فضل عمر الفاروق رضي الله عنه

بواسطة |  د. ناصر بن علي الشيخ
2005/03/24
إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يلي أبا بكر الصديق في الفضل فهو أفضل الناس على الإطلاق بعد الأنبياء وأبي بكر وهذا ما يلزم المسلم اعتقاده في أفضليته رضي الله عنه وهذا هو معتقد الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة . ونسبه رضي الله عنه هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب وعدد ما بينهما من الآباء إلى كعب متفاوت بواحد بخلاف أبي بكر فبين النبي صلى الله عليه وسلم وكعب سبعة آباء ، وبين عمر وبين كعب ثمانية ، وأم عمر حنتمة بنت هشام بن المغيرة ابنة عم أبي جهل والحارث ابني هشام بن المغيرة(1) .
وهو أحد السابقين إلى الإسلام وبإسلامه رضي الله عنه ظهر دين الإسلام وعلت كلمة الإيمان وكان عند البعثة النبوية شديداً على المسلمين ، ولما دخل في الإسلام كان إسلامه فتحاً على المسلمين وفرجاً لهم من الضيق(2) . قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (( إن كان إسلام عمر لفتحاً ، وهجرته لنصراً ، وإمارته رحمة ، والله ما استطعنا أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتلهم حتى ودعونا فصلينا )) (3) .وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه : (( أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب )) (4) وقد حقق الله فيه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له قبل أن يسلم أن يعز به الإسلام فقد روى الترمذي بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب )) قال : وكان أحبهما إليه عمر(5) . وأخرج ابن سعد بسند حسن عن سعيد بن المسيب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عمر بن الخطاب ، أو أبا جهل بن هشام قال : (( اللهم اشدد دسنك بأحبهما إليك )) فشدّ دينه بعمر بن الخطاب(6) .وكان يكنى رضي الله عنه بأبي حفص . قال الحافظ : أما كنيته فجاء في السيرة لابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه بها وكانت حفصة أكبر أولاده ، وأما لقبه الفاروق باتفاق . فقيل : أول من لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو جعفر بن أبي شيبة في تاريخه عن طريق ابن عباس عن عمر رواه ابن سعد من حديث عائشة(7) . وقيل : أهل الكتاب أخرجه ابن سعد عن الزهري(8) وقيل : جبريل رواه البغوي(9) .وأحسنهما وأقربهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لقبه بالفاروق لما رواه ابن سعد بإسناده إلى أبي عمرو ذكوان قال : قلت لعائشة : من سمى عمر الفاروق ؟ قالت : النبي عليه السلام )) (10) .فهو رضي الله عنه الفاروق الذي فرق الله بيه بين الحق والباطل ، وهو الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه ، وهو المحدث الملهم الصادق الظن وهو سيد هذه الأمة بعد الصديق ، والخليفة الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة المحمدية (( اتفق العلماء على أنه شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغب عن غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم )) (11) .
وقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة بفضائل الفاروق رضي الله عنه منها :
1- ما رواه الشيخان من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة فقلت من هذا ؟ فقال : هذا بلال ورأيت قصراً بفنائه جارية ، فقلت : لمن هذا ؟ فقال : لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك )) فقال عمر : بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار .
2- ورويا أيضاً : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال : (( بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت : لمن هذا القصر؟ قالوا لعمر فذكرت غيرته فوليت مدبراً )) فبكى عمر وقال : أعليك أغار يا رسول الله )) (12) . هذان الحديثان اشتملا على فضيلة ظاهرة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برؤيته قصراً في الجنة للفاروق رضي الله عنه وهذا يدل على تكريمه وعلو منزلته رضي الله عنه . قال ابن بطال : (( فيه الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه قال : وبكاء عمر يحتمل أن يكون سروراً ، ويحتمل أن يكون تشوقاً أو خشوعاً … )) وقال الحافظ (( وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مراعاة الصحبة وفيه فضيلة ظاهرة لعمر )) اهـ(13) .
