فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

بواسطة | د. ناصر بن علي الشيخ
2005/03/24
ينبغي للمسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن أفضل البشر بعد الأنبياء هو صدّيق هذه الأمة المحمدية وهو أبو بكر عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التميمي يجتمع نسبه مع نسب النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب وأم الصديق أم الخير سلمى بنت صخر بن عامب بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بنت عم أبيه وأبوه أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو ، وهما صحابيان رضوان الله عليهما أجمعين(1) .
لقب بالصديق لسبقه إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ وروى الطبراني من حديث علي : (( أنه كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق )) (2) . وقيل : كان ابتداء تسميته بالصديق صبيحة الإسراء فقد روة أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت : لما أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان آمنوا به وصدقوه وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا : هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح قال نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبو بكر الصديق )) (3) .
صحب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به واستمر معه طول إقامته بمكة ورافقه في الهجرة وفي الغار وفي المشاهد كلها إلى أن مات وكانت الراية مه يوم تبوك وحج بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم(4) وقد دل على أنه أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، أما دلالة لكتاب فمن ذلك ما يلي :
1- قال تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل اللهُ سكينته عليه }(5) . أجمع المسلمون على أن المراد بالصاحب المذكور في الآية هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه )) (6) . أخرج ابن عساكر عن سفيان ابن عيينة قال : عاتب الله المسلمين كلهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر وحدخ فإنه خرج من المعاتبة ثم قرأ { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار }(7) .قال ابن جرير رحمه الله تعالى : (( وإنما عنى الله – جل ثناؤه – بقوله { ثاني اثنين } رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش إذ هما بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار وقوله : { إذ هما في الغار } يقول : إذ روسل الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه في الغار والغار : النقب العظيم يكون في الجبل { إذ يقول لصاحبه } يقول : إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر : { لا تحزن } وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما فجزع من ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن لأن الله معنا ، والله ناصرنا فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا )) اهـ(8) . وقال الحافظ ابن كثير : { إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين } أي : عام الهجرة لما هم المشركون بقتل ، أو حبسه ، أو نفيه فخرج منهم هارباً صحبه صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر رضي الله يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى الرسول عليه الصلاة والسلام منهم أذى فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول : (( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما )) (9) … ولهذا قال تعالى { فأنزل الله سكينته عليه } أي تأييده ونصره عليه أي : على الرسول صلى الله عليه وسلم في أشهر القولين وقيل : على أبي بكر وروي عن ابن عباس وغيره قالوا : لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة وهذا لا ينافي تجدد يكينة خاصة بتلك الحال )) اهـ(10) . وقال أبو بكر بن العربي : بعد قوله صلى الله عليه وسلم : (( ما ظنك باثنين الله ثالثهما )) وهذه مرتبة عظى وفضيلة شماء لم يكن بشر أن يخبر عن الله – سبحانه – أنه ثالث اثنين أحدهما أبو بكر ، كما أنه قال : مخبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر { ثاني اثنين } اهـ(11) .فالآية دلت دلالة واضحة على فضل أبي بكر رضي الله عنه حيث جعله الله ثاني النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { ثاني اثنين إذ هما في الغار } وما ذلك إلا لأن الصديق بلغ النهاية في الفضل رضي الله عنه وأرضاه .
2- وقال تعالى : { والذي جاء بالصّدق وصدَّق به أولئك همُ المتقون }(12) .
روى ابن جرير بإسناده إلى علي رضي الله عنه في قوله : { والذي جاء بالصدق } قال : محمد صلى الله عليه وسلم { وصدق به } قال : أبو بكر رضي الله عنه(13) .وهذه الآية أيضاً تضمنت فضيلة عظيمة ومنقبة عالية لأبي بكر رضي الله عنه ، وهي أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة من مكة إلى المدينة وشهد الله له فيها بأنه صاحب نبيه عليه الصلاة والسلام .
