهادة في وجهي هذا فاستهما فخرج سهم سعد فخرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بدر فقتله عمرو بن عبد ود…" [الإصابة ( 2/ 25) ، لاستيعاب لابن عبد البر ( 4/ 142) والطبقات لابن سعد ( 3/ 6/ 47)]. فها هو خيثمة الذي قد كبر سنه وشاب شعره يسابق الشباب إلى المعالي فيقترع مع ولده أيهم يخرج للقتال ليبقى الآخر.
بهذه الهمة سبق أولئك فارتقوا قمة التاريخ فهم فيه الشامة التي تشرئب الأعناق إلى بلوغ مجدها ورفعتها ، وإذا كان ذلك الموقف يبين لنا مدى علو همة شبابهم وشيبتهم ، فإن لصغارهم فعالاً لا تقل شأنا عن تلك التي مرت معنا.
فهذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ينام وهو صغير لم يبلغ الحلم في فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويتسجى ببرد النبي- صلى الله عليه وسلم- الحضرمي الأخضر الذي كان ينام فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-وذلك ليلة هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، والمشركون من حول البيت قد أشرعوا سيوفهم ينتظرون الفرصة السانحة لقتل النبي- صلى الله عليه وسلم- ". [رواه أحمد بإسناد حسن كما ذكر الشيخ أحمد شاكر( 5/ 87) والحاكم في المستدرك (3/ 4) نقلاً عن كتاب السيرة النبوية 268 .د/ مهدي رزق الله أحمد].
وكان النبي- صلى الله عليه وسلم – قد طلب من علي -رضي الله عنه – أن يتأخر في ….. ريثما يؤدي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم – الودائع التي كانت عنده للناس". [ رواه ابن إسحاق بدون إسناد كما في سيرة ابن هشام ( 2/ 143) ووصله الطبري في تاريخه ( (2/ 378) فيكون الخبر حسناً ، نقلاً عن المصدر السابق ص 268 تعليقة رقم 61].
لله درك من صبي يعجز الكبار عن صنائعه !! إنها الشجاعة التي يتصاغر عندها الخوف من انتقام قريش حينما يدركون أن علياً-رضي الله عنه-قد خدعهم بنومه في الفراش ولا غرو فهو من آل بيت النبوة، وربيب النبي – صلى الله عليه وسلم – فليس ذلك غريباً على مثله ؛ لأنه قد أخذه عن أصله ومعينه محمد- صلى الله عليه وسلم-أشجع الخلق أجمعين. وانظر كيف يأتمنه النبي- صل الله عليه وسلم- على الأمانات والودائع ليوصلها إلى أصحابها من أهل مكة؛ وما ذلك إلا لعلو نفسه- رضي الله عنه-، وإلا لأنه أهلٌ لذلك .. فلم يبق لفارق السن أي تأثير.
وقبل أن يأخذنا الحديث عن أولئك الذين تفاخر المفاخر والمعالي بنسبتها إليهم . .. نقف عند كلام الراغب الأصفهاني- رحمه الله- وهو يبين صفة عالي الهمة فيقول :" والكبير الهمة على الإطلاق من يتحرى الفضائل لا لجاه ولا لثروة ولا للذة، ولا لاستشعار نخوة واستعلاء على البرية ، بل يتحرى مصالح العباد شاكراً بذلك نعمة الله ومتوخياً به مرضاته غير مكترث بقلة مصاحبيه فإنه إذا عظم المطلوب قل المساعد ، وطرق العُلاء قليلةُ الإيناس " . الذريعة إلى مكارم الشريعة ( 291).
ولأجل ذلك كان حادي أهل الهمم العالية:{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (74) سورة الفرقان.
وكما يقول ابن القيم: " وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين، هو سؤال أن يهديهم ويوفقهم، ويمن عليهم بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة؛ ظاهراً وباطناً التي لا تتم الإمامة إلا بها … وهذا بخلاف طلب الرياسة ، فإن طلابها يسعون في تحصيلها؛ لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، وتَعَبُدِ القلوب لهم وميلها إليهم ،ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم، مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم؛ فترتب على هذا المطلب من المفاسد مالا يعلمه إلا الله من البغي والحسد والطغيان ، والحقد والظلم والفتنة والحمية للنفس دون حق الله ، وتعظيم ما حقره الله واحتقار من أكرمه الله ، ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك ، ولا تنال إلا به وبأضعافه من المفاسد " الروح لابن القيم ( 241).