3- وروى البخاري بإسناده إلى حمزة بن أسيد الأنصاري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( بينا أنا نائم شربت – يعني اللبن – حتى أنظر إلى الرّي يجري في ظفري أو في أظافري ، ثم ناولت عمر )) فقالوا : فما أولته قال : (( العلم )) (14) . (( وجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع وكونهما سبباً للصلاح ، فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي وفي الحديث فضيلة – ومنقبة لعمر رضي الله عنه – وإن الريا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي لكن منها ما يحتاج إلى تعبير ومنها ما يحمل على ظاهره … والمراد بالعلم – في الحديث – سياسة الناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم يكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدته الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله واستخلف عليٌّ فما ازداد الأمر إلا اختلافاً والفتن انتشاراً(15) . وبهذا اتضحت المنقبة التي اشتمل عليها الحديث للفاروق رضي الله عنه .
4- وروى الشيخان من حديث أبي يعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص فمنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ، وعرض علي عمر وعليه قميص اجتره )) قالوا فما أولته يا رسول الله ؟ قال : (( الدين )) (16) . هذا الحديث تضمن فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه وهي قوله (( وعرض علي عمر وعليه قميص اجتره )) إلخ الحديث . قال الحافظ : (( السائل عن ذلك أبو بكر … وقد استشكل هذا الحديث بأنه يلزم منه أن عمر أفضل من أبي بكر الصديق والجواب عنه تخصيص أبي بكر من عموم قوله عرض علي الناس فلعل الذين عرضوا إذ ذاك لم يكن فيهم أبو بكر وأن كون عمر عليه قميص يجره لا يستلزم أن لا يكون على أبي بكر قميص أطول منه وأسبغ فلعله كان كذلك إلا أن المراد حينئذ بيان فضيلة عمر فاقتصر عليها والله أعلم )) اهـ(17) .
5- ورويا أيضاً : من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالة أصواتهم على صوته فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال : أضحك الله سنك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب )) قال عمر : فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله ثم قال عمر يا عدوات أنفسهن ، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن : نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً(18) قط إلا سلك فجاً آخر )) (19) . هذا الحديث فيه بيان فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنه من كثرة التزامه الصواب لم يجد الشيطان عليه مدخلاً ينفذ إليه منه . قال الحافظ رحمه الله تعالى : (( يفه فضيلة عظيمة لعمر تقتضي أن الشيطان لا سبيل له عليه لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها ، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل لأنه إذا منع من السلوك في طريق فأولى أن لا يلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له فيمكن أن يكون حفظ من الشيطان ، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له لأنها في حق النبي واجبة وفي حق غيره غير ممكنة ووقع في حديث حفصة عند الطبراني في الأوسط بلفظ : (( إن الشيطان لا يلقى عمر منذ أسلم إلا فر لوجهه )) وهذا دال على صلابته في الدين ، واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض .وقال النووي : (( هذا الحديث محمول على ظاهره وأن الشيطان يهرب إذا رآه : وقال عياض : يحتمل أن يكون ذاك على سبيل ضرب المثل وأن عمر فارق سبيل الشيطان وسلك طريق السداد فخالف كل ما يحبه الشيطان )) قال الحافظ (( والأول أولى )) (20) .
6- روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن مسعود قال : (( ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر )) (21) . هذا الحديث تضمن منقبة جليلة لعمر رضي الله عنه لما كان من القوة والجلد في أمر الله قال الحافظ : (( وروى ابن أبي شيبة والطبراني من طريق القاسم بن عبد الرحمن قال : قال عبد الله بن مسعود : (( كان إسلام عمر عزاً ، وهجرته نصراً ، وإمارته رحمة ، والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر )) (22) .