3- قال تعالى { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير }(14) . ذهب كثير من المفسرين منهم عبد الله بن عباس وابن مسعود وعبد الله ابن عمر ومجاهد والضحاك إلى أن المراد بصالح المؤمنين أبو بكر وعمر رضي الله عنهما(15) .
4- وقال تعالى : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى }(16) .
أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم { فسنيسره لليسرى } قال : الجنة(17) .
وقد ذكر العلامة ابن جرير الطبري أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه فقد روى بإسناده إلى عامر بن عبد الله بن الزبير قال : كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أي بني أراك تعتق أناساً ضعفاء ، فلو أنك تعتق رجالاً جلداً يقومون معك ، ويمنعونك ويدفعون عنك قال : أي أبت إنما أريد ما عند الله . قال فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه { فأما من أعطى واتقى وصدَّق بالحسنى فسنيسره لليسرى }(18) .
5- وقال تعالى : { وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحدٍ عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى }(19) . هذه الآيات ذكر الكثير من المفسرين أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وهذه الآيات فيها إخبار من الله تعالى أنه سيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى الموضح بقوله : { الذي يؤتي ماله يتزكى } أي : يصرف ماله في طاعة ربه ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا { وما لأحد عنده من نعمة تُجزى } أي ليس بذله ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفاً ، فهو يعطي في مقابلة ذلك ، وإنما دفعه ذلك { ابتغاء وجه ربه الأعلى } أي : طمعاً في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنات ، ثم ختم – تعالى – الآيات بقوله : { ولسوف يرضى } أي : ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات(20) .
قال الحافظ ابن كثير (( وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك ، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها فإن لفظها لفظ العموم ، وهو قوله تعالى { وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحدٍ عنده من نعمة تجزى } ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة ، فإنه كان صديقاً تقياً كريماً جواداً بذالاً لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم ، ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها ، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل ، ولهذا قال له عروة بن مسعود : وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة ، فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن عداهم ولهذا قال تعالى : { وما لأحد عنده من نعمةٍ تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى }(21) .تلك هي بعض آيات القرآن الكريم الدالة على أن أبا بكر أفضل الخلق بعد النبي عليه الصلاة والسلام .
وأما الأحاديث الدالة على أفضليته رضي لله عنه فكثيرة جداً ومنها ما يلي :
1- روى الشيخان في صحيحهما من حديث أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق حدثه قال : نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال : (( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما )) (22) .
هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه وتلك المنقبة أن رضي الله عنه كان ثاني اثنين ثالثهما رب العالمين . قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : (( وفيه فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه وتلك المنقبة أنه رضي الله عنه كان ثاني اثنين ثالثهما رب العالمين .قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : (( وفيه فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه وهي من أجل مناقبه والفضيلة من أوجه منها هذا اللفظ ومنها بذلد نفسه ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة الله تعالى ورسوله وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاداة الناس فيه ومنها جعله نفسه وقاية عنه غير ذلك )) اهـ(23) .
2- روى البخاري بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال : (( إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله )) قال : فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خير فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر وكان أبو بكر أعلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن من أمن الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً خليلاً(24) غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر )) (25) .وعند مسلم (( لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر )) (26) .وهذا الحديث فيه فضيلة لأبي بكر حيث كان أعلم الصحابة رضي الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما يقوله عليه الصلاة والسلام فقد فهم أبو بكر رضي الله عنه المراد بالعبد المخير وأنه الرسول صلى الله عليه وسلم فبكى حزناً على فراقه وانقطاع الوحي وغير ذلك من الخير المستمر الذي حصل ببعثته عليه الصلاة والسلام للناس كافة على وجه الأرض .
