الأدارسة في صقلية(2)

بواسطة | حسين مؤنس
2005/03/24
تقدم الحديث في الحلقة الأولى عن وجود الأدارسة في صقلية ، و نقل الكاتب كلام ابن حزم و قوله في من بقي منهم أنه بقي (( شريداً طريداً في غمار العامة )) ، وهو هنا يناقش تلك المقولة بما يراه ، ويعرض لعلاقة الشريف الإدريسي بالملك رجار .
الشريف الإدريسي ورجار :
وواضح أن عبارة ابن حزم هذه فيها مبالغة ظاهرة ، فإن زوال الملك والسلطان من أيدي سلائل الأدارسة ليس معناه أنهم أصبحوا مشردين طريدين ، وإنما معناه أنهم انصرفوا عن السياسة وطلبوا العيش كما يطلبه سائر الناس محتفظين بما يضيفه عليهم حسبهم من المهابة والإحترام ، وابن حزم يذكر من هؤلاء نفراً ممن طلبوا العلم وظهر أمرهم فيه مثل محمد قاضي القيروان ، وهو ليس ابن الحسن الحجام كما يقول ابن حزم ، ولكنه كان من أعقابه ، ولدينا بعد ذلك الشريف الإدريسي ، وهو واضح النسبة إلى بيت إدريس من فروع الحموديين ، أي من جذم عمر بن القاسم بن إدريس بن إدريس ، ومع أننا لا نعرف من نسبته إلا أباه وجداً واحداً من أجداده – فهو محمد بن محمد بن عبد الله – إلا أن نسبة الحمودي الإدريسي لا يمكن إنكاره ، فقد كان أمراً معروفاً على أيامه ، ولم تقتصر شهرته على بلاد المسلمين بل عرفه به رجار الثاني صاحب صقلية الذي ألف له الشريف الإدريسي كتاب (( نزهة المشتاق )) .
وقد تعودنا على أن ننظر إلى دخول الشريف الإدريسي في خدمة ملك نصراني وعيشه في كنفه وتأليفه له كتاباً في الجغرافية كأنه أمر طبيعي لا غرابة فيه ، والحق أنه في ذاته مشكلة ، فإن القول المتواتر هو أن رجار استدعى الشريف الإدريسي ليصنع له صورة الأرض ويؤلف كتاباً في شرحها ، ولا نعرف كيف سمع به رجار بأمره ولا كيف استدعاه ، فإن الإدريسي لم يشتهر بالجغرافية قبل أن يستدعيه رجار ، فهو لم يؤلف فيها قبل ذلك كتاباً ، ولا سمع أحد في بلاد المسلمين نفسها أنه متضلع فيها ، فكيف يتصل أمر علمه هذا بذلك الملك النصراني ، وعلى فرض أنه سمع به فكيف يستدعيه ؟ لقد كان الإدريسي قد فرغ إذ ذاك من رحلته الشرقية وعاد إلى المغرب ومضى يتجول في أنحائه حيناً ، ثم مضى إلى الأندلس ودرس في قرطبة ، ولا ندري إن كان قد ظل في الأندلس أو عاد إلى سبتة ، وإنما الذي نعلمه أنه ظهر بعد ذلك في صقلية ودخل في خدمة رجار ومضى يعمل في رسم صورة الأرض ، فهل علم رجار بمكانه فبعث يستدعيه كما يستدعى الأساتذة والعلماء اليوم من معاهدهم وجامعاتهم لينشروا علمهم في بلاد أخرى ؟
إننا نتناقل ذلك ونأخذه قضية مسلمة على عهدة سطور قليلة مشكوك في قيمتها ، بعضها منسوب إلى خليل بن أيبك الصفدي وبعضها الآخر منسوب إلى ابن العماد الاصبهاني عن ابن بشرون أو منقول عن حاجي خليفة في كشف الظنون ، وهي سطور قلائل لا تكاد تلقي على حياة الشريف الإدريسي ضوءً ، حتى سنة مولده وهي سطور في القول المتعارف سنة 493/1099-1100 مرجعها الراهب الماروني ميخائيل الغزيري صاحب الفهرس اللاتيني القديم كمخطوطات الإسكوريال ، ذكرها دون أن يشير إلى مرجعه فيها ، وتناقلها الناس عنه بعد ذلك دون محاولة البحث في حقيقتها .
ولكن الثابت أن الشريف الإدريسي عاش وعمل في صقلية في بلاط رجار الثاني ، وليس لدينا ما يسمح لنا بالقول بأن الإدريسي لجأ بنفسه إلى رجار وطلب الدخول في خدمته ، وقد استبعدنا أن يكون رجار قد سمع به واستدعاه ، فلا بد أن يكون هناك طريق أخرى وصل بها الإدريسي إلى رجار وحظى عنده وكسب ثقته وعمل معه في ذلك الميدان الجغرافي ، وكان رجار مشغوفاً به متطلعاً إلى التوسع .
و عبثاً نحاول أن نجد مفتاحاً لهذا السر في مقدمة (( نزهة المشتاق )) ، فإن الإدريسي فيها متحفظ تحفظاً شديداً حتى لا يكاد يذكر اسم نفسه أو يشير إلى نصيبه في العمل الجغرافي الكبير الذي قام به ، وقد بدا لي بعد أن قرأت هذه المقدمة أكثر من مرة أن الإدريسي إما أن يكون قد وجد حرجاً كبيراً في تقديم كتابه إلى الملك النصراني فصاغ مقدمته في هذا الإسلوب المبهم الذي لا ينم عن شخصه أو أن غيره قام عنه بهذا التقديم ، فكتب هذه الفاتحة التي نجدها بين أيدينا ، وربما كان هذا الفرض الثاني أقرب إلى المعقول ، فإننا نستبعد أن يقول الشريف الإدريسي : (( .. الملك المعظم رجار المعنز بالله المقتدر بقدرته … )) أو (( … فمن بعض معارفه السنية ونزعاته الشريفة العلوية أنه لما اتسعت مملكته … )) فمهما كان من تقدير الإدريسي لرجار فما نحسب أنه كان يرى أنه جدير بأن يلقب بألقاب خلفاء الإسلام كالمعتز والمقتدر ، أو تخلع عليه صفة خاصة بالبيت النبوي الكريم ، نعم إن (( العلوية )) تقرأ هنا بضم العين وسكون اللام ، ولكنها تبدو لنا على أي حال هنا غريبة على لسان علوي شريف .
يتبع …

بحث سريع