7- روى الشيخان من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب(23) فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له(24) ، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن )) (25) . هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه تضمنها قوله صلى الله عليه وسلم (( فجاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً .. الحديث )) ومعنى : (( استحالت )) صارت وتحولت من الصغر إلى الكبر وأمَّا (( العبقري )) فهو السيد وقيل : الذي ليس فوقه شيء ومعنى (( ضرب الناس بعطن )) أي أرووا إبلهم ثم آووها إلى عطنها وهو الموضع الذي تساق إليه السقي لتستريح وهذا المنام رآه النبي صلى الله عليه وسلم مثال واضح لما جرى للصديق وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما فقد حصل في خلافة الصديق قتال أهل الردة وقطع دابرهم واتساع الإسلام رقم قصر مدة خلافته فقد كانت سنتين وأشهراً فوضع الله فيها البركة ولما حصل فيها من النفع الكثير ولما توفي الصديق خلفه الفاروق فاتسعت رقعة الإسلام في زمنه وتقرر للناس من أحكامه ما لم يقع مثله فكثر انتفاع الناس في خلافة عمر لولها فقد مصر الأمصار ودون الدواوين وكثرت الفتوحات والغنائم … ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : (( فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه )) أي : لم أر سيداً يعمل عمله ويقطع قطعه ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : (( حتى ضرب الناس بعطن )) قال القاضي عياض : ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة وقيل : يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جميعاً لأن بنظرهما وتدبيرهما وقيامهما بمصالح المسلمين تم هذا الأمر (( وضرب الناس بعطن )) . لأن أبا بكر قمع أهل الردة وجمع شمل المسلمين وألفهم وابتدأ الفتوح ومهد الأمور وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما )) (26) . 8- وروى الشيخان بإسنادهما إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر )) (27) . هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة للفاروق رضي الله عنه وقد اختلف العلماء في المراد (( بالمحدَّث )) . فقيل المراد بالمحدث : الملهم . وقيل : من يجري الصواب على لسانه من غير قصد . وقيل : مكلم أي : تكلمه الملائكة بغير نبوة .. بمعنى أنها تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام . وفسره بعضهم بالتفرس )) (28) . قال الحافظ : (( والسبب في تخصيص عمر بالذكر ما وقع له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات )) (29) . وكون عمر رضي الله عنه اختص بهذه المكرمة العظيمة وانفرد بها دون من سواه من الصحابة لا تدل على أنه أفضل من الصديق رضي الله عنه . قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : (( وكان أبو بكر رضي الله عنه أكثر علماً وإيماناً من عمر .. وإن كان عمر – رضي الله عنه – محدثاً كما جاء ي الحديث الصحيح .. فهو رضي الله عنه المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه ، ولكن مزية الصدق الذي هو أكمل متابعة للرسول وعلماً وإيماناً بما جاء به ، درجته فوق درجته فلهذا كان الصديق أفضل الأمة صاحب المتابعة للآثار النبوية ، فهو معلم لعمر ومؤدب للمحدث منهم الذي يكون له من ربه إلهام وخطاب كما كان أبو بكر معلماً لعمر ومؤدباً له حيث قال له : من ربه إلهام وخطاب كما كان أبو بكر معلماً لعمر ومؤدباً له حيث قال له : فأخبرك أنك تدخله هذا العام ؟ قال : لا قال : إنك آتيه ومطوف . فبين له الصديق أن وعد النبي صلى الله عليه وسلم مطلق غير مقيد بوقت ، وكونه سعى في ذلك العام وقصده لا يوجب أن يعني ما أخبر به ، فإنه قد يقصد الشيء ولا يكون ، بل يكون غيره ، إذ ليس من شرط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كما قصده ، بل من تمام نعمة ربه عليه أن يقيده عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده ، كما كان صلح الحديبية أنفع للمؤمنين من دخولهم ذلك العام ، بخلاف خبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه صادق لابد أن يقع ما أخبر به ويتحقق )) (30) .وقال العلامة بن القيم : (( ولا تظن أن تخصيص عمر رضي الله عنه الله عنه بهذا تفضيل له على أبي بكر الصديق بل هذا من أقوى مناقب الصديق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما تلقاه من تحديث أو غيره ، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث فتأمل هذا الموضع وأعطه حثه من المعرفة وتأمل ما فيه من الحكمة البالغة الشهادة لله بأنه الحكيم الخبير )) (31) .