قال الإمام النووي : قوله صلى الله عليه وسلم : (( إن أمنّ الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر )) قال العلماء : معناه أكثرهم جوداً وسماحة لنا بنفسه وماله وليس هو المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة لأنه أذى مبطل للثواب ولأن المنة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في قبول ذلك وفي غيره )) اهـ(27) . وقال القرطبي : هو من الامتنان ، والمراد أن أبا بكر له من الحقوق ما لو كان لغيره نظيرها لامتن بها يؤيده قوله في رواية ابن عباس : (( ليس أحد أمنّ علي )) والله أعلم(28) .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر )) الخوخة – بفتح الخاء – وهي الباب الصغير بين البيتين أو الدارين ونحوه .وفي هذا فضيلة وخصيصة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه )) (29) .
3- روى الخاري بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر ولكن أخي وصاحبي )) وفي رواية قال : (( لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذته خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل )) (30) . وعند مسلم من حديث ابن مسعود : (( لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكنه أخي وصاحبي ، وقد اتخذ الله – عز وجل – صاحبكم خليلاً )) (31) .ففي هذا الحديث على اختلاف ألفاظخ فضيلة ظاهرة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد بين عليه الصلاة والسلام أنه لو صلح له أن يتخذ أحداً من الناس خليلاً لاتخذ أبا بكر دون سواه ، وأنه رضي الله عنه كان متأهلاً لأن يتخذه النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً لولا المانع المذكور في الحيث . فهذه منقبة عظيمة للصديق رضي الله عنه لم يشاركه فيها أحد .قال الحافظ عند قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي قبل هذا : (( ولكن أخوة الإسلام ومودته )) أي : حاصلة ووقع في حديث ابن عباس ولكن أخوة الإسلام أفضل – وكذا أخرجه الطبراني من طريق عبيد الله بن تمام عن خالد الحداء بلفظ (( ولكن خلة الإسلام أفضل )) وفيه إشكال فإن الخلة أفضل من أخوة الإسلام لأنها تستلزم ذلك وزيادة ، فقيل المراد أن مودة الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من مودته مع غيره ، وقيل : أفضل بمعنى فاضل ، ولا يعكر على ذلك اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة لأن رجحان أبي بكر عرف من غير ذلك وأخوة الإسلام ومودته متفاوته بين المسلمين في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق وتحصيل كثرة الثواب ولأبي بكر من ذلك أعظمه وأكثره والله أعلم )) اهـ(32) .
4 – وروى الشيخان من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيه فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ قال (( عائشة )) فقلت من الرجال ؟ قال : (( أبوها )) قلت ثم من ؟ قال : (( ثم عمر ابن الخطاب )) فعد رجالاً(33) .هذا الحديث فيه تصريح بعظيم فضائل أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم وفيه دلالة بينة لأهل السنة في تفضيل أبي بكر ، ثم عمر على جميع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين )) (34) .فكون أبي بكر أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه له فضلاً كثيراً وأنه أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
5- ورويا أيضاً : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( بينا راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب فقال من لها يوم السبع ليس لها راع غيري وبينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفت إليه فكلمته فقالت إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث )) قال الناس – سبحان الله – فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( فإن أومن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما )) (35) . وهذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لأبي بكر وعمر بن الخطاب ظاهرة لأبي بكر وعمر حيث أخبر عليه الصلاة والسلام أنهما يؤمنان بذلك ولم يكونا في القوم عند حكاية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك .
قال الإمام النووي : عند قوله صلى الله عليه وسلم : (( فإني أومن به وأبو بكر وعمر )) قال العلماء : (( إنما قال ذلك : ثقة بهما لعلمه بصدق إيمانهما وقوة يقينهما وكمال معرفتهما لعظيم سلطان الله وكمال قدرته ففيه فضيلة ظاهرة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما )) اهـ(36) .وقال الحافظ : (( ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما اطلع عليه من غلبة صدق إيمانهما وقوة يقينهما ، وهذا أليق بدخوله في مناقبهما )) اهـ(37) .
