مناهج الشرف 2 – الشرف والتفاضل فيه

بواسطة | محمد الخضر حسين
2005/01/16

يطلق اسم الشرف ويراد منه معنى الفضل ، قال في لسان العرب(1) : (( كل ما فضل على شيء فقد شرف )) . والفضل زيادة الشيء فيما هو كما فيه ، والشيء إنما يكمل بالوصف الذي يمتاز به ويراد منه ، كالصرامة في السيف ، والعدو في الفرس ، والإضاءة في الكوكب ، والحكمة في الإنسان ، واستيفاء مطالب الحياة وشرائط السعادة في الأمة ، وإجراء النظامات العادلة في الدولة .
يذهب بعضهم إلى أن التفاضل إنما يجري في أفراد النوع الواحد ، لأنها تعمل إلى جهة الكمال في قرن(2) ، وتتواطأ في سيرها على سنن ، ويصرح بأن عقد التفاضل بين الأشياء المختلفة في حقائقها ، المتباينة في غاياتها ، لا تجتني من ورائه ثمرة ، ويتعسر وضعه في مكان عادل .
و تحرير هذا : أن التفضيل بين الأمور المشتركة في جهة كمالها قريب المأخذ ، بحيث يقل فيه الإشتباه ، ولا ينتشر فيه اختلاف العقلاء متى دخلوا إلى تقريره من باب العدالة ، فإن جهة كمال النوع الواحد إذا تعينت ورسمت حدودها ، لم يبق لمن انتصب للتفضيل بين فردين منه سوى أن يقيم الموازنة بينهما من تلك الجهة ، فيجلى له حالهما من مساواة أو رجحان .
و أما الأمور المتمايزة بما هو كمال لها ، فإنها موضع الإلتباس ، فتستدعي إجالة نظر متسع ، ولا يسهل وضعها في وزن مستقيم . ومما يلقي الشبهة في تحقيق التفاضل بينهما ، أن الوصف الواحمد قد يعتبر في بعض الموجودات كمالا ، ويعد في غيره نقيصة ، ومن هنا ترى بعض المحكمين في التفضيل بين أمرين ، يتخذون افتراقهما في النوع عذراً يتخلصون به من القطع في المفاضلة بينهما . حكى أبو عبد الله بن الحباب(3) أن أبا جعفر أحمد بن يوسف الفهري اللبلي(4) سأله : ما الأحسن كتاب (( المقرب )) أو (( شرح الجمل )) لابن عصفور(5) ؟ قال : فما تخلصت منه إلا أني قلت له : ذلك تأليف مستقل وهذا شرح .
و يقف بك على دخول التفاضل بين الحقائق المتباينة وصحة التصدي للقضاء فيه ، قوله تعالى في نسق الامتنان على بني آدم : { وفضلناهم على كثيرٍ ممنْ خلقنا تفضيلاً }(6) . وإذا أُجريت المفاضلة بين المتباينين في الحقيقة ، ولم يُستند فيها إلى وحي سماوي ، فبملاحظة عظم منافعها وأهمية ما يقصد منها ، كما عقدوا التفاضل بين السمع والبصر ، والقلم والسيف ، والليل والنهار .