9- روى أبو عبد الله الحاكم في المستدرك والترمذي في سننه والإمام أحمد في المسند بإسنادهم إلى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب )) (32) . هذا الحديث فيه إبانة لفضل الفاروق رضي الله عنه حيث جعل الله تعالى فيه من أوصاف الأنبياء وخلال المرسلين ما يجعله لأن يكون أهلاً للنبوة لو كان هناك نبوة بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن الله تعالى ختم النبوة بمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فلا نبوة بعده إلى يوم القيامة .
10 – وروى البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال : متى الساعة . قال : (( وماذا أعددت لها ؟ )) قال : لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال : (( أنت مع من أحببت )) قال أنس : فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم(33) .هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه تؤخذ من قول أنس بن مالك فإنه قرن الصديق وعمر بالنبي صلى الله عليه وسلم في العمل ولا يعني هذا أن أنساً رضي الله عنه يريد أن يكون في درجة النبي صلى الله عليه وسلم فالدرجات متفاوته وإنما يريد ويرجو أن يكون في الجنة دار الثواب بعيداً عن دار العقاب وكل مؤمن يحبهم يرجو ذلك من الله تعالى .
11- ومن أجل مناقبه رضي الله عنه الله عنه وأعظمها موافقته للقرآن في وقائع متعددة بمعنى أنه كان يرى الرأي فينزل القرآن موافقاً لما رآه رضي الله عنه وأرضاه : فقد روى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى أنس رضي الله عنه الله عنه قال : قال عمر : (( وافق تربي في ثلاث : فقلت : يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت : { واتخذوا من مقام إبراهيم مُصلى} وآية الحجاب قلت : يا رسول لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر فنزلت آية الحجاب(34) واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن : { عسى ربُّه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } فنزلت هذه الآية(35) . وعند مسلم بلفظ : (( وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسرى بدر )) (36) . ووجه موافقته في أسارى بدر أنه لما جيء بهم استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس فيهم فقال : (( إن الله قد أمكنكم منهم )) فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه فقام أبو بكر فقال : نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء فعفا عنهم وقبل منهم الفداء فعفا عنهم فأنزل الله { ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتَّى يثخن(37) في الأرض } إلخ الآيات الثلاث وكانت موافقة لرأي عمر رضي الله عنه الله عنه . وروى الإمام أحمد وغيره بإسناده إلى عمر رضي الله عنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } قال : فدعي عمر رضي الله عنه الله عنه فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في سورة النساء { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى أن لا يقربن الصلاة سكران فدعي عمر رضي الله عنه فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية في المائدة فدعي عمر رضي الله عنه فقرئت عليه فلما بلغ { فهل أنتم منتهون } قال : فقال عمر رضي الله عنه الله عنه انتهينا انتهينا )) (38) . وروى الشيخان من حديث عبد الله بن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله فيأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنما خيرني الله )) فقال : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة } (( وسأزيد على سبعين )) قال : إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله – عز وجل – { ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقمُ على قبره }(39) . فهذه الموافقات كلها مناقب عالية للفاروق رضي الله عنه الله عنه فقد رأى أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى فنزل القرآن بموافقته ، وقد رأى أن تحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن بموافقته ، وقال لنساء النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن عليه في الغيرة : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات }(40) فنزل القرآن بموافقته ، وقد رأى في أسارى بدر أن تضرب أعناقهم فنزل القرآن بموافقته ، وقد رأى تحريم الخمر فكان يقول : (( اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً )) فنزل القرآن بموافقته ، وقد رأى عدم الصلاة على عبد الله بن أبي فإنه لما توفي ابن أبي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه { ولا تُصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره } فكانت موافقة لما كان يراه عمر عدم الصلاة على رأس النفاق فلله ما أعظم هذا الفضل وما أعلا هذه المكانة التي تبوأها الفاروق رضي الله عنه فلقد رزقه الله السداد في الرأي والإصابة في القول فهو رضي الله عنه الله عنه المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه وهو الذي أعز الله به دين الإسلام فرضي الله عنه وأرضاه .