6- روى الإمام البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها وهو حديث السقيفة الطويل وفيه أن أبا بكر قال للأنصار : (( ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب داراً ، وأعربهم أحساباً . فبايعوا عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس … الحديث )) (38) .فعمر رضي الله عنه بين بأن الصديق أفضل الناس وخيرهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك قدموه في الخلافة لأنه الأحق والأفضل .
7- وروى أيضاً : بإسناده إلى محمد بن الحنفية قال : قلت لأبي : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبو بكر قلت ثم من ؟ قال : عمر وخشيت أن يقول عثمان قلت : ثم أنت قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين(39) . قال الحافظ : (( قوله وخشيت أن يقول عثمان قلت : ثم أنت قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين )) في رواية محمد بن سوقة (( ثم عجلت للحداثة فقلت : ثم أنت يا أبت فقال : أبوك رجل من المسلمين )) زاد في رواية الحسن بن محمد (( لي ما لهم وعليَّ ما عليهم )) وهذا قاله علي تواضعاً مع معرفته حين المسألة المذكورة أنه خير الناس يومئذ لأن ذلك كان بعد قتل عثمان : وأمّا خشية محمد ابن الحنفية أن يقول عثمان فلأن محمداً كان يعتقد أن أباه أفضل فخشي أن علياً يقول عثمان على سبيل التواضع منه والهضم لنفسه فيضطرب حال اعتقاده ولا سيما وهو في سن الحداثة كما أشار إليه في الرواية المذكورة )) (40) .
8- وروى البزار – كما في مجمع الزوائد – عن شقيق قال : قيل لعلي ألا تستخلف قال ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف عليكم وإن يرد الله – تبارك وتعالى – بالناس خيراً فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم )) (41) .
9- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى عليّ رضي الله عنه أنه قال لأبي حنيفة : يا أبا حنيفة ألا أخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيها قال : قلت : بل ولم أكن أرى أن أحداً أفضل منه قال : أفضل هذه الأمة رعد نبيها أبو بكر وبعد أبي بكر عمر وبعدهما آخر ثالث ولم يسمه )) (42) . فقد صرّح الإمام علي رضي الله عنه بأن الصديق خير الناس وأفضلهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم .
10 – وروى البخاري بإسناده إلى عمار بن ياسر قال : (( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر )) (43) . وهذا الحديث تضمن منقبة عظيمة وفضيلة خاصة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث لم يسبقه أحد من الرجال الأحرار للدخول في الإسلام فدل هذا على أنه أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
11 – وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال : (( كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان ابن عفان رضي الله عنهم )) (44) .هذا الحديث دل على أن أفضلية أبي بكر كانت ثابتة في أيامه عليه الصلاة والسلام وأنه أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الحافظ رحمه الله تعالى : (( قوله : (( كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : نقول : فلان خير من فلان )) وفي رواية عبيد الله بن عمر في مناقب عثمان (( كنا لا نعدل بأبي بكر أحداً ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم )) (45) وقوله : (( لا نعدل بأبي بكر )) أي : لا نجعل له مثلاً … ولأبي داود من طريق سالم عن ابن عمر (( كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي : أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان )) (46) زاد الطبراني في رواية (( فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينكره )) … وفي الحديث تقديم عثمان بعد أبي بكر وعمر كما هو المشهور عند جمهور أهل السنة )) (47) . وقال أبو سليمان الخطابي بعد حديث ابن عمر : (( كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ، ثم عمر ، ثم عثمان رضي الله عنهم ، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم )) وجه ذلك والله أعلم أنه أراد به الشيوخ الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر شاورهم فيه ، وكان عليٌّ رضوان الله عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث السن ولم يرد ابن عمر الإزراء بعلي – رضي الله عنه – ولا تأخيره ودفعه على الفضيلة بعد عثمان وفضله مشهور لا ينكره ابن عمر ولا غيره من الصحابة )) اهـ(48) . فقول ابن عمر : (( ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم )) لا يلزم منه أنهم تركوا التفاضل حينذاك ولا يلزم منه أن لا يكونوا اعتقدوا بعد ذلك تفضيل عليّ على من سواه )) (49) . فالحديث دل على أن أبا بكر أفضل الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كما هو مذهب أهل السنة والجماعة .