فمن أراد القمة… فهي الإمامة في الدين ..وهي المرتبة التي يكون صاحبها قدوة للناس في الخير ، وسبباً في سمو المجتمع ورفعته إلى المعالي والفضائل.
وكذلك سبباً في إزالة الرذائل ، وإخراج العباد من ظلمات التيه، وأودية السراب إلى الهداية، وغيث الإيمان.
قال الله- تعالى- :{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران
فكيف لعاقل أن يتخلى عن عظائم الأمور، ويشغل نفسه بالحقير من أمر الدنيا!!
ولنتأمل فيما يرويه الحسن بن علي -رضي الله عنه-الله عنه حيث قال : قال رسول- صل الله عليه وسلم- :" إن الله تعالى يحب معالي الأمور أشرافها ويكره سفسافها" .[رواه الطبراني في الكبير رقم(2894)ٍ وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 1886) والصحيحة ( 1388)] .
فمن طلب محبة الله فليجتهد بتحصيل معالي الأمور وأشرافها، وليترك الوضيع منها.
وكما قيل: بقدر ما يتعنى العبد ينال ما يتمنى.
وما أروع هذه الكلمات النورانية من ابن القيم التي يقول فيها:" وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم ، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة ، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق، تكون الفرحة واللذة فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له.
بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قادته لحياة الأبد. وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله والمستعان ولا قوة إلا بالله .
وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى، كان تعب البدن أوفر وحظه من الراحة أقل ….. ولا ريب عند كل عاقل أن كمال الراحة بحسب التعب، وكمال النعيم بحسب تحمل المشاق في طريقه، وإنما تخلص الراحة واللذة والنعيم في دار السلام، فأما في هذه الدار فكلا ولما" [ مفتاح دار السعادة 366-367].
فإذا كانت الهمة العالية بتلك الصفة …. وإذا كانت عواقبها كما مر ذكره فلا بد لكل واحد منا أن يبحث عن أسباب تحصيلها وإن من أهم تلك الأسباب :
  1- تحقيق الإخلاص لله تعالى:
 وكما يقول ابن القيم :" لقاح الهمة العالية النية الصحيحة، فإذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد. ونسيان رؤية المخلوقين بدوام النظر إلى الخلاق، يحث على الأخذ بمعالي الأمور) الفوائد (261).
قال تعالى :{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (19) سورة الإسراء.
يقول د.سيد العفاني :"الذي يريد الآخرة، لا بد أن يسعى لها سعيها؛ فيؤدي تكاليفها وينهض بتبعاتها، ويقيم سعيه لها على الإيمان، وليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. والسعي للآخرة يمد بالبصر إلى أفاقٍ أعلى؛ فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية، ولا ضير بعد ذلك في المتاع حين يملك الإنسان نفسه، فلا يكون عبداً لهذا المتاع.
وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموماً مدحوراً، فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ينتهي إليها مشكوراً، يتلقى التكريم من الملأ الأعلى؛ جزاء السعي الكريم لهدف كريم، وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء… إنها رفرفة الروح إلى آفاق لائقة بكمال الإنسان.." [بتصرف من صلا ح الأمة في علوا الهمة .(1/69)وما بعدها] .
ومن تمام الجزاء للمخلصين أن يجمع الله لهم مع حظ الآخرة حظ الدنيا؛ بالتمكين في الأرض فعن أبي بن كعب -رضي الله عنه-قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:" بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب"
[ رواه أحمد(5/134) والحاكم(4/311،318)وقال صحيح الإسناد. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (23)،(1332) ].
إن الطريق إلى السيادة، والرفعة، ورفع الذل والهوان عن أمتنا بين أيدينا؛ بأن نسموَ بهممنا لتصبح مرفرفةً حول العرش معلنة كمال التجرد، وكمال التوحيد في التوجه والقصد لله رب العالمين .

بحث سريع