12 – ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه شهيد وتحقق إخباره عليه الصلاة والسلام فقد مات شهيداً على يد الظالم أبي لؤلؤة المجوسي فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فضربه برجله وقال : (( اثبت أحد فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيدان )) (40) .وعند الترمذي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعليٌّ وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد )) (41) . قال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى : (( ولقد أفاد هذا الحديث فائدة عظيمة وهي أن عمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير شهداء كلهم وأن أبا بكر صديق ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي عظيم وقد جمعت هؤلاء الشهداء الشهادة وإن اختلفت أسبابها وتباينت وجوهها ولكن لفهم شرف هذه الصحبة واجتماعهم جملة وأبان جليل مقدارهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم للجيل بالهدوء والسكون لأجلهم شرف من عليه فيا معشر الطالبين لعلم الدين أبعد هذا بيان لمن كان له قلب فما لكم تدخلون بينهم وتتكلمون فيما وقع لهم ، وترجحون وتقدمون وتؤخرون وتحبون وتبغضون كأنكم لا تعلمون مقاديركم ولا تلزمون مواضعكم حتى تترقوا بالجهل والفضول إلى عثمان وعليّ وطلحة والزبير فتتكلمون بالحمية وتتعصبون { أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تبصرون }(42) وقد رجف الجبل بالنبي عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان وقد رجف بهؤلاء الأعيان وقد كان ذلك بمكة وبحراء وقد كان بالمدينة وأحد وأنبأنا الله بالفضل مرتين وأكده وعضد مقدارهم ومهده في جبلين )) اهـ(43) .
13 – ومن مناقبه العظيمة رضي الله عنه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة فعمر رضي الله عنه من أهل الجنة قطعاً . فقد روى البخاري في صحيحة من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة فجاء رجل فاستفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( افتح له وبشره بالجنة )) ففتحت له فإذا هو أبو بكر فبشرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم : فحمد الله ، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( افتح له وبشره بالجنة )) ففتحت له فإذا هو عمر فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم : فحمد الله ، ثم استفتح رجل فقال لي : (( افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه )) فإذا عثمان فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله ثم قال : الله المستعان(44) .
14 – ومن مناقبه الحميدة رضي الله عنه ما جاء من الثناء عليه من فضلاء الصحابة حياً وميتاً ورضا الجميع عنه ومن ذلك : ما روى البخاري بإسناده إلى المسور بن مخرمة قال : لما طعن عمر جعل يألم فقال له ابن عباس وكأنه يجزعه : يا أمير المؤمنين ولئن كان ذلك لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض عنك راض ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون قال : أمَّا ما ذكرت من صُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك منّ من الله – تعالى – منّ به علي ، وأمّا ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منّ من الله – جل ذكره – منّ به علي . وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك والله لو أن لي طلاع(45) الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله – عز وجل – قبل أن أراه )) (46) . وفي هذا بيان فضل عظيم لعمر رضي الله عنه يؤخذ من قول ابن عباس : لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله : أمَّا ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن له بهذا فضلاً عظيماً حيث أنه سحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفارقه وهو عنه راض وكذلك كان مع أبي بكر وبقية الصحابة جميعاً ومع ما كان عليه من هذه السيرة الحسنة فإنه رضي الله عنه لحق بالرفيق الأعلى والخوف غالب عليه من خشية التقصير في حقوق الرعية وهكذا المؤمن كامل الإيمان يجمع بين الخوف والإحسان . وروى الشيخان من حديث ابن أبي مليكة قال : سمعت ابن عباس يقول : وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه(47) الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قيل أن يرفع وأنا فيهم قال : فلم يرعني(48) إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إلأيه فإذا هو عليٌّ فترحم على عمر ، وقال : ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل علمه منك وإيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذاك أني كنت أكثر ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر )) فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما(49) . هذا الحديث دل على فضيلة أبي بكر وعمر وشهادة عليّ لهما وحسن ثنائه عليهما وصدق ما كان يظنه بعمر قبل وفاته رضي الله عنهم أجمعين . تلك طائفة من الأحاديث النبوية والآثار التي تضمنت مناقب عالية للفاروق وكلها أدلة قطعية يقينية دلت على أن الفاروق أفضل الناس بعد أبي بكر الصديق وه ما تعتقده الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة ، وهو ما يجب على المسلم اعتقاده في ثاني الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين .

بحث سريع