يتفاضل البشر بحسب كاستعداداتهم الفطرية ، وما يتهيأ لهم من وسائل الارتقاء ، إلى رجل تصعد به محامده حتى يسابق الملائكة في سماواتها العلى ، وآخر يهوي إلى درك لو زحزح عنه إلأى ما دونه ، التحق عند أولي البصير بمنازل الأنعام ، وبين هذين المرتبتين مقامات أوسع من أن يحيط بكثرتها التفصيل .
والذي يلقنك الحكمة في هذا التفاضل قوله تعالى : { نحنُ قَسَمْنَا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضَهم فوق بعض دَرجات ليتَّخذ بعشهم بعْضاً سخرياً }(7) . فلو وقف الناس فوق الناس في الفضل صفاً واحداً ، وتماثلوا في هممهم ومكتسباتهم ، لفسد نظام الاجتماع ، واختل أمر المعاش والعمران ، فإن فيما تمس إلأيه حاجتهم ، وتستدعيه نشأة حياتهم ، ما يأبى بعض أولي الهمم أن يباشر عمله بنفسه ، وإن غشيه من الأذى ما غشيه ، وقد تضعف به الاستطاعة أو لا يهتدي السبل إلى تحصيله ، فيفتقر في هذه الأحوال إلى ذي همة نازلة ، أو قدرة أوسع أو بصيرة أقوى .
و فيما تدعوك إليه الحاجة ما لا يرضى غيرك أن يصرف جهده فيه ، ويشتغل به وقته إلأى تجاه عوض من المال ، ومتى كان الناس في كفاية وغنى عن العوض ، لن يتنازلوا إلى معونتك فيما تتقاضاه حياتك من المطالب ، وقصر مجهودك عن أن تقوم به وحدك .
و إذا كان التفاضل في الحقيقة وارداً على مقتضى الحكمة ، فلا يُجمل بالرجل يأنس في نفسه المقدرة على إدراك منزلة ، ولكنها دون الغاية البعيدة ، أن يحبس عنانع ، ويبقى عاكفاً في زوايا العجزة ، بدعوى أنه لا يقنع إلا بالأمد الأسمى من السيادة . ولو أخد هذا بقبس من مراقبة أسرار الكون ، لأمضى عزمه ، واندفع في سيره ليبلغ إلى الغاية المستطاعة .
و ما كان ينبغي للرجل حين تقوم له في سبيل مجده عقبات تقطع عنه وجهته ، أن يركن إلى خاطر اليأس ، فينقض حبل رجائه ، وينقلب إلى طبقات الأسافل ، وليس له سوى أن يقف في مصارعتها حتى يكسر كعوبها ، ويفت في جلمدها ، فإن ما يتمخض به المستقبل ، وتجري به صروف الأقدار ، أكبر من أن يضبطه قياس ، أو تقضي عليه خواطر الإياس(8) .
يتحقق التفضيل بين الشخصين إذا انفرد أحدهما بأصل فضيلة خلي منها الآخر ، كالعالم والجاهل ، والشجاع والجبان ، أو بزيادة قسطه منها ، كالأعلم أو الأشجع يقاس بالعالم أو الشجاع ، وقد يختص كل منهما بحلية فضيلة أو فضائل لا يشاركه فيها صاحبه ، ولا يعول حينئذ في الترجيح على كثرة الفشائل فجواز أن تكون الفضيلة الواحدة أرجح في الموازنة وأوفى من فضائل متعددة ، وإنما يصار إلى حال كل فضيلة بانفرادها وتوزن بغيرها ، فيعلم أيها أشرف ثمرة أو أجزل فائدة .
و لا يلزم في إطلاق التفضيل ، أن يستوفي الأفضل ما عند المفضول من الكمالات ، فقد يستقل المفضول بمزية ، ولا يمنع استقلاله بها من إطلاق العبارة في تفضيل غيره عليه . ويصح إذا اختص المفضول بمحمدة ، أو كان نصيبه منها أوفر ، أن تقرر له الألإضلية من جهتها خاصة ، كالعالم الكريم لا يتمكن في سجية الإقدام ، فتفضله على الجاهل البخيل يبذل نفسه في مواقع الأخطار ، ولكنك لا تستطيع أن تغمض لهذا المفضول عن مزية إقدامه حتى لا تقضي له بالأفضلية من جهتها .
و إذا كنا نعد المزية ينفرد بها المفضول ، ويسوغ من ناحيتها على من ترجح عليه بغيرها من المزايا ، فلا يليق بخالص اعتقادنا الاعتراف بأن بعض أفراد الأمة قد يختص بحال كاملة يصدق عليها اسم المزية بدون أن يتحلى بها أفضل الخليقة صلى الله عليه وسلم . ومن هنا ينكشف لك الستار عما قرره القرافي(9) في قصة فرار الشيطان من عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ، ونَفْقَهُ كيف انتقض جوابه بأن اختصاصه بهذه المزية لا تقتضي تفضيله على النبي صلى الله عليه وسلم ، اعتباراً بقاعدة أن المزية لا تقتضي الأفضلية .
و الحق ما سنح لخاطر أبي إسحاق الشاطبي(10) من أن فرار الشيطان من ابن الخطاب إنما عدّ مزية له ، حيث كان كافلاً بحفظه من إغوائه وصيانته عما ينفثه في الصدور من الوسواس ، ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان معصوماً من نزعاته آمناً من تزييناته ، وإن قرب من من ساحته . ويوضع هذا أن المزية غاية تحصل بوسائل تختلف كالعلم مثلاً يناله أحد بمطالعة كتاب ويتلقاه آخر من تقرير أستاذ ، فلا يقال أن لمكتسب العلم من كتاب مزية عمن تلقفه من فم معلم ، متى استويا في الغاية التي هي العلم .
يقول بعضهم : لا يعرف مقدار فضل الرجل إلا من كان مساوياً له في مرتبته أو أعلى . وهذا مثل ما قال تقي الدين السبكي(11) حسبما نقله التاج في طبقاته : (( لا يعرف قدر الشخص في العلم إلا من ساواه في رتبته وخالطه )) ز ومقتضاه أن لا ينتصب للتفضيل بين العالِمين إلأا من كان في منزلتهما أو أرقى درجة .

