الطريق إلى القمة (2)

بواسطة | إدارة الموقع
2004/12/12

كان الحديث في المقال السابق عن أهمية العالية وأنها طريق القمة الرفيعة وتخلل ذلك ذكر بعض صور أهل الهمة العالية وانتهى المقال ببيان الوسيلة الأولى من وسائل علو الهمة وهو الإخلاص وفيما يلي تكملة الموضوع بيان بقية الأسباب:
  2- الصدق:
والصدق في طلب العالي، يكون بالصدق في قصد المعالي إرادتها، ويضاف إليه الصدق في السعي إليها بفعله وكل ما يملك من قوة وطاقة.
فلا يسمح لأي هم آخر أن يصرفه عن طلب المعالي والعظائم، ثم يستفرغ جهده عملياً لتحقيق ما يريده وما يطلبه.
وعلى قدر قوة الصدق ف القصد والعمل يكون تحصيل المعالي.
عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رسول – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم!!
قال: "والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".[رواه البخاري رقم(3256)، ومسلم رقم(2831)]
  3- العلم:
وذلك لأنه يرفع صاحبه عن الدنيء والصغير من الأمور؛ فيمنعه من أن يصرف همه إليها وهو يعلم أن المعالي في غيرها، ويوجهه إلى عظائم الأمور وشريفها؛ لأنه يعلم علو شأنها ورفعة قدرها، فمن لم يكن عالماً بحقيقة ما يريد فلربما أراد نفعاً فوقع فيما فيه ضرر عليه، أو ربما حصَّل ما يعود عليه بالنقص والذم وهو لا يدري.
ومن أجل ذلك كان العلم من أهم القضايا التي حض الإسلام عليها ، قال تعالى آمراً نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن يقول:{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (114) سورة طـه .
ومدح أهل العلم بقوله:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28) سورة فاطر ؛ لأنهم هم الذين يحققون الخشية الحقيقية. وبقوله:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر.
ولا أدل على أهمية العلم وشرف صاحبه، وعلو منزلته من قوله تعالى:{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (18) سورة آل عمران.
فهل رأيت أشرف من هذا المقام الذي بلغه أهل العلم..!!
هل هناك صفة أشرف من أن يستشهدهم رب العزة – عز وجل – على أجل وأعظم مشهود به؛ وهو شهادة أن لا إله إلا الله؟!
وإن من شرف العلم وعلو منزلة أهله، أن الله جعل العلماء مرجعية الأمة قال الله تعالى:{فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43) سورة النحل .
أولئك الناس إن عُدُّوا وإن ذكروا ومن سواهم فلغوٌ غير معدود
  4- المداومة على العمل:
فإن أهل المنازل العليا لم يتبوؤا تلك المنازل في كل زمان ومكان، إلا بالمداومة في العمل والاستمرار دون كللٍ أو ملل.
فهذا سيد العالمين، وأفضل الأولين والآخرين… لما سئلت عائشة-رضي الله عنها- عن عمله – عليه الصلاة والسلام- قالت: "كان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستطيع". [رواه البخاري رقم (6466)].
فمن أراد بلوغ الرتب العالية، والمنازل الرفيعة فعليه ألا ينقطع عن السعي لتحصيلها، وليحذر اليأسَ أن يقطع عليه الطريق.. فكم من رتبة عالية،ومنزلة رفيعة كاد طالبها أن يصل إليها ولكن اليأس قطع طريقه قبل إدراكها..!!
  إذا ما علاء المرء رام العُلا      ويقنع بالدون من كان دونا
وليحذر طالب المعالي سوف وأخواتها.. فإنها تجعل صاحبها في ذيل القائمة بل ربما رمته خارجها..
ومن أراد بلوغ المعالي فليعلم أنها استغلال للفرص، والحرص عليها على جهة الدوام الاستمرار..
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل عاصفة سكون
  5- الحرص على معالي الأمور:
روى الحسن بن علي – رضي الله عنهما – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -:"إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها" [صحيح الجامع رقم (1886)].
يقول الشيخ الخضر حسين – رحمه الله -: "ومما جبل عليه الحر الكريم، أن لا يقنع من شرف الدنيا والآخرة بشيء مما انبسط له، أملاً يما هو أسنى منه درجة وأرفع منزلة؛ ولذلك قال عمر بن عبد العزيز لدكين الراجز: "إن لي نفساً تواقةً، فإذا بلغك أني صرت إلى أشرف من منزلتي هذه فبِعَينٍ ما أرينك. قال له ذلك وهو عامل المدينة لسليمان بن عبد الملك، فلما صارت إليه الخلافة قدم عليه دكين فقال له: أنا كما أعلمتك أن لي نفساً تواقة، وأن نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدنيا، فلما بلغتها وجدتها تتوق لأشرف منازل الآخرة.
وفي هذا المعنى: 
    والحر لا يكتفي من نيل مكرمة       حتى يروم التي من دونها العطبُ
يسعى به أمل من دونه أجل إن كَفَّهُ رهبٌ يستدعِهِ رغبُ
لذاك ما سال موسى ربه أرني أنظر إليك وفي تسآله عجبُ
يبغي التزيد فيما نال من كرم وهو النجي لديه الوحي والكتبُ
[باختصار من وسائل الإصلاح للخضر حسين (85-95) نقلاً عن نضرة النعيم (6986) وما بعدها].
  6- الدعاء:
لأن طالب المعالي لا بد أن يستعين بمن بيده قضاء الحوائج، وتحقيق الأماني، وهو الله -عز وجل- وكلما كان العبد قريباً من الله تعالى كلما رفع الله شأنه وأعلى قدره.. وكلما أعلن العبد انكساره وذله لمولاه، وأكثر التضرع إليه سبحانه وتعالى كساه الله – عز وجل – الرفعة والذكر الحسن بين خلقه.
