مناهج الشرف 1 – المقدمة

بواسطة | محمد الخضر حسين
2005/01/16

الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وعلّمه كيف يعرج إلى فلك المعالي بأسلوب حكيم ، والصلاة والسلام على آله الذين استضاؤوا بهديه حتى استقاموا على الطريقة ، ثم الرضا عن أصحابه المجاهدين في سبيل إعلاء كلمة الله بالسيف والبرهان ، وكل من اقتدى على آثارهم فارتقى في أوج السعادة أرفع مكان .
(( أما بعد )) : فإن معنى الشرف ومنهاجه من أجمل الوجوه التي ينظر فيها الباحث عن حقائق الأشياء وأسرارها ، وأعز ما يباكر إلى اجتناء معرفته قبل أن يدرج في حياته الاجتماعية ويسابق في مضمارها ، وليست هذه المعرفة دانية القطوف فيتناولها كل باع ، من غير أن يفتقر في رسوخها إلى تحرير في العبارة واتساع ، فإنك ترى كثيراً من الناس لم يستنبطوا المعنى الذي يضمه الشرف تحت اسمه ، ولم يميزوا بينه وبين ما لا يضارعه في وسمه ، ولا يدخل معه في رسمه .
تتشعب مداركهم في ذلك بحسب اختلاف أذواقهم وما يلائم طبائعهم ، فربما ظنوا الرذيلة فضيلة فأعنقوا إليها ، أو حسبوا الفضيلة في قبيل ما يترفع عنه من الدنايا فاعتزلوا ساحاتها ، وشددوا النكير على من احتفظ بها ، ونشأ عن هذا تطرفهم في مقام الحكم بالتفاضل بين الرجلين ، إلى أن يذكر بعضهم في نعوت الشرف ما يعده غيره خسة أو لا غية .
هذا ما بعثني على أن أبحث في هذا الغرض مستمداً في تحقيقه من دلائل الشريعة المقدسة وسيرة علمائها الراشدين ، فإن الإسلام لم يلق بهذا المعنى في يد العادات والأذواق ، فَتُلبِسُ ثوب الشرف من تشاء ، وتنوعه عمن تشاء ، بل أقام له قواعد ، ورسم له معالم ، من تخطّى حدودها ، وبنى على غير أساسها ، كان في نظره سافلاً وضيعاً .
وإذا تقصينا أثر ما يعدّ من أوضاع الشرف في عادات الأمم ، واعتبرناه بنظر الإسلام ، وجدناه على أربعة وجوه :
( أحدها ) : ما وافق الشرعُ على اعتباره شرفاً في نفسه ، فأثنى على صاحبه ، ووعد بالمثوبة عليه ، كسماحة اليد ، وصدق اللهجة ، والصبر للشدائد .
( ثانيها ) : ما منحه التفاتة ، وربط به بعض أحكام ، ولكنه يصرح بأنه غير معتد به لنفسه ، وإنما وسيلة غاية شرف كنسخة المال ، أو أمارة تلوح إلى ما وراءها من فضل كرفعة النسب .
(ثالثها ) : ما تغاضى عنه ، ولم ينزل به إلى عدِّه نقيصة ، كزيادة علم لا تنبني عليه فائدة عملية .
( رابعها ) : ما أرشد إلى أنه يخدش في وجه الشرف ، ويسقط بمن يرتكبه في جرف المنكر ، كبسط يد القوة إلى ما ليس بحق ، ونصرة ذي القربى وإن كان مبطلاً . قال عمرو بن الأهتم(1) للأحنف(2) في مجلس عمر بن الخطاب(3) رضي الله عنه : إنا كنا نحن وأنتم في دار جاهلية ، وكان الفضل فيها لمن جهل ، فسفكنا دمائكم ، وسبينا نساءكم ، واليوم في دار الإسلام والفضل فيها لمن حلم .
و أما ما لا يرونه شرفاً ، ولا يسوقونه في مقام المفاخرة ، فعلى ضربين :
( أحدهما ) : ما كانوا يتخيلونه نقيصة تحط من مكان الرجل ، فكشف الشارع عن فساد تصورهم ، وأيقظهم إلى أنه يلتئم بنظام الشرف ، كالاحتفاظ بالبنات والجلوس مع المساكين .
(ثانيهما ) : ما حسبوه غير مناف للفضيلة ، وقاسوه بالأعمال التي يسعها أن تقارن كرم الهمة ، فنادى عليهم بالخطأ في قياسهم ، وأشعرهم بأنه مما ينقض بناء الفضل ، ويبلي أطلاله ، كتعاطي الربا .
_________________
(1) عمرو بن سنان ( 00 – 57 هـ : 00 – 677 م ) أحد سادات الشعراء الخطباء في الجاهلية والإسلام من أهل نجد ، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ، ولما تكلم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه كلامه فقال : إن من البيان لسحراً ، ولقب أبوه بالأهتم لأن ثنيته هتمت يوم الكلاب .
(2) الأحنف بن قيس بن معاوية (3 ق هـ 72 هـ : 619 – 691 م ) سيد تميم وأحد العظماء الدهاة الفصحاء الشجعان ، يضرب به المثل في الحلم ، ولد في البصرة .
(3) عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي ، أبو حفص (40 ق هـ : 584 – 644 م ) ثاني الخلفاء الراشدين وأول من لقب بأمير المؤمنين ، الصحابي الجليل يضرب بعدله المثل . بويع بالخلافة يوم وفاة أبي بكر سنة 13 هـ لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بالفاروق وكنّاه بأبي حفص . ودفن في المقام النبوي .

بحث سريع