و أنت إذا علمت ، أن من الناس من يصل إلى أن يستظهر الحقائق من مخباتها ، ولكنها إذا استخرجت ووضعت أمامه في أخلاط من الباطل عرفها بصفاء فطرته ، وميّزها من غير أن تلابسه ريبة ، تحققتَ أن الرجل قد يبلغ به الذوق الخالص إلى أن يعرف من كان ينطق بالقضايا التي تنحو نحو المقاصد البعيدة ، ويفرق بينه وبين من لم ترتفع يهم مداركهم عن الخوض في المسائل القريبة ، وإن لم يبلغ في نفسه أن ينسج على منواله ، ويرمي في تحقيق المباحث إلى غايته . ويعجبني قول بعض تلامذة الغزالي(12) : لا يعرف فضل الغزالي إلا من بلغ أو كاد يبلغ الكمال في عقله . وهي مقالة أمكن في الصواب من قول تاج الدين السبكي : لا يعرف أحد ممن جاء بعد الغزالي قدر الغزالي ولا مقدار علمه ، إذ لم يجيء بعده مثله .
 _________________
  1.الإمام اللغوي الحجة محمد بن مكرم بن علي ، أ[و الفضل ، جمال الدين ابن منظور (630 – 711 هـ : 1232 – 1311 م ) .
  2.يقال قَرَن الشيء بالشيء قَرْناً : شدَّه به ووصله إليه .
  3.أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عمر بن الحباب ، التونسي المعروف بابن الحباب ، فقيه نحوي من تآليفه : (( تقييد على معرب الجواليقي )) .
  4.أبو جعفر أحمد يوسف الفهري اللبللي ( 623 – 691 هـ : 1226 – 1292 م ) لغوي ، فقيه ، مؤرخ . ولد في لبلة بأشبيلية وتوفي في تونس . له آثار عديدة منها : (( البغية )) في اللغة ، وشرحان لفصيح ثعلب .
  5.علي بن مؤمن المعروف بابن عصفور حامل لواء العربية بالأندلس في عصره ( 597 – 669 هـ : 1200 – 1271 م ) توفي بتونس .
  6.سورة الإسراء – الآية 70 .
  7.سورة الزخرف – الآية 32 .
  8.الإياس : القُنوط .
  9.أحمد بن إدريس ( 00 – 684 هـ : 00 – 1285 م ) من علماء المالكية وهو مصري المولد والمنشأ والوفاة . له مصنفات جليلة في الفقه والأصول .
  10.إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي أصولي حافظ من أئمة المالكية من كتبه (( الموافقات في أصول الفقه )) . (00   – 790 هـ – 00 – 1388 م ) .
  11.علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الأنصاري الخزرجي أبو الحسن تقي الدين ( 683 – 756 هـ : 1284 – 1355 م ) شيخ الإسلام في عصره ، وأحد الحفاظ المفسرين المناظرين وهو والد التاج السبكي صاحب الطبقات . ولد في سبك من أعمال المنوفية بمصر وانتقل إلى القاهرة ثم إلى الشام ، وتوفي في القاهرة .
  12.محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي ، أبو حامد ، حجة الإسلام فيلسوف ، متصوف ، له نحو مائتي مصنف مولده ووفاته في الطابران ( قصبة طوس بخراسان ) ( 450 – 505 هـ : 1058 – 111 م ) .

بحث سريع