12 – وروى أيضاً بإسناده إلى أبي الدرداء رضي الله عنه قال : كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أما صاحبكم فقد غامر فسلم )) وقال : يا رسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال : (( يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً )) ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل : أثم أبو بكر فقالوا : لا ، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر(50) حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال : يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت وقال أبو بكر : صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي )) مرتين فما أوذي بعدها . (50) هذا الحديث فيه بيان فضل أبي بكر ، فقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم على الفاروق رضي الله عنه حين حصل بينه وبين الصديق شيء فشعر الصديق أنه المخطئ على عمر فطلب منه الصديق أن يعفو عنه ويغفر له فأبى عليه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ما حصل فاستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الفاروق ندم على عدم مغفرته للصديق فأخذ ففي البحث عنه فلم يجده في منزله فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده عنده فما أن وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد رأى تغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضباً حتى أشفق الصديق من ذلك لئلا يصيب الفاروق من ذلك شيء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو الذي بدأ فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم في بيان فضله ومناقبه ومنزلته عنده فقال لهم : (( إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت وقال أبو بكر : صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي )) مرتين فما أوذي بعدها لما أظهره النبي صلى الله عليه وسلم لهم من تعظيمه لأبي بكر رضي الله عنه .قال الحافظ : (( وفي الحديث من الفوائد فضل أبي بكر على جميع الصحابة وأن الفاضل لا ينبغي له أن يغاضب من هو أفضل منه وفيه جواز مدح المرء في وجهه ومحله إذا أمن عليه الافتتان والاغترار )) اهـ(51) . 13 – وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أصبح منكم اليوم صائماً ؟ )) قال أبو بكر : أنا ، قال : (( فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟ )) قال أبو بكر أنا ، قال : (( فمن عاد منكم اليوم مريضاً ؟ )) قال أبو بكر : أنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما اجتمعن في امرء إلا دخل الجنة )) (52) . هذا الحديث اشتمل على فضائل ظاهرة للصديق رضي الله عنه ، فإنه كان سباقاً إلى فعل الخيرات التي تقرب العبد من الجنة وتزحزحه من النار . قال النووي : قوله صلى الله عليه وسلم : (( من أصبح منكم اليوم صائماً )) قال أبو بكر أنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم (( ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة )) قال القاضي معناه : (( دخل الجنة بلا محاسبة ولا مجازاة على قبيح الأعمال وإلا فمجرد الإيمان يقتضي دخول الجنة بفضل الله تعالى )) (53) .
14 – وروى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة )) فقال أبو بكر : إن أحد صقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنك لست تصنع ذلك خيلاء )) قال موسى : فقلت لسالم : أذكر عبد الله (( من جر إزاره )) قال : (( لم أسمعه ذكر إلا ثوبه )) (54) هذا الحديث تضمن فضيلة لأبي بكر وهو قوله له صلى الله عليه وسلم : (( إنك لست تصنع ذلك خيلاء )) حيث شهد له المصطفى صلى الله عليه وسلم بما ينافي ما يكره رضي الله عنه وأرضاه .
15 – وروى أيضاً : بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال : (( اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان )) (55) دل هذا الحديث على منقبة عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه وهي (( وصديق )) فقد لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللقب الشريف ومنزله الصديقين بينها الله تعالى بقوله : { ومن يُطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً }(56) فقد بين تعالى أن الصديق في الرمتبة الثانية بعد الأنبياء وفي مقدمتهم الصديق الأعظم أبو بكر رضي الله عنه .