ولذلك كان أعجز الناس من ترك الدعاء، كما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "إن أبخل الناس من بخل بالسلام، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء". [أبو يعلى في المسند رقم (6649)، وهو في صحيح الجامع (1519) ].
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره ولما ذكر الله – عز وجل – أرفع الناس منزلةً وأعلاهم درجة ورفعة في الدنيا والآخرة-وهم أنبياؤه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم-ذكر صفتهم التي اتصفوا بها فقال:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (90) سورة الأنبياء.
  7- الصبر:
لأن من صبر ظفر، وقيل إنما الراحة صبر ساعة فمن رام العلا صبر.. ألم تر أن الله- عز وجل- قال:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (24) سورة السجدة.
فجعل الإمامة في الدين بين العالمين جزاءً لهم؛ بصبرهم على مشاق الطريق ووعورة مسالكها.
هذا في الدنيا.. وأما في الآخرة فإن الله – عز وجل – جعل الفوز فيها لأهل الصبر قال تعالى:{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (111) سورة المؤمنون.
على قدر فضل المرء تأتي خطوبه      ويعرف عند الصبر فيما يصيبه
ومن قلَّ فيما يتقيه اصطباره فقد قلَّ فيما ترتجيه نصيبه
وهذا هشام بن عمار حافظ دمشق، ومسندها، ومقرئها، وأحد شيوخ البخاري وأبي داود وغيرهما.. يرحل إلى المدينة من نيسابور وهو لم يجاوز الحلم؛ فيصل إلى المدينة ولما وصل إليها ودخل على الإمام مالك حصل هذا الحوار حيث قال هشام: "حدثني فقال مالك: اقرأ، قال: فقلت: لا، بل حدثني، فقال: اقرأ، قال هشام: فلما راددته، قال: يا غلام، تعال اذهب بهذا فاضربه خمسة عشر، قال هشام: فذهب بي فضربني خمس عشرة دُرَّة، ثم جاء بي إليه، فقال: قد ضربته.
فقلت: قد ظلمتني.. ضربتني خمس عشرة دُرَّة بغير جُرْم ؛لا أجعلك في حل، فقال مالك: فما كفارته؟ قلت: كفارته أن تحدثني بخمسة عشر حديثاً، قال: فحدثني بخمسة عشر حديثاً. فقلت له: زد من الضرب، وزد من الحديث، فضحك مالك – رحمه الله -…" [انظر معرفة القراء الكبار للذهبي (1/196)]. 
  8- الخروج عن المألوف من العادات:
ولا يتحقق ذلك المطالعة إلى بلوغ القمة وطلب الترقي ، وهذا هو الذي ميز أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – حينما سموا يوم أن سقط أهل الجاهلية في براثن العوائد والأعراف الجاهلية.
لقد كان حادي المؤمنين السعي لتحقيق الوعد الإلهي في قوله تعالى:{لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (10) سورة الأنبياء ، فاتبعوه فكانت الرفعة التي لا يدانيها ولا يبلغها أحد هي النتيجة التي حصلوها.
ويكفيهم فخراً أنهم إذا نسبوا قيل عنهم أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بينما كان حادي ساقطي الهمم من المشركين ما ذكره الله عنهم من قولهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (22) سورة الزخرف .
  9- قراءة سير أصحاب الهمم العالية من السابقين:
وعلى رأس ذلك قصص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعلى رأسهم سيرة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -، ثم سيد أصحابه الذين بلغوا مراتب العزة التي لم يبلغها أحد غيرهم.
وليكن لنا في سيرة آل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – أعظم القدوة؛ فإنهم قد جمعوا بين صحبته – عليه الصلاة والسلام – وقرابته فحبهم له سببان الأول شرف الصحبة والثاني شرف القرابة.
  10- ذكر الموت وما بعده:
فصاحب الهمة العالية، ليس لديه ما يضيعه من الوقت.. لأن المطلوب يحدوه إليه، وكلما تكاسل فترة تذكر أنه إن لم يدرك مطلوبه الآن فلن يدركه حين تحل عليه السكرات، ولا تنفع حينئذ الآهات والعبرات.
فلنحرص ألا يحل بنا الموت إلا وقد بلغنا المنى.
قال تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} (99) سورة المؤمنون .
فيا لها من لوعة وحسرة حينما يهجم الأجل دون تحقيق ما أراد العبد وأمَّل.. فيا حسرة المقصرين.. حين يفوز الناس بأعلى وأغلى مطلوب.. جنة رب العالمين، ويبوء أولئك بالخسران المبين والعذاب المهين.. وقد انتهت الملذات والمشغلات التي شغلتهم عن بلوغ رفيع الغايات.. فأصبحوا صفراً.. ولم يبق إلا الحسرة والعذاب…!!
فهل هناك خسارة أعظم من هذه الخسارة، وهل تستحق أي لذة مهما بلغت لذة نيل الرضوان من الرحيم الرحمن عز وجل ؟!.
فحيَّ على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نرد إلى أوطاننا ونُسَلَّمُ
اللهم إنا نسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف ، والغنى..!!
اللهم إنا نسألك جوارك،ونسألك الدرجات العلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،وحسن أولئك رفيقا..آمين !!
  والحمد لله رب العلمين…

بحث سريع