16 – وروى أيضاً : بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول : رحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( كنت وأبو بكر وعمر ، وفعلت وأبو بكر وعمر وانطلقت وأبو بكر وعمر )) فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما فالتفت فإذا هو عليٌّ بن أبي طالب(57) .فهذا الحديث تضمن فضيلة الشيخين معاً والغرض منه دلالته على منقبة لأبي بكر الصديق وهي فضله على عمر وغيره لأنه كان المقدم عند النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في ذكره عنده عليه الصلاة والسلام .
17 – وروى البخاري أيضاً : بإسناده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه توضأ في بيته ، ثم خرج فقلت : لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا قال : فجاء المسجد فسأل عن النبي صى فقالوا : خرج ووجَه ههنا فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته فتوضأ فقمت إليه فإذا هو جالس على بئر أريس وتوسط قفها(58) وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر فسلمت عليه ، ثم انصرفت فجلست عند الباب فقلت : لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم فجاء أبو بكر فدفع الباب فقلت : من هذا ؟ فقال : أبو بكر فقلت : على رسلك ، ثم ذهبت فقلت : يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن فقال : (( ائذن له وبشره بالجنة )) فأقبلت حتى قلت : لأبي بكر ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه ، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني فقلت : إن يرد الله بفلان خيراً يريد أخاه يأ به فإذا إنسن يحرك الباب فقلت : من هذا ؟ فقال : عمر بن الخطاب فقلت : على رسلك ثم جئت إلى رسول الله فسلمت عليه فقلت : هذا عمر بن لخطاب يستأذن فقال : (( ائذن له وبشره بالجنة )) فجئت فقلت له : ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره ودلى رجليه في البئر ، ثم رجعت فجلست فقلت : إن يرد الله بفلان خيراً يأت به فجاء إنسان يحرك الباب فقلت : من هذا ؟ فقال : عثمان بن عفان فقلت : على رسلك فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال : (( ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه )) فجئته فقلت له : ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك فدخل فوجد القف قد ملئ فجلس وجاهه من الشق الآخر قال شريك : قال سعيد بنالمسيب فأولتها قبورهم )) (59) .هذا الحديث فيه التصريح بفضل الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان ودل على أن أبا بكر أفضلهم لسبقه بالبشارة بالجنة ولجلوسه على يمين المصطفى عليه الصلاة والسلام .
18 – وروى البخاري أيضاً في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب – يعني الجنة – يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان )) فقال أبو بكر : ما عل هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة وقال : هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله قال : (( نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر )) (60). هذا الحديث دل على فضيلة ومنقبة عالية للذديق رضي الله عنه تضمنها قوله صلى الله عليه وسلم : (( وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر )) ورجاء النبي صلى الله عليه وسلم واقع محقق وفي هذا دلالة واضحة على فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم . قال العلامة ابن القيم موضحاً منقبة الصديق في هذا الحديث : (( لما سمعت همة الصديق إلى تكميل مراتب الإيمان وطمعت نفسه أن يدعى من تلك الأبواب كلها سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يحصل ذلك لأحد من الناس ليسعى في العمل الذي ينال به ذلك فخبره بحصوله وبشره بأنه من أهله وكأنه قال : هل تكمل لأحد هذه المراتب فيدعى يوم القيامة من أبوابها كلها ؟ فلله ما أعلى هذه الهمة وأكبر هذه النفس )) اهـ(61) .وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قوله : (( فقال أبو بكر : ما على هذا الذي يدعي من تلك الأبواب من ضرورة )) زاد في الصيام (( فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها )) وفي الحديث إشعار بقلة من يدعى من تلك الأبواب كلها وفيه إشارة إلى أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات كلها بخلاف التطوعات فقل من يجتمع له العمل بجميع أنواع التطوعات ، ثم من يجتمع له ذلك إنما يدعى من جميع الأبواب على سبيل التكريم له ، وإلا فدخوله إنما يكون من باب واحد ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه … وقوله : (( أرجو أن تكون منهم )) قال العلماء : الرجاء من الله ومن نبيه واقع وبهذا التقرير يدخل الحديث في فضائل أبي بكر ووقع في حديث ابن عباس عند ابن حبان في نحو هذا الحديث التصريح بالوقوع لأبي بكر ولفظه (( قال : أجل وأنت هو يا أبا بكر )) اهـ(62) .
19 – ومن مناقبه رضي الله عنه ما تميز به فوق ما حازه من الفضائل الكثيرة قيامه بالدعوة إلى الله تعالى في بداية الإسلام في وقت لم يجرؤ فيه أحد سواه على الدعوة وقد أسلم على يديه كثير من الصحابة رضي الله عنهم وكان لهم قدم صدق في الإسلام ومن هؤلاء عثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون ويرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين(63) .وبعد أن تولى الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم سعى جاهداً في إرساء العقيدة الإسلامية في نفوس الناس وعقد الألوية لمحربة المرتدين وإرجاعهم إلى دين الإسلام حيث ارتد كثير من الناس عن هذا الدين الحنيف ، وبعضهم أراد أن يمنع الزكاة والبعض الآخر ادعى النبوة فعمت فتنة الردة كثيراً من البلاد(64) . روى البيهقي رحمه الله بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : والذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله ثم قال الثانية ثم قال الثالثة ثم قيل له : مه يا أبا هريرة فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبع مائة إلى الشام فلما نزل بذي خشب(65) قبض النبي صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب حول المدينة واجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : والذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا : لولا أن لخؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام(66) .فقد وفق الله الصديق أن وقف موقفاً عظيماً يذكر به في الآخرين أمام تلك الردة التي عمت معظم البلاد وأصر إلا على قتالهم حتى يرجعوا إلى الإسلام وكان منفرداً بهذا الرأي حتى شرح الله صدر الفاروق لذلك وعرف أنه الحق فبارك الله خطاه حتى رفع راية التوحيد في كل البلاد التي مرض أهلها بالردة ، ثم شرع بعد ذلك في نشر الإسلام في البلدان التي لم يصلها نور الإسلام وسعادته حتى لقي ربه تبارك وتعالى .
20 – ومما تميز به عن غيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المصطفى عليه الصلاة والسلام انتقل إلى الرفيق الأعلى وهو بالسنح(67) فأصاب الناس الذهول والحيرة والاضطراب أمّا الصديق فقد رزقه الله قوة النفس والثبات فكان أصبر الصحابة وأثبتهم عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث جاء : (( فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله فقال : بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً ، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً ، ثم خرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال : ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت وقال : { إنك ميت وإنهم ميتون }(68) . وقال : { وما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين }(69) قال فنشج الناس يبكون …. )) الحديث(70) . وما إن سمع الصحابة رضي الله عنهم هذه الخطبة من صدّيق هذه الأمة إلا ورجعوا إلى الرشد والصواب وانكشف ما بهم من الحيرة والذهول ولذلك كان أفضلهم على الإطلاق .
تلك هي طائفة من لأحاديث التي اشتملت على المناقب التي دلت على أن الصديق حاز الأفضلية على سائر الناس بعد الأنبياء عليهم السلام .
وأما دلالة الإجماع على أفضلية الصديق رضي الله عنه :
فقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على أن أفضل الصحابة والناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم عليٌّ ، ثم سائر العشرة ، ثم باقي أهل بدر ، ثم باقي أهل أحد ، ثم باقي أهل بيعة الرضوان ثم باقي الصحابة هكذا إجماع أهل الحق ، فأبو بكر أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم لا ينازع في ذلك إلا زائغ (71) ، وقد نقل الإجماع على أن أفضل الناس بعد الأنبياء هو أبو بكر الصديق جماعة من أهل العلم منهم :
أبو طالب العشاري(72) والإمام الشافعي والنووي وشيخ الإسلام بن تيمية وابن حجر والبيهقي :
- فقد روى أبو طالب العشاري بإسناده إلى عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال : من فضل على أبي بكر وعمر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وطعن على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم(73) . – وقال الإمام الشافعي فيما رواه عنه البيهقي بإسناده : (( ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة وإنما اختلف من اختلف منهم في عليٍّ وعثمان ونحن لا نخطئ واحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعلوا )) (74) . – وقال الحافظ ابن حجر : (( ونقل البيهقي في (( الاعتقاد )) بسنده إلى أبي ثور عن الشافعي أنه قال : أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ، ثم عمر ثم عثمان ، ثم علي )) (75).
- وقال النووي رحمه الله تعالى : (( اتفق أهل السنة على أن أفضلهم أبو بكر ثم
عمر )) (76).
- وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : (( وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن علي بن أبي طالب أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر )) (77).
- وقال ابن حجر اللهيثمي : (( اعلم أن الذي أطبق عليه عظماء الملة وعلماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق ثم عمر رضي الله عنهما )) (78) .
وهؤلاء الأعلام الذين نقلوا هذا الإجماع إنما هو بناء على ما قاله أئمة أهل السنة والجماعة فقد قال الإمام أبو حنيفة كما في شرح (( الفقه الأكبر )) : ونقر بأن أفضل هذه الأمة بعد نبيها محمد عليه أفضل الصلاة والسلام أبو بمر ثم عمر ثم عثمان ثم عليّ رضي الله عنهم أجمعين )) اهـ(79- وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الإمام مالك بن أنس أنه قال : لما سأله الرشيد عن منزلة الشيخين من النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بع مماته – ثم قال – وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والائتلاف والمحبة والمشاركة في العلم يقضي بأنهما أحق من غيرهما وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم )) (80) ومعلوم أن أبا بكر كانت منزلته عند النبي صلى الله عليه وسلم أعلا منزلة وكان أفضل الصحابة وكان الصحابة يعتقدون أنه خير الناس والنبي يعلم ذلك وقرهم عليه كما تقدم قريباً في حديث ابن عمر .
- وروى الإمام البيهقي مسنداً إلة محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول : (( أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، ثم عمر ثم عثمان ، ثم علي رضي الله عنهم )) .وقال أيضاً رحمه الله تعالى : (( اضطر الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فلم يجدوا تحت أديم السماء خيراً من أبي بكر من أجل ذلك استعملوه على رقاب الناس )) (81) . وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه : (( وخير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، وعمر بعد أبي بكر ، وعثمان بعد عمر ، وعلي بعد عثمان ووقف قوم على عثمان وهم خلفاء راشدون مهديون )) (82) .وقال عبدوس بن مالك العطار : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : (( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق )) (83) . – وقال أبو الحسن الأشعري مبيناً مذهب أهل السنة وعقيدتهم في السلف : (( ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله – سبحانه – لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم … ويقدمون أبا بكر ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علياً رضوان الله عليهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم(84) .
- وقال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى : (( وأفضل أنه صلى الله عليه وسلم : أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ، ثم عثمان ذو النورين ، ثم علي المرتضى رضي الله عنهم )) (85).
- وقال الإمام الذهبي : (( أفضل الأمة وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤنسه في الغار وصديقه الأكبر … عبد الله بن أبي قحافة عثمان القرشي التيمي )) اهـ(86) .
- وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : (( وأفضل الصحابة بل أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم السلام أبو بكر عبد الله بن عثمان أبو قحافة التيمي ، ثم من بعده عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين )) اهـ(87) .تلك هي عقيدة أهل السنة والجماعة في أبي بكر الصديق (( وهي الإيمان والمعرفة بن خير الخلق وأفضلهم وأعظمهم منزلة عند الله – عز وجل – بعد النبيين والمرسلين أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة رضي الله عنه )) (88) . وهذا هو المذهب الحق الذي يلزم كل مسلم أن يعتقده ويلتزمه ويتمسك به . وبالله التوفيق .

